المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

حزب "العمل" يواجه تراجعا حادا في قوته منذ سنوات وقد خسر كليا مكانة "الحزب الكبير" * الأسباب عديدة منها ما هو سياسي وجوهري، لكن هناك أسباب مميزة له مرتبطة بشكل نموه واحتكاره السلطة في العقود الثلاثة الأولى لإسرائيل * لم يعد حزب "العمل" حزب المؤسسات، واختفت منه التيارات السياسية، إلى جانب اختفاء البرنامج السياسي ووضوح الرؤية

حزب "العمل" يواجه تراجعا حادا في قوته منذ سنوات وقد خسر كليا مكانة "الحزب الكبير" * الأسباب عديدة منها ما هو سياسي وجوهري، لكن هناك أسباب مميزة له مرتبطة بشكل نموه واحتكاره السلطة في العقود الثلاثة الأولى لإسرائيل * لم يعد حزب "العمل" حزب المؤسسات، واختفت منه التيارات السياسية، إلى جانب اختفاء البرنامج السياسي ووضوح الرؤية

تبقى الميزة الأساسية لحزب "العمل" الإسرائيلي هي أن استعراض تاريخه هو أيضا جزء هام من تاريخ إسرائيل، بمراحلها المختلفة، وهذا عدا عن كونه "الحزب المؤسس" لإسرائيل والذي حكمها بشكل شبه انفرادي في السنوات التسع والعشرين الأولى، وقد رسخ الكثير من السياسات الجوهرية لإسرائيل، التي منها ما زال قائما حتى اليوم.

وبحسب المفاهيم الإسرائيلية ومفاهيم الحركة الصهيونية، التي تبناها القاموس السياسي العالمي نوعا ما، فإن حزب "العمل" مُعرّف على أنه حزب "اليسار الصهيوني"، كونه كان عضوا في منظومة "الاشتراكية الدولية"، إلا أن نهجه في كل المراحل وفي جميع الاتجاهات الداخلية والخارجية، والسياسية والاقتصادية، لم يعكس أبدا المفهوم العالمي لليسار.

ففي ظل حكمه خاضت إسرائيل كافة الحروب الاحتلالية، التي احتلت فيها أراضي من الدول العربية وما تبقى من فلسطين، باستثناء الحرب على لبنان في العام 1982، التي كانت في فترة حكم "الليكود"، وبدعم حزب "العمل" المعارض في حينه.

كذلك فإن حكومات حزب "العمل" (مباي سابقا) فرضت منذ البدايات أسس سياسة التمييز العنصري، ليس تجاه المواطنين العرب الفلسطينيين فحسب، رغم أنهم أول المستهدفين، بل وأيضا تجاه اليهود المهاجرين إلى إسرائيل من الدول العربية والشرقية. وهذه السياسة التي ما تزال آثارها راسخة في داخل الشارع والمؤسسة الإسرائيلية ككل، تشكل خلفية هامة في الصراعات الطائفية بين اليهود الأشكناز (الغربيين) والسفاراديم (الشرقيين) والتي ما تزال تعلو وتخبو ثم تعود لتعلو من حين إلى آخر.

في السنوات الأخيرة، وبالأخص بعد كل انتخابات تلت العام 1992، تلقى حزب "العمل" ضربة مؤلمه في وزنه الانتخابي ومن ثم السياسي، بما في ذلك انتخابات العام 1999 التي وصل فيها إلى الحكم، ولكن مع كتلة برلمانية هزيلة مؤلفة من 26 نائبا، وهي نتيجة كان لها دور في سرعة خسارته رئاسة الحكومة بعد 20 شهرا من الانتخابات، لصالح حزب "الليكود" ورئيسه في حينه أريئيل شارون.

كثيرة هي الأسباب التي بالإمكان عرضها لنشوء كل حزب وتوسعه وانهياره، منها السياسية والاجتماعية وطبيعة الحزب وغيرها، إلا أن لحزب "العمل" أسبابا ذات خصوصية كبيرة، مرتبطة أيضا بشكل نهجه في بدايات إسرائيل وما بعدها، وكان لها دور هام في انهيار الحزب، إلى جانب أسباب جوهرية أخرى.

سنحاول في هذه المعالجة شرح الجانب الخاص في انهيار حزب "العمل"، وهو التغيرات في تركيبة وبنية هذا الحزب وانعكاسها على مستوى القرار والنهج السياسي العام.

بدايات

حين نقول إن حزب "العمل" بتسمياته المختلفة، من "مباي" (عمال أرض إسرائيل) إلى "معراخ" (التجمع) ثم إلى "العمل" حاليا، انفرد في الحكم في السنوات التسع والعشرين الأولى، فإن هذا يعود لكونه منذ الانتخابات الأولى وحتى الثامنة، التي جرت في اليوم الأخير من العام 1973، كان يسيطر هو والأحزاب التي تدور في فلكه على الغالبية المطلقة من مقاعد الكنيست الـ 120.

فمن المعروف أن حزب "مباي" كانت له عدة قوائم وكتل برلمانية، فأولا الحزب الأساسي الكتلة الأكبر، ثم حزب "مبام" ولاحقا حزب "أحدوت هعفودا" المنشق عن "مباي"، وقوائم عربية مرتبطة كليا بحزب "العمل"، ولهذا فإن تشكيل الحكومة من قبل حزب "مباي" كان تلقائيا، في الدورات البرلمانية الثماني الأولى التي انتهت في خريف العام 1977، وانضمام كتل أخرى له كان هو أيضا تحصيل حاصل، مثل كتلة "المفدال" الدينية الصهيونية، وكتل اليهود الأصوليين (الحريديم).

وهذا الحجم السياسي، مقابل عدم وجود كتلة موازية من وزنه، سمح لهذا الحزب بالانفراد ليس فقط في الحكم، بل أيضا في بناء جميع مؤسسات الدولة. وكان سائدا أن المناصب الرفيعة، والمسؤوليات الكبيرة، كانت من نصيب أعضاء الحزب أو المقربين منه، وهذا شمل أيضا الجيش، فليس صدفة أن حزب "العمل" كان يُلقب على مدى سنوات بـ "حزب الجنرالات"، لأن الغالبية الساحقة جدا من كبار الضباط، من رؤساء هيئة أركان أو أولئك الذين انهوا عملهم برتب لواء وعميد وعقيد، كانوا ينضمون إلى حزب "العمل" في حال اختاروا التوجه إلى العمل السياسي.

والمؤسسة الأكبر التي احتكرها حزب "العمل" على مدى عشرات السنوات كانت اتحاد النقابات، "الهستدروت"، الذي سيكون له حصة كبيرة في هذه المعالجة، لأنه كان الساحة الخلفية، وحتى المركزية، في حياة هذا الحزب.

إلى ذلك فإن الغالبية الساحقة جدا من القرى التعاونية، بنوعيها "الكيبوتسات" و"الموشافيم"، كانت تابعة لحزب "العمل" وحزب "مبام" الذي تحرك على مدى 40 عاما في ظل حزب "مباي"- "المعراخ".

والانطباع الذي ساد على مدى عشرات السنين، وهو أن اللجوء إلى حزب "العمل" هو المفتاح للوصول إلى وظائف الدولة والمؤسسات الرسمية والنقابية وغيرها، منح الحزب جماهيرية واسعة، ولكنها كانت جماهيرية مصالح، والتقاء مصالح بين قطاعات مختلفة، خاصة إذا التفتنا إلى حقيقة أن اتحاد النقابات "الهستدروت"، كان يسيطر على 30% من الاقتصاد الإسرائيلي مباشرة، إضافة إلى أن القرى التعاونية كانت القطاع الزراعي الأكبر في إسرائيل، وكانت هي أيضا مكان عمل لعشرات الآلاف من خارج هذه القرى، التي تبنت نموذج القرى التعاونية في الاتحاد السوفييتي: "السوفخوز" و"الكولخوز".

أي أن قبضة اليد الأساسية لحزب "العمل" كانت محكمة ليس فقط على الأجهزة السياسية والعسكرية والأمنية، بل أيضا على الاقتصاد، ليكون الحزب عنوانا هاما ومقررا في سوق العمل ومكان العمل، وهذا كان عنصرا أساسيا وهاما في توسع الحزب.

لكن من جهة أخرى فإن هذه الجماهيرية الواسعة للحزب سمحت أيضا بتنوع في النشاط السياسي في داخله، رغم أنه كان محكوما لنظام داخلي هرمي، تسيطر فيه مجموعة صغيرة على كافة مجريات وحياة الحزب، تدعى "لجنة الترتيبات"، حسب الترجمة الحرفية للمصطلح الذي أطلق على هذه المجموعة المسيطرة.

وهذا التنوع السياسي سمح لتيارات سياسية مختلفة أن تسبح داخل مؤسسات الحزب. ولهذا كنا نرى تيار "الصقور"، الذي كان يتميز بمواقف يمينية واضحة، ومنه كان قادة الحزب التاريخيون، وفي المقابل، وبحجم محدود، كانت تيارات ذات توجهات أقرب لليسار، مثل تيار أو جناح "الحمائم"، وفي هذا التيار من كان مشاركا في إقامة حركة "السلام الآن"، التي ضمت نشيطي عدة أحزاب وأطر سياسية مختلفة، وحتى كانوا مشاركين في تشكيل حركات وجمعيات ذات توجه سلامي.

وقد ساعد "جناح الحمائم" على إضفاء طابع ما على حزب "العمل"، وكأنه أقرب لمعسكر السلام. وهذا الطابع تعزز في مطلع سنوات التسعين، بعد أن نجحت انتفاضة الحجر الفلسطينية في اختراق الشارع الإسرائيلي بقوة، وفي إحداث انقلابات في التوجهات السياسية، ولهذا رأينا "العمل" يغادر حكومة "الوحدة القومية" التي كان فيها شريكا لحزب "الليكود"، بعد ست سنوات من هذه الوحدة في حكومتين، بسبب عدم تجاوب "الليكود" مع التوجهات الدولية وخاصة الأميركية، من أجل عقد مؤتمر السلام الدولي في مدريد في خريف العام 1991.

وقد ساهم حَشر حزب "العمل" في خانة اليسار الإسرائيلي، في تلك الفترة، في عودته إلى سدة الحكم في ربيع العام 1992، في ظل حالة برلمانية غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل، كانت فيها الكتلتان اللتان تمثلان الجماهير العربية في إسرائيل بيضة القبان، وهما كتلة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وكتلة الحزب الديمقراطي العربي، وقد منعتا إقامة حكومة برئاسة "الليكود"، ولكنهما لم تنضما إلى الحكومة.

ضربة العام 1977

ولدى العودة إلى الخلف، لا يمكن الحديث عن التغيرات اللاحقة في مؤسسات حزب "العمل" بدون التوقف عند الانتخابات البرلمانية في العام 1977، التي أطاحت لأول مرّة في تاريخ إسرائيل بحزب "العمل" عن الحكم، ليتولى مكانه حزب "الليكود" المتبلور قبل ذلك بأربع سنوات، وعموده الفقري حزب "حيروت" اليميني المتشدد برئاسة مناحيم بيغن.

فهذه الانتخابات جرت بعد ثلاث سنوات من صدور التقرير الرسمي حول مجريات حرب أكتوبر 1973، والذي حمّل حكومة غولدا مئير مسؤولية مباشرة عن الفشل الذي حصل، وانعكس في حجم الخسائر البشرية وتحرير القليل من الأراضي العربية في هضبة الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية.

وأيضا بعد الكشف عن فضائح متعلقة بفساد النظام، مثل ورطة رئيس الحكومة في حينه إسحاق رابين، الذي تبين أن لزوجته حسابا بنكيا بالدولار خارج إسرائيل وهو ما خالف القانون الإسرائيلي الذي كان معمولا به في حينه، وغير ذلك من القضايا.

لكن الجانب الأهم في أسباب نتائج تلك الانتخابات هو أن سنوات السبعين شكلت تبلورا نهائيا لجيل ما بعد الخمسينيات بالنسبة لليهود الشرقيين، وجيل ما بعد النكبة بالنسبة للعرب، وكلاهما جيلان تمردا، كل من ناحيته، على الواقع الذي فرض على مجتمعيهما.

فحزب "العمل" رسخ سياسة التمييز ضد اليهود الشرقيين، الذين هاجروا بأعداد هائلة في سنوات الخمسين، وعائلات بأكملها نمت أطفالها في مجتمع غربي يتوجه لها بنظرة فوقية استعلائية، في حين أن عائلات الجيل الناشئ كانت ضعيفة اقتصاديا، ومستواها العلمي والثقافي متدن، كونها خرجت من دول كانت ما تزال تخضع للاستعمار، أو متحررة لتوها منه.

ومرور عشرين عاما على موجات الهجرة تلك، كان كفيلا بتنمية جيل يسعى للتمرد على السلطة التي تميز ضده، وتتمثل بحزب "المعراخ" (العمل)، ولهذا كان طبيعيا أن يلجأ هذا الجيل إلى الحزب المنافس اليميني المتشدد، بحسب المقاييس الإسرائيلية، "حيروت"، الذي شكل لاحقا "الليكود".

فقد أتقن حزب "حيروت" استيعاب هذا الجيل الناشئ من اليهود الشرقيين، بشكل ما كان ممكنا أن يكون في حزب "النخبة" الأشكنازي، "المعراخ"، لنسمع مثلا أن شبانا في مقتبل العمر تولوا رئاسة مجالس قروية وبلدية ومناصب رفيعة، نذكر منهم مئير شيطريت (عضو الكنيست حاليا) المولود في المغرب العربي، الذي انتخب في العام 1974 حين كان ابن 26 عاما رئيسا لبلدية يفنه، وموشيه كتساب (لاحقا رئيس الدولة) المولود في إيران، وحين كان ابن 24 عاما، العام 1969، انتخب لرئاسة مجلس بلدي كريات ملاخي، وأيضا دافيد ليفي، عامل البناء ومن ثم المقاول، ابن عائلة محدودة الإمكانيات، المولود في المغرب العربي العام 1937، الذي وجد نفسه حين كان ابن 32 عاما عضو كنيست عن حزب "حيروت"، والقائمة تطول.

لكن هذه الضربة التي تلقاها "العمل" لم تكن قاصمة إلى هذا الحد، لأن جميع موارد قوته المؤسساتية بقيت قائمة، وهذا ما جعله في العام 1981 على وشك أن يسترجع السلطة، وفي العام 1984 تقاسم السلطة مع حزب "الليكود"، وفي العام 1989 واصل هذه الشراكة لعامين، ليعود إلى رئاسة الحكومة في العام 1992.

بدايات التراجع

من أجل الدقة نكرر أن الأسباب التي أدت إلى التراجع المستمر في قوة حزب "العمل" كثيرة، ومنها أسباب سياسية جوهرية وأساسية، ولكن هذه المعالجة تركز في الجانب البنيوي على وجه التحديد، بدون التقليل إطلاقا من باقي الأسباب الأخرى.

حتى مطلع سنوات التسعين شهد العالم الكثير من المتغيرات السياسية والاقتصادية، وتطورت مفاهيم الديمقراطية، في شتى النواحي، ورأت مجموعات في داخل حزب "العمل" أنها في فترة اصطفافات سياسية جديدة في الشارع الإسرائيلي تستقطب أجيالا شابة، ومن أبرزها في تلك المرحلة تبلور حركة ميرتس، التي ضمت ثلاثة أحزاب، "راتس" المنشقة عن حزب "العمل" منذ سنوات السبعين، وتنامت لاحقا بفعل انتشار التوجهات اليسارية الصهيونية، وحزب "مبام" الحليف التاريخي لحزب "العمل"، وحزب "شينوي" وهو صاحب توجهات وسطية.

ولهذا اتسعت المطالبة في داخل "العمل" بوقف النهج القائم في الحزب في اختيار قياداته، من خلال "لجنة الترتيبات"، وكان الحزب الأول في إسرائيل الذي اتجه نحو فتح أبواب الانتسابات العابرة للحزب من أجل اختيار ممثليه في الكنيست، عبر طريقة "البرايمرز" الأميركية، وهذا ضخ روحا وحياة جديدة في الحزب، ولكن في نفس الوقت ساهم في ضعضعة مؤسسات الحزب، التي كان يتميز بها "العمل" دائما.

ومن ناحية أخرى فإنه حصلت الكثير من التطورات والتغيرات الاقتصادية العالمية والمحلية، التي كشفت أكثر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت باتحاد النقابات "الهستدروت"، وبمجمع شركاته الاقتصادية، التي كانت تسيطر على 30% من الاقتصاد الإسرائيلي، ومن بينها مثلا أكبر بنك في إسرائيل، "هبوعليم"، وأكبر شبكة عيادات مرضى، "صندوق المرضى العام"، وشركات نسيج وصناعة، وشبكات تسويق مثل "هيبر ماركت" و"همشبير" وغيرها.

وهذه الشركات والمرافق الاقتصادية كان حالها التنظيمي الداخلي ليس بأفضل من بنية الهستدروت البيروقراطية المترهلة، وقد داهمتها التطورات الاقتصادية العالمية والمحلية، بشكل لم يجعلها ذات قدرة على مواجهة قواعد المنافسة التجارية الجديدة في السوق، مما أغرقها هي أيضا بأزمة مالية خانقة.

هذه الأزمة، التي وصلت إلى شفا انهيار الشركات الضخمة، كشفت أكثر طابع القيادة المتعفنة في داخل الهستدروت، وبدا أن حزب "العمل" على وشك أن يفقد قيادة الهستدروت، في انتخابات العام 1994.

في ذلك العام شهد حزب "العمل" انشقاقا، وهناك من يعتقد حتى الآن أنه كان مفبركا في جوهره، بقيادة عضو الكنيست في حينه حاييم رامون، رغم أنه لم يكن ذا خلفية نقابية، والى جانبه عمير بيرتس، ابن أحياء الفقر في جنوب البلاد. وخاض هذا الجناح، المنشق على المستوى النقابي فقط، الانتخابات الهستدروتية في ذلك العام، وأحدث انقلابا في قيادة الهستدروت، وأطاح بالقيادة التقليدية للهستدروت.

وسارع رامون كرئيس للهستدروت إلى اتخاذ سلسلة خطوات، تحت شعار "إخراج الهستدروت من أزمته المالية" بتصفية أملاكه وشركاته، مما قلل من قوته ومكانته الاقتصادية والسياسية التاريخية.

ولكن قبل هذا، كان رامون قد شغل في حكومة إسحاق رابين منصب وزير الصحة، وقاد سن قانون الصحة الجديد في حينه، الذي من نتائجه تغيير مكانة صناديق المرضى وشكل الانتساب لها، وفيما يخص الهستدروت كان الانتساب لاتحاد النقابات تلقائيا بالانتساب إلى شبكة عيادات صندوق المرضى التابع له، وكان 70% من الجمهور في إسرائيل منتسبا لهذه الشبكة، وبذلك كان هذا الجمهور الواسع هو أيضا صاحب حق اقتراع لاتحاد النقابات.

وساهم قانون الصحة الجديد بانسحاب مئات آلاف من الجمهور من عضوية الهستدروت التلقائية، ليتلقى الهستدروت ضربتين في آن واحد: فقدان قوته الاقتصادية من ناحية، وفقدان عضوية مئات الآلاف، الذين كانت رسومهم الشهرية الإلزامية رافدا ماليا ضخما للهستدروت، من ناحية أخرى.

فقد كان الهستدروت أيضا جهازا بيروقراطيا ضخما يضم آلافا كثيرة من الموظفين، يشكلون عبئا على ميزانيته، علما أن من مشاهد الفساد في هذا الاتحاد النقابي أن الغالبية الساحقة جدا من هؤلاء الموظفين كانوا نشيطي حزب "العمل"، ويشكلون كتائب عمل جاهزة للنشاط الحزبي والانتخابي في كل مناسبة.

إلا أن رامون سرعان ما عاد إلى مؤسسات الحزب غداة اغتيال رئيس الحكومة إسحاق رابين، في خريف العام 1995، مُسلّما رئاسة الهستدروت إلى خلفه عمير بيرتس، الذي شكل حزب "عام إيحاد" (شعب واحد)، ولكن بيرتس بقي في فلك حزب "العمل"، وخاض انتخابات 1996 البرلمانية ضمن حزب "العمل"، ولكنه انفصل عنه في انتخابات 1999 و2003 وعاد إليه منصهرا في العام 2005.

هذه "الضربة" التي تلقاها الهستدروت أفقدت "العمل" الكثير من وزنه الجماهيري، لأن الجماهير التي كانت تدور في فلكه حزبيا كانت بحاجة إلى خدماته، وهذا أيضا قلل من وزنه في داخل مؤسسات الحزب، التي بقيت في سنوات التسعين متماسكة نوعا ما.

التراجع يتعمق

التغيرات لم تنحصر في الهستدروت، بل طالت أيضا القرى التعاونية، "الكيبوتسات" و"الموشافيم"، التي كانت تشكل حصة جدية في مؤسسات حزب "العمل"، ولها ممثلوها في كافة مؤسسات الحزب الهرمية. وكما ذكر سابقا هنا، فحضورها في حياة الحزب لم يقتصر على أعضاء (سكان) هذه القرى، بل أيضا آلاف العاملين في هذه القرى والذين يسكنون خارجها، وكان انضمامهم إلى حزب "العمل" شرطا هاما للحفاظ على مكان عملهم، كما هي الحال بالنسبة للهستدروت، وإن كانت في غالب الأحيان عضوية شكلية.

وهذه ظاهرة كانت بارزة أيضا في الشارع العربي، الذي كان يحصد منه حزب "العمل" في سنوات الخمسين غالبية الأصوات، وبدأ يتراجع مع نمو أجيال ما بعد النكبة، ليتلقى ضربة جدية في العام 1977، وبعدها ضربات متتالية إلى درجة شبه اختفاء الحزب عن ساحة الجماهير العربية، في المرحلة الحالية.

بدءا من سنوات التسعين بدأت الأزمة الاقتصادية تعصف بهذه القرى التعاونية، إذ هي أيضا لم تعد قادرة على مواجهة منافسة السوق، ومن جهة أخرى، فإن مساحات الأراضي الشاسعة جدا، وبالإمكان القول إنها الغالبية الساحقة جدا من الأراضي الزراعية في البلاد، فتحت شهية كبار أصحاب رأس المال والشركات العقارية، التي تحركت بسرعة في دهاليز المؤسسة الحاكمة، بهدف تغيير الكثير من الأنظمة التي سمحت لهذه القرى في عهد حكومات "العمل" باحتكار هذه الأراضي.

وقد باغتت التحركات هذه القرى في الوقت الذي كانت تواجه فيه سلسلة من الأزمات، فالأجيال الشابة هجرت هذه القرى بأعدادها الضخمة سعيا وراء حياة "الانفتاح" الصاخبة في شوارع المدن الكبرى وعلى رأسها تل أبيب ومنطقتها، رافضة نمط الحياة العمالي الزراعي شبه التقشفي، والمقيّد حتى لأدق تفاصيل الحياة اليومية.

ودفعت سلسلة الأزمات بعدد كبير من هذه القرى إلى بيع ممتلكاتها لأصحابها وأيضا لأصحاب رأس المال، وتمت تصفية العديد من هذه القرى، عوضا عن أن تضعضع مكانة هذه القرى كسر الجدران السياسية التي كانت تحاصر نفسها فيها، وانتهى شكل التصويت الموحد لكل واحدة من هذه القرى حسب انتمائها السياسي.

انعكاس التغيرات على

مؤسسات الحزب وسياسته

بطبيعة الحال فإن كل واحد من هذه التغيرات السابق ذكرها هو موضوع قائم بحد ذاته، مثل أسباب انهيار الهستدروت، ثم القرى التعاونية، وعُرضت هنا خطوط عريضة لهذه الأسباب، لأن موضوع المعالجة يتركز في النتيجة الحاصلة، أي الانهيار، وانعكاسها على بنية الحزب ونهجه.

لقد أدت هذه الضربات إلى ابتعاد قطاعات واسعة من الجمهور التي كان انتماؤها إلى حزب "العمل" من منطلقات المصلحة الذاتية وضمان مصدر الرزق، والارتقاء في مؤسسات الدولة، ومنها من كان انتسابها للحزب بالإكراه، ولهذا فإنه بانهيار هذه المؤسسات انتهت بالتالي المصلحة المباشرة لهذا الجمهور أو ذاك.

أضف إلى هذا أن انتهاء حالة احتكار حزب "العمل" للسلطة غيّر بالضرورة طابع التوظيف في مؤسسات الدولة، خاصة في مستوى المسؤوليات الكبيرة، بما في ذلك سلم الارتقاء في الجيش. وبالإمكان القول إن أول رئيس حكومة من حزب "الليكود" تنبه إلى الحالة القائمة في الجيش وعمل على قلبها، كان بنيامين نتنياهو، الذي بادر في النصف الثاني من سنوات التسعين، إلى إجراءات غير مألوفة في قيادة هيئة أركان الجيش، من أجل دفع اللواء شاؤول موفاز إلى المقدمة، ليتولى لاحقا منصب رئيس هيئة الأركان، بدلا من المرشح لذلك المنصب في حينه، اللواء متان فلنائي، نائب وزير الدفاع حاليا، من حزب "العمل".

وتوجد هنا ضرورة إلى ذكر أن ما ساهم أيضا في تغيير نمط التصويت في سنوات التسعين، كان الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة، الذي تم إتباعه لدورتين برلمانيتين، فحزب "العمل" ومثله "الليكود" اضطرا في انتخابات 1996 و1999 إلى مقايضة الأحزاب الصغيرة بتوجيه أصوات من جمهوريهما للتصويت للوائح هذه الأحزاب، مقابل أن توجه هذه الأحزاب أصوات جمهورها لمرشحي الرئاسة من هذين الحزبين، وهنا رأينا تزايدا كبيرا لقوة الأحزاب الصغيرة.

إلا أن حزب "الليكود" برئاسة أريئيل شارون نجح بعد إلغاء الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة، في استعادة غالبية مقاعد حزبه في انتخابات العام 2003 حين عاد إلى مستوى 38 مقعدا، بدلا من 19 مقعدا، في العام 1999، أما حزب "العمل" فلم يستطع استعادة أي من المقاعد بل واصل تراجعه، لسلسلة أسباب ومنها التغيرات في بنيته.

وكانت النتيجة المباشرة لهذه التغيرات هي المساهمة الجدية في تراجع جماهيرية الحزب، على شكل أحجار الدومينو، فالتراجع كان أيضا انتخابيا ليس على مستوى الكنيست فقط، بل أيضا على مستوى الحكم المحلي، بمعنى المجالس البلدية والقروية، إذ أن حزب "العمل" كان الحزب الأكبر في هذا المجال على مر السنين، حتى في فترات لم يكن فيها على رأس الحكومة، وهذا قطاع شكل أيضا أحد مراكز القوى في الحزب.

وبالإمكان القول إن كل مراكز القوى في الحزب تلقت ضربات قاصمة، وأولها قطاع الهستدروت الذي كان قسم من موظفيه يشكل قطاعا هاما في داخل مؤسسات الحزب، ثم قطاع القرى التعاونية الكيبوتسات والموشافيم، وقطاع "الأقليات"، أي العرب، وهذا الأمر أضعف قوة شخصيات سياسية بارزة في داخل الحزب كانت تستند في قوتها إلى أحد مراكز القوى أو أكثر.

ولذا فإن مؤسسات حزب "العمل" اليوم ليست تلك التي كنا نعرفها من قبل. فمثلا المجلس المركزي الذي كان يضم غالبا ما بين 1500 إلى 1800 عضو وأحيانا أكثر، كان التئامه مناسبة تضج بها الحلبة السياسية كلها، واليوم حتى في أكثر الأوقات حساسية، فإن نسبة الحضور فيه بالكاد تصل إلى 60%، ولم تعد له قيمة.

وما زاد الطين بلة في الآونة الأخيرة في هذا المجال هو حراك رئيس الحزب إيهود باراك بهدف القضاء على ما تبقى من مراكز قوى بقيت في وجهه وتمنعه من أحكام قبضته على الحزب، مستندا في حراكه هذا إلى رئيس الهستدروت الحالي، عوفر عيني، الذي تتكشف أكثر فأكثر حقيقة ارتباطه بالطغمة المالية الكبيرة، في نقطة التقاء مصالح فريدة من نوعها، لربما عالميا، بين اتحاد نقابات، وكبار أصحاب رأس المال.

إن اتحاد النقابات الإسرائيلي اليوم لم يعد تلك النقابة التي تدافع عن كافة الأجيرين في البلاد، ومن الصعب أن نذكر متى كانت آخر مرّة وقع الهستدروت فيها على اتفاقية لصالح العاملين في القطاع الخاص، لأن هذا الاتحاد بات يمثل موظفي سلك خدمات الدولة، ولجان العاملين في كبرى الشركات شبه الرسمية، مثل الكهرباء والموانئ وغيرهما، وهي لجان عمال ذات طابع خاص، أشبه بلجان تحتكر مكان عملها وتتصرف فيه كمالك رأسمالي.

وعيني كممثل للهستدروت بات بحاجة إلى وفاق مع الطغمة المالية وكبار أصحاب رأس المال أيضا من أجل تسيير مصالح هذه اللجان، وهذا مثلا انعكس في كون عيني هو "عرّاب" انضمام حزب "العمل" إلى حكومة بنيامين نتنياهو، بالاتفاق مع كبار أصحاب رأس المال، بصفتهم المستفيد الأكبر من السياسة الاقتصادية التي ينتهجها نتنياهو.

من جهة أخرى فإن القرى التعاونية الهزيلة باتت هي أيضا بحاجة إلى ملجأ قوة تستند إليه كمصلحة اقتصادية، بعد تراجع قوة حزب "العمل" في مؤسسات الدولة، ولهذا فإن لجوءها إلى هستدروت "عيني" أيضا في مؤسسات حزب "العمل" يعزز مكانتها لحماية مصالحها، ومن الواضح أن التقاء المصالح هذا كان وراء دعم موقف إيهود باراك في حزب "العمل" للانضمام إلى حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتشددة.

مؤسسات "يوك"

والحبل على الجرار

إن المشهد الحاصل في حزب "العمل" هو انهيار كلي لمصطلح "حزب المؤسسات"، وقبل ذلك تراجعت مكانة التيارات السياسية المتنوعة التي شهدناها في سنوات التسعين. وكما يبدو فإن الحزب مقبل على تغيرات كثيرة، وخاصة في المجال الإداري، بهدف تقويض أي معارضة قد تقف في وجه رئيس الحزب باراك، الذي يعد العدة للاستيلاء الكامل على الحزب.

ومن أبرز انعكاسات هذه التغيرات على نهج وسياسة حزب "العمل" هو أنه بات حزبا من دون برنامج سياسي واضح المعالم، وغير قادر على طرح البديل، خاصة في ما يتعلق بالصراع الإقليمي، وأيضا في ما يتعلق بالأزمات الداخلية الكثيرة التي تواجهها إسرائيل، وهو حزب من دون وضوح رؤية تؤهله لاستعادة الحكم.

وفي ضوء الانهيار التسلسلي الحاصل في حزب "العمل"، على الأقل منذ أكثر من عشر سنوات، وفي ضوء كل المستجدات على الحزب، فإنه بات من الصعب رؤية هذا الحزب قادرا على إحداث انعطاف كلي لتغيير مساره. ولهذا بالإمكان القول، بحذر شديد، إن حزب "كديما" الليكودي الأصل بات هو الوريث لمكانة الحزب المناوب على السلطة في الحلبة السياسية الإسرائيلية، مقابل حزب "الليكود".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات