الإدعاء المركزي الذي يتبناه هذا المقال هو أن سياسة الاستيطان اليهودي و"تهويد الحيز"، ما زالت هي المهيمنة في صفوف صناع القرار ومؤسسات التخطيط والأراضي. وعلى الرغم من أن مصطلح "تهويد الحيز" قد اختفى من الخطاب التخطيطي المعلن، لتحل محله مصطلحات أخرى مثل "اجتذاب السكان" و" تحسين مستوى المعيشة"، إلا انه- من حيث الجوهر- ما زال حيا يرزق، على المستوى التخطيطي الفعلي
تمهيد
الإدعاء المركزي الذي يتبناه هذا المقال هو أن سياسة الاستيطان اليهودي و"تهويد الحيز"، ما زالت هي المهيمنة في صفوف صناع القرار ومؤسسات التخطيط والأراضي. وعلى الرغم من أن مصطلح "تهويد الحيز" قد اختفى من الخطاب التخطيطي المعلن، لتحل محله مصطلحات أخرى مثل "اجتذاب السكان" و" تحسين مستوى المعيشة"، إلا انه- من حيث الجوهر- ما زال حيا يرزق، على المستوى التخطيطي الفعلي.
يفحص هذا المقال سياسة الاستيطان التي ترمي إلى تهويد الحيز، من خلال التطرق لقرارين حكوميين: أولهما القرار بإقامة 14 بلدة جديدة في الجليل والنقب، وثانيهما الخطة المعدة لـ "الوسط البدوي في النقب"، والمعروفة باسم " خطة شارون". وسأطرح في النهاية دراسة حالة عينية لقريتين غير معترف بهما في النقب، هما أم الحيران وعتير.
الأرض والسكان العرب البدو في النقب
هُجّر معظم العرب البدو (80% - 85%) أو فرّوا خلال أو بعيد حرب 48 إلى ما وراء الحدود، وبقي منهم داخل البلاد حوالي 11 ألفا، تم تجميعهم في منطقة تدعى "السياج" في شمال النقب. وخضع العرب، بمن فيهم البدو، للحكم العسكري حتى العام 1966، ونقلت معظم الأراضي التي كانت بملكيتهم للمدن والقرى اليهودية. يعيش اليوم في النقب حوالي 136.5 ألفا من العرب البدو، ويقطن حوالي نصفهم في قرى غير معترف بها. في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أقيمت سبع بلدات في منطقة السياج بهدف تجميع السكان البدو في النقب على حد أدنى من الأرض، وانطلاقا من الهدف المحدد لتهويد النقب، ومن خلال تجاهل مطلق لنمط حياة هؤلاء السكان العرب واحتياجاتهم.
تصل نسبة السكان العرب في لواء الجنوب إلى حوالي 14% من مجموع السكان هناك، لكن نسبة المدن والقرى العربية لا تتعدى 3.1 بالمئة فقط من المجموع الكلي للمدن والقرى في الجنوب (7 من أصل 225). يعكس هذا الأمر حالة عبثية، خصوصا إذا ما عرفنا أن الدولة لم تعترف بعد بحوالي 40 قرية عربية بدوية تواجد بعضها حتى قبل قيام الدولة، وأقيم بعضها الآخر بأوامر من الحاكم العسكري. يزيد إغلاق الباب أمام دخول العرب لحوالي 89% من أصل 200 من البلدات القروية اليهودية (التعاونيات والكيبوتسات والبلدات الجماهيرية) من حدة العبثية والتمييز. ويتم تنظيم الانضمام إلى هذه البلدات من خلال لجان القبول التي تشكل الوكالة اليهودية أحد مركباتها الأساسية. الهدف المعلن لهذه اللجان هو فحص مدى ملاءمة المرشحين للأيديولوجية التعاونية، لكن النتيجة الفعلية هي إقصاء المواطنين العرب. وعلى الرغم أن قرار المحكمة العليا في قضية قعدان ضد كتسير (قرار العليا 95/6698) يحظر على دولة إسرائيل تخصيص الأرض للوكالة اليهودية على نحو يميز بين اليهود وغير اليهود، إلا أن تداخل الوكالة اليهودية ما زال يشكل أداة فعالة لمنع العرب "بشكل قانوني" من استئجار الأرض في هذه البلدات. فعليا لم يغير قرار المحكمة العليا في قضية قعدان كثيرا من الممارسات المعمول بها على الأرض.
إقامة بلدات جديدة
في العام 2001 نشر تقرير أعدته دائرة أراضي إسرائيل، وتم تقديمه للطاقم الوزاري المشترك برئاسة مكتب رئيس الحكومة. واشتمل هذا التقرير على استعراض للبلدات الجديدة التي بادرت لها أجسام مثل: دائرة أراضي إسرائيل، وزارة البنى التحتية القومية، وزارة البناء والإسكان، وزارة الداخلية، وزارة الدفاع، الوكالة اليهودية، المجالس الإقليمية، ومبادرين من القطاع الخاص وغيرهم. وكشف التقرير عن وجود 68 بلدة في مراحل مختلفة من الإقامة، وتقع 40 منها في النقب. وضمت هذه القائمة 7 بلدات عربية، تهدف إقامتها إلى تجميع السكان العرب من القرى غير المعترف بها في مساحات ضيقة. يشكل هذا التقرير- وهو الأول من نوعه من حيث النشر العلني- وثيقة أساسية وأداة إرشادية وتوجيهية في كل ما يتعلق بإقامة البلدات الجديدة.
قرار حكومي رقم 2265
في تاريخ 21.7.2002 قررت الحكومة (قرار رقم 2265) إقامة 14 بلدة جديدة، 6 منها في النقب. وكتب في القرار: "أ. اعتمادا على سياسة الحكومة بالعمل على تطوير النقب والجليل، وتعزيز مناطق الأطراف، وبالرجوع إلى توصيات اللجنة المشتركة للوزارات المختلفة بإقامة البلدات الجديدة والمتجددة، [تقرر] المصادقة على إقامة البلدات التالية": حيران، وعيرا، ومشمار هنيغيف ب، وكركور في النقب الشمالي، وروح بمدبار في منطقة المجلس الإقليمي رمات هنيغيف وفاران ب في منطقة المجلس الإقليمي العرباه الوسطى.
تقع جميع القرى التي شملها القرار تحت تصنيف "القرى الجماهيرية". ويشكل هذا التصنيف أحد الطرق الأساسية لغربلة السكان، ويمكّن من توطينها باليهود فقط، من خلال استخدام لجان القبول. إضافة إلى ذلك، يضع القرار مسؤولية إقامة 4 من أصل 6 من هذه البلدات -عيرا، ومشمار هنيغيف، وروح بمدبار، وفاران ب- على الأجسام التالية: وزارة البناء والإسكان بالتنسيق مع الوزارات الحكومية، المجالس الإقليمية والوكالة اليهودية. يمكّن منح المسؤولية على إقامة البلدة للوكالة اليهودية من القيام بعملية الغربلة، ويشكل إقصاء أوتوماتيكيا للسكان العرب. وادعى اريئيل شارون رئيس الحكومة في جلسة الحكومة (بتاريخ 21.7.2002) أن الحديث يدور عن "ضرورة قومية"، وان الهدف من إقامة البلدات هو ضمان فائض من الأرض للأجيال القادمة: "إذا لم نستوطن في الأرض، سيقوم غيرنا بذلك".
إضافة إلى ذلك، يقود مكتب رئيس الحكومة في السنتين الأخيرتين مبادرة لإقامة 30 بلدة جديدة في النقب والجليل. وحسب ما نشر في هذا الموضوع "يفترض بهذه البلدات أن تساعد على توزيع السكان، وتحافظ على أراضي الدولة وتساهم في الدفاع عن الحدود". ويتضح من تصريح أدلى به عوزي كيرن، مستشار رئيس الحكومة لشؤون الاستيطان، للمحطة الإذاعية الثانية (ريشيت بيت)، يتضح بشكل قاطع أن هذه البلدات معدة للسكان اليهود فقط، وان الهدف من إقامتها هو تهويد الحيز. ويقول عوزي كيرن بخصوص جمهور الهدف لهذه البلدات:
"... الأمر الآخر هو أن الموضوع المركزي في إقامة هذه البلدات هو إغلاق الثغرات، أو إقامة البلدات- من الناحية السياسية- في مناطق، تُعنى الدولة بتواجد استيطان يهودي فيها...الأمر ببساطة هو تعزيز الاستيطان اليهودي في مناطق فقيرة بالسكان اليهود".
قرارات ومبادرات كهذه تمس بالحقوق الأساسية للسكان العرب البدو، كحق المسكن، وحق الملكية، وحق الحياة الكريمة، والحق في المساواة والعدل.
خطة شارون
في العقد الأخير، طوّرت الدولة ومؤسساتها استراتيجيات وأدوات جديدة، تتميز بتكثيف النشاط تجاه المدن والقرى العربية، مقابل إقامة البلدات للجمهور اليهودي، وتوسيع البلدات القائمة. في تاريخ 4.9.2003 صادقت "لجنة وزارية لشؤون الوسط غير اليهودي" على خطة لـ"معالجة الوسط البدوي في النقب" والمعروفة باسم "خطة شارون". رصدت لهذه الخطة ميزانية 1.175 مليار شيكل جديد لفترة خمس سنوات. وعلى الرغم من الإعلان بأن الخطة ترمي إلى "تغيير وتحسين وضع السكان البدو"، يوضح الفحص الدقيق، أن الغرض منها هو السيطرة على أراضي العرب في النقب، وتهجير السكان وتجميعهم في سبع بلدات، وتصفية القرى غير المعترف بها.
وتشتمل خطة شارون على أربعة بنود مركزية وهي:
ادعاءات الملكية وتسويات الأراضي: تسرع هذه الخطة من عملية تنظيم تسجيل الأراضي في منطقة النقب، التي بدأ العمل بها في سنوات السبعين. وبالاعتماد على معطيات دائرة أراضي إسرائيل، قام السكان العرب البدو في النقب بتقديم دعاوى ملكية على حوالي مليون دونم في منطقة النقب. اليوم، وبعد مضي 30 عاما قررت الحكومة تكثيف مسار التسويات، بهدف تعجيل "تهجير" السكان العرب من القرى غير المعترف بها، إلى التجمعات التي تقوم الدولة بالتخطيط لإقامتها. وخصصت الخطة، لهذا الغرض، مبلغ 48.85 مليون شيكل جديد، للفترة الواقعة بين الأعوام 2003- 2007. رصد هذا المبلغ لدعم الأجسام التي تقوم بمعالجة وتنظيم الحقوق في الأراضي، ولتعزيز الجهاز القضائي. نذكر هنا أن التعويضات (بالمال والأرض) التي حددتها دائرة أراضي إسرائيل في القرار رقم 932 من تاريخ 24.6.02، مقابل تنازل أصحاب الأرض عن دعاوى الملكية، من غير أن تدعو الحاجة للحسم بشكل نهائي في هذه القضية المهمة، هي رمزية، ولا تعوض أصحاب الأراضي عن القيمة الحقيقية لأراضيهم.
ممارسة حقوق الدولة على الأراضي وفرض قوانين التخطيط والبناء: يهدف هذا البند كما تكشف الخطة، إلى "تطبيق كامل لقرار الحكومة رقم 2425 من تاريخ 4.8.2002 بخصوص تعزيز فرض قوانين التخطيط والبناء وقضايا الأراضي"، أي تكثيف جهود السلطات لهدم البيوت وإخلائها لتطبيق طرد السكان البدو وتهجيرهم. ولهذا الغرض، ستعمل وزارات الحكومة المختلفة على فرض حقوق الدولة وقوانين التنظيم والبناء.
استكمال تطوير وإقامة البنى التحتية للبلدات القائمة: كما هو معروف، تعاني هذه القرى، من مشاكل اجتماعية واقتصادية وبيئية، بسبب تجاهل مؤسسات التخطيط لاحتياجات السكان، وتجاهل أسلوب الحياة المغاير للسكان العرب في النقب. تبعد المبالغ المخصصة لهذا الغرض كل البعد عن تلبية حاجة تطوير البلدات القائمة، والارتقاء يها إلى المستويات المقبولة في المجالات المختلفة، كالبنى التحتية وجهاز التربية، وجهاز الصحة، والمناطق الصناعية والتشغيلية وغيرها.
تخطيط البلدات الجديدة: الميزانية مخصصة أيضا لتخطيط سبع بلدات عربية في النقب، اعترفت بها الدولة في الآونة الأخيرة. المبلغ المخصص لهذا البند بعيد كل البعد عن إمكانية تخطيط هذه البلدات.
ترمي إقامة البلدات اليهودية الجديدة إلى الحد من عملية تطور البلدات غير المعترف بها، والحد من تطوير وتوسيع البلدات المعترف بها، والسيطرة على الأرض، ومنع العرب من استخدامها. تجسدت جميع هذه الأمور في أقوال الوزير يتسحاق ليفي (في جلسة الحكومة من تاريخ 21.7.200): "تهدف هذه البلدات إلى الحد من انتشار الاستيطان العربي غير القانوني".
دراسة حالة: أم الحيران وعتير مقابل حيران
تعكس الخارطة الهيكلية اللوائية لإقامة القرية اليهودية "حيران" (ت/م/م/ 4-14 تعديل رقم 27) سياسة " تهويد الحيز" بشكل واضح. تمت المصادقة على هذا المخطط في أيلول 2002، وتم اتخاذ القرار بإقامة القرية من خلال القرار الحكومي رقم 2265 الذي اتخذ في شهر حزيران 2002. وحسب الخارطة، ستقام هذه القرية على مقربة من قريتي أم الحيران وعتير غير المعترف بهما. يتجاهل هذا المخطط وجود القريتين، ولا يتم التطرق إليهما في تعليمات المخطط، وفي الخارطة نفسها. وقامت الدولة ومؤسساتها، على ضوء تخطيط البلدة اليهودية "حيران" بجانب القريتين، اللتين عُرّفتا بتقرير الدائرة كـ"مشكلة خاصة"، قامت بتكثيف نشاطاتها تجاههما بهدف التسبب في ترحيل سكانهما.
ينتمي سكان قريتي أم الحيران وعتير لعائلة أبو القيعان التي تم ترحيلها بالقوة إلى موقعها الحالي، بأمر من الحكم العسكري. قبل ترحيلهم، سكن سكان القريتين، الذين يعدون أكثر من ألف نسمة، في منطقة "وادي الزبالة" التي تقع اليوم ضمن منطقة نفوذ كيبوتس شوفال. وحسب أقوال السكان هناك، وفّرت لهم الدولة أرضا مساحتها 3000 دونم للمسكن والزراعة. ومنذ ذلك الوقت لم يتسلم سكان المنطقة أية إنذارات أو أوامر إخلاء أو هدم، حتى تاريخ 1.7.2003، عندما بدأت تصلهم الإنذارات. في نيسان 2004 تسلم المواطنون أوامر بالإخلاء، بحجة أنهم يسكنون بصورة غير قانونية على أرض تعود ملكيتها للدولة، وتسلم بعضهم أوامر الهدم، بحجة البناء "غير المرخص". وليس من قبيل الصدفة أن تُصدر هذه الأوامر في هذه الفترة بالذات، وبعد 50 عاما من إقامة هاتين القريتين. جاءت عملية التهجير المجددة للقريتين نتيجة للسياسة الحكومية والتخطيطية التي تتميز بالسيطرة على الأرض وإقصاء الأقلية العربية، مقابل نشر السكان اليهود وإقامة المستوطنات من اجلهم.
إضافة إلى ذلك، تتواجد على مقربة من قريتي أم الحيران وعتير استيطانات فردية، تم توصيلها بالبنى التحتية المختلفة، وتسكن في كل منها عائلة واحدة. هذه الاستيطانات هي: مزرعة يهودا التي تمتد على مساحة 1995 دونمًا، ومزرعة تسون يتير التي تمتد على مساحة 1459 دونما؛ ومزرعة شوهام التي تمتد على مساحة 2005 دونمات. الاستيطانات الفردية هي أداة جديدة لتهويد الحيز وتوزيع السكان اليهود، وإقصاء الجمهور العربي عن الحيز الجغرافي، وحصره داخل حيز محدد وضيق.
تلخيص
يشكل الاستيطان وإقامة البلدات اليهودية أدوات مركزية تقوم الدولة ومؤسساتها بتوظيفها من أجل تكريس سياسة السيطرة على الأراضي وتهويد الحيز.
منذ إقامة الدولة وحتى أيامنا هذه، عملت الدولة بكد ونشاط على إقامة البلدات اليهودية الجديدة في جميع أنحاء البلاد. طُوّرت في العقد الأخير استراتيجيات وأدوات جديدة تتميز بتكثيف النشاط تجاه القرى العربية البدوية، بهدف إقامة القرى للسكان اليهود وتطويرها. تنعكس هذه النشاطات من خلال قرارات الحكومة بإقامة البلدات اليهودية الجديدة، والمخططات التي تضمن استعمالا حصريا للأرض من قبل اليهود، ومن خلال خلق أشكال جديدة من الاستيطان. وفي المقابل يتم إرسال الإنذارات وأوامر الإخلاء والهدم للسكان العرب البدو.
يفترض بالتخطيط أن يضمن ويطبق مبادئ المساواة الاجتماعية والحيّزية، وأن يضمن المساواة والعدل التخطيطي بين المجموعات المختلفة. ويفترض به كذلك أن يشكل رافعة للتطوير الاجتماعي والاقتصادي للمجموعات السكانية المختلفة. على الرغم من ذلك، يستخدم التخطيط في إسرائيل، كأداة لتنفيذ سياسة التخطيط غير العادلة والتي تميز ضد السكان العرب. مثال على ما ذكر، هي الخارطة الهيكلية رقم ت/م/م/ 4-14 (تعديل رقم 27) لإقامة قرية حيران اليهودية، في الوقت الذي يتم فيه إجلاء سكان قريتي أم الحيران وعتير للمرة الثانية.
(*) مخططة مدن وهذا المقال ينشر بالتنسيق مع مركز "عدالة"
المصطلحات المستخدمة:
اريئيل, شيكل جديد, كيبوتس, عوزي, الوكالة اليهودية, تهويد, رئيس الحكومة