منذ بدايته، ارتهن نجاح المشروع الصهيوني بقدرته على التغلب على تنوع التواريخ والهويات اليهودية، ومصالح الجاليات اليهودية المتنوعة، كمواطنين في >بلادهم< وكمقيمين في الكون. التزمت التربية الصهيونية بتذويت عنفي لشخص جديد وهوية جمعية: اليهودي الجديد. إن على الصهيونية إسكات الاختلافات وبناء رواية موحدة، فريدة من نوعها، ومترابطة يمكنها تدمير أو ابتلاع التواريخ اليهودية والهويات والمعرفة والمصالح والمثل المحلية المتنوعة التي كانت غير مثمرة بالنسبة للمشروع الصهيوني، أو حتى تنفيه أو تهدده بشكل واضح.
بدأت اسرائيل منتصف شهر حزيران 2002، بناء سياج لتفصل نفسها فيزيائياً عن الضفة الغربية. من بين اصدقائي في اليسار الاسرائيلي، هناك من تلقف هذا الخبر بحماس شديد. هؤلاء هم الأصدقاء أنفسهم الذين كانوا مقتنعين أن مسيرة أوسلو سوف تؤدي لا محالة إلى سلام شامل ودائم. والآن ها هُم يعبرون عن فرحهم لأنهم يعتقدون أن هذا الفصل في الخطوة الأولى سيقود إلى خلق دولة فلسطينية مستقلة. من وجهة نظرهم، فان السياج سوف يكون علامة الحدود المستقبلية بين اسرائيل وفلسطين.
محاولة اخرى لتقصي ملامح ظاهرة ثقافية لافتة للنظر في منطقتنا، أخذت ملامحها تتشكل أمامنا بوضوح في العقدين الأخيرين وبوتيرة متصاعدة، وتتحول بذاتها إلى قضية ثقافية مهمة. تلك هي ظاهرة الترجمة على “خط التماس”، التي تحاول، بوضوح، “هندسة” الوعي بالآخر من خلال ما يُترجَم له وعنه من نصوص، كما بدت في التجربة الاسرائيلية - العربية بكثير من اللبس والبلبلة (الآثمة و “البريئة” على السواء)، على مدار عشرات السنين!
أخذ الأدب المختص في حل النزاعات يقبل بالتمييز بين تسوية النزاعات، وبين المصالحة، بإعتبارهما عمليتين تختلفان في طبيعتهما وتقودان الى تحقيق أهداف مختلفة في المفاوضات بين أطراف إثنية وقومية موجودة في صراع فيما بينها. والمصالحة مصطلح جديد نسبيا شائع في الخطاب السياسي، أخذ يصبح موضوع إهتمام من جانب الباحثين. وجاء إتساع دائرة إستعماله أساسا بفعل التطورات كبيرة الأثر على الساحة الدولية، والتي طرحت قضايا العدل ومحاسبة النفس تاريخيا في صلب جدول الأعمال الإجتماعي في بلدان كثيرة ورفعت مستوى الإدراك الدولي لأهمية حل النزاعات الإثنية..
الصفحة 21 من 22