إذا كان المثل الشهير القائل: "تعريصة الغني وموتة الفقير.." قد تحدّث عن معايير نشر، بالأحرى عدم نشر، حالات يعتبرها العُرف السائد داخل أسوار المحظور، او خارج حدود الاهتمام؛ وإذا كان يمكن قراءة هذا المثل في سياق ما يتضمنه من حظر ومنع وشطب وتعتيم واختزال لما يُفترض أن يعرفه الجمهور؛ وإذا كانت المقولات الشعبية عامةً تشكل مفاتيح ثمينة لمعرفة ما يختبئ خلف الأبواب من سياسات تفرزها صراعات القوى في المجتمع؛ إذا كانت هذه الافتراضات معقولة- فيجب البحث عن مكان في المثل السالف لـ"مرض القوي". فهو أيضًا يقع في باب الممنوع من التداول، سوى في الحالات الاضطرارية.
أحد أساتذتي الجامعيين كان تناول في درس حول "السياسة، الأخلاق والايديولوجيا" مسألة حرص القادة السياسيين على الظهور بمظهر القوّة المجرّدة من "الضعف الإنساني العادي"، ومن ضمن هذا إخفاء كل المعلومات الممكنة بشأن مشاكلهم الصحية. واعتبر أن الملف الصحي للسياسي قد لا يختلف عن أكثر الملفات الأمنية حساسية، من حيث التكتـّم عليه. وقد سألته يومها عن حالات مناقضة يتم فيها تحويل اعتلال الزعيم الى بؤرة جذب للتماثل الشعبي والتعاطف والرحمة. وكنا يومها نشهد كرنفالا تلفزيونيًا في مركزه مرض ملك عربي، إذ توافدت الأنباء عن "قلق العائلة الواحدة" (يعني المواطنين!) على القائد، و"إعلانات تجديد البيعة" و"توافـُد برقيات تتمنى الشفاء العاجل والصحة الموفورة" لجلالته، وقـّعتها أحزاب ومؤسسات ونقابات وعشائر وقبائل وحتى إدارات بنوك وشركات عقارات وتأمينات أيضًا.
إحدى الفرضيات هي أن الأنظمة غير المنتخبة تميل أكثر من غيرها الى رفع مكانة الزعيم المريض الى درجة "والد جماعي" وتسويق ضعفه الراهن لاستثارة الأحاسيس واستدرار العواطف، والتحايل على العقول بالتالي؛ أما لو كان ملكـًا فهو بالطبع سيجسّد بشخصه الكريم "تاريخ وماضي وآمال وأحلام هذا الشعب". فالملك، ويا للعجب، يقع خارج محدوديات وأزمان التاريخ بل إن التاريخ نفسه هو مجرد شيء مشتَقّ منه. وهنا، يصبح أقلّ تشويش محتمل في انضباط دقات قلبه الكبير مهدّدًا باندثار الأمة برمـّتها ليس في الحاضر فحسب، بل إن ماضيها أيضًا سيتكوم ركامًا أمام العيون المترقـّبة.
مع ذلك، فإن الأنظمة جميعها، من جاء منها ليتربع فوق صدور الناس بقوّة الذراع، أو هيمنة الدولار، أو سطوة الدين، أو شطارة واضعي الحملات الإعلامية – التسويقية، لا تميل الى كشف الحالة الصحية للزعيم إلا عندما لا يعود التكتـّم عليها ممكنـًا. كأن يتم مثلاً إدخاله المستشفى لأيام طويلة، او تسفيره للعلاج في الخارج، أو عندما يرتفع اللغط ويتسرّب من الطوابق العليا الخائفة على مصائرها. في هذه المرحلة، وفقًا للفرضية، تبدأ الفروقات بين الأنظمة بالظهور.
قد يدعي أحدهم أن "الأنظمة الديمقراطية تنقل المعلومات للمواطنين حتى يتمكنوا من اتخاذ قرار بخصوص وضع القائد، بينما ينزع سواها من الأنظمة الى استدرار العواطف". بالمناسبة، هكذا أجمع معظم زميلاتي وزملائي في الحصة المذكورة أعلاه، لكن الأمر لم يقنعني. ولو كانت هناك فرصة للاجتماع بهم ثانية اليوم وبحث مرض أريئيل شارون، لكنت سأقترح عليهم مناقشة التناقض التالي: شارون هو قائد منتخب مريض، والصحافة توفر المعلومات عنه الى درجة الإسفاف، مع ذلك فإن التوجّه الطاغي يلائم ما تنتجه الممالك لدى "رعاياها". لاحظوا تردُّد المقولات التالية بكثافة: "شارون يبقى ملك اسرائيل"/ "شارون هو والدنا جميعًا، ولن يظهر له مثيل قريبًا"/ "شارون لا تذهب، سأكون حزينة لو ذهبت"/ "ليت لمسة سحرية ما تساعد أريك"/ "لا يوجد سوى والد واحد، لدينا شارون واحد فقط، انا أصلـّي لأجله" – وهي مقولات مأخوذة من بحر تعقيبات لمواطنين.
باعتقادي أننا أمام حالة يتصرّف فيها من يـُفترض أنهم مواطنون، كرعايا في حضرة الأب/ الملك. فقد وصل شارون للحكم عبر الانتخابات لكن معظم منتخبيه (وقسم كبير ممن لم ينتخبه أيضًا) يسلكون انطلاقًا من ثقافة سياسية لا تمت للديمقراطيات بأية صلة. فلا يوجد أي تناول لمضامين طروحات شارون، ليس من المواطن العادي فحسب، بل أيضًا من الإعلاميين والسياسيين بغالبيتهم الساحقة، وهذا باسم "وجوب الترفـّع عن السياسة الآن".. ولا أدري ماذا سيظل من المسألة برمتها لو ترفـّع الجميع عن السياسة إزاء تدهور صحة سياسي من شأنها تغيير معالم المشهد السياسي. لأنه عندها- في غياب السياسة- يُفترض منطقيًا التعامل معه فقط كمسن في الثامنة والسبعين يتـّسم بدنه بالسمنة المفرطة وقد ألمت به مشاكل طبية معقدة لا تثير الاستغراب، بل إنها متوقعة جدًا في حالته.
لا أدري أي وصف يلائم هذا النوع من الديمقراطيات، التي تنطلق من إجماع لا يقوم على مواطنة المواطنين بل على نوع من الوحدة الغيبية الميتافيزيقية التي تتجاوز مجموعة المسائل العامة الراهنة، والطروحات السياسية، وحتى محدوديّات البيولوجيا ("شارون سيفاجئ الجميع ويعود الى الحكم"- وعد أحدهم نفسه والجمهور العام ضاربًا عرض الحائط بالعارض الطبي الخطير المسمى "جلطة جديّة").
كان البعض أشار بحق الى أن رحيل شارون (ما يهمنا طبعًا هو المفهوم السياسي للرحيل) يشكل غيابًا لجيل "الآباء المؤسسين" وبدءًا للتعاطي مع السياسة والسياسيين بمفردات وأدوات ومعايير السياسة، وليس بمفاهيم الأبوّة والبنوّة الفضفاضة التي تتيح للناخب التنازل عن مسؤوليته عن مصيره "لأن أريك يعرف ما يجب القيام به". ومن يعلم، فقد يبدأ الإسرائيليون الآن بفهم ما يـُفترض أن يفهمه طلاب الرابع ابتدائي: لو أنك أخذت ميزانية وحوّلت معظمها للحرب والاحتلال والمستوطنات، وقلـّصت من التعليم والصحة والخدمات، فسيتعمـّق بالضرورة الفقر والبطالة والمس بحق الناس في العيش بكرامة.. ولكن حتى اليوم، منذ أن قررت إسرائيل استعادة الآباء لقيادة الدفـّة بعد فشل "الشباب الواعد"، من أمثال ايهود باراك وسابقه بنيامين نتنياهو، في تدبير الأمور ازاء "الوقاحة الفلسطينية المتمرّدة"، لا تزال تعجز غالبية الإسرائيليين عن فك طلاسم هذه المعادلة الحسابية البسيطة. لماذا؟ "لأننا نتـّكل على أريك"!
المؤرخ داني غوتفاين كتب تحت عنوان "بابا أريك" ما يلي: "من داخل الشعور بانعدام الأمن الاجتماعي وانهيار كل قواعد اللعبة في المجتمع الاسرائيلي وُلد الحنين اليائس الى شخصية تـُدخل بعض النظام الى حياتنا، ولا يهم بالمرة ما هو جوهر هذا النظام. وبالطبع فإن هذا هو النجاح الكبير لثورة الخصخصة: نجاحها في تدمير أمن الاسرائيليين الاجتماعي، وجعلهم متعلقين بفظاظة قلب رأس المال وممثليه السياسيين".
لقد قدّم هذا المؤرخ صورة جزئية ثاقبة، لكنه لم يعرض المشهد برمـّته. فما يقدّمه كمسبـّب في السجود لشخصية شارون القوية (أي: انهيار الأمان الاجتماعي)، يشكـّل بحد ذاته نتيجة لمسبـّب أعمق منه يستدعي البحث.
فالمعطيات تفيد أن الاحتلال الإسرائيلي ظلّ "مشروعًا مربحًا" إلى أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. حتى ذلك الحين، كانت إسرائيل تجني المليارات من الاحتلال، دون أن تضطر لتمويله من جيوب مواطنيها. فمثلا، كانت أرباح مشروع الاحتلال لا تقدّر بثمن من حيث نهب مياه الضفة الغربية المحتلة. وقد ابتلعت ميزانية إسرائيل حوالي 25 مليار شيكل بين 1970 و1987 من الضرائب الجمركية على البضائع التي تصل الى المناطق المحتلة من الخارج. وفي الثمانينيات جعلت إسرائيل من السوق الفلسطينية الخاضعة لاحتلالها ثاني كبريات اسواق صادراتها. ووصل حجم المقتطعات من ضرائب الضمان الاجتماعي المفروضة على العمال الفلسطينيين داخل إسرائيل حتى مطلع التسعينيات الى المليار وربع المليار شيكل، دون تمكين هؤلاء العمال من الاستفادة الفعلية مما اقتـُطع من أجورهم، ناهيك عن تشغيلهم بأجور زهيدة.
بالمقابل، فإن مشروع الاستيطان الاستعماري امتص حوالي 45 مليار شيكل من الميزانية حتى العام 2003. ومنذ الانتفاضة الأولى بلغ مجموع الزيادات على الميزانية العسكرية 29 مليار شيكل، ولا يشمل هذا ميزانية الشرطة.. اما جدار الفصل العنصري الذي جاء لتعميق انفصال إسرائيل عن التفاوض السياسي واستبداله بالحلول الأحادية المتعجرفة الفاشلة، فقد كلـّفها 3,5 مليار شيكل بين السنوات 2003 و2005. وبلغ مجموع التعويضات من ميزانية الدولة للمصابين الإسرائيليين في الانتفاضتين مليار شيكل، وهو ما لا يشمل قيمة التعويضات عن الممتلكات المتضرّرة (باصات، مطاعم، محلات في الأسواق). وبلغت خسارة الناتج القومي الإجمالي بين سنة 2000 حين اندلعت الانتفاضة الثانية و2004 ما يقارب الـ55 مليار شيكل، بسبب ارتفاع نسبة البطالة وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتراجع عدد السياح بين 2000 و 2002 بمليون و 800 ألف سائح، والركود وغيرها.
فمن أين جاءت إسرائيل بالأموال لتغطية تكاليف الاحتلال بعد اندلاع غضب الفلسطينيين انتفاضًا؟ هل قطفتها عن الشجر؟ لا!
الإجابة تكمن في معطى بارد قاسٍ وواضح؛ فقد بلغ حجم التقليصات في الميزانية بعد الانتفاضة الثانية وحدها، مبلغ 60 مليار شيكل. ومن أين تم اقتطاعه؟ من جيوب الإسرائيليين ابناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة - أي من جيوب نفس ذارفي الدموع على "بابا أريك".
إنه الاحتلال. إنها الجريمة الكبرى الثانية عام 1967 بعد جريمة 1948. وهو المسبّب العميق لنفس المصائب التي هرب منها الإسرائيليون، للاحتماء تحت جناحي من كانت له اليد الطولى بالتسبـًّب بهذه المصائب نفسها.. احتلال يعتمل كوحش خرافي يضرب بأذرعه الى كل اتجاه، من عمق أوحال مستنقع الاحتلال الإسرائيلي، فتتلطّخ أظافره البشعة بدماء مختلف الضحايا من فلسطينيين وفقراء الإسرائيليين: من صرعه صاروخ، من أصابه رصاص قناص، من كتم أنفاسه جدار، من خنقته الديون، من دفنته عتمة اليأس، من جرى تجريده من العيش بكرامة كما يـُسلخ اللحم عن الذبيحة، وكل من لا ينتمي الى نادي البطش الإسرائيلي المغرور. إنه مستنقع الموت الذي طالما لم يتم تجفيفه، فستظل أطراف الوحش التي تطلّ من عمقه تضرب وتدمـّر بمخالبها المسننة مداميك جديدة في المبنى الاجتماعي الإسرائيلي.. وإزاء ما نشهده حتى الآن، فإن إحدى المآسي هي أن القبيلة الإسرائيلية تختار مواصلة السجود بالذات لمن ساهم أكثر شيء في تربية هذا الوحش القاتل. فمتى تشرق العقول خلف صيحات الرثاء والنحيب والبكاء على هذا "الوالد" الذي افترست أفعاله "أبناءه"؟