المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن خطة الحكومة المقترحة لدمج عدد كبير من السلطات المحلية في البلاد. ويكتنف الغموض الخطة المقترحة، بدءًا بدوافعها ومرورًا بتفاصيلها وطرق تنفيذها وانتهاءً بما ستؤول اليه من نتائج. ووفق النزر اليسير الذي أفضت به الجهات الرسمية حول خطة الدمج، ومن السياق الذي طرحت من خلاله، ألا وهو خطة الطوارئ الإقتصادية للحكومة الحالية، فإن المتوخى منها إحداث تقليص ملموس في ميزانية الحكم المحلي في البلاد.


مقدمة

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن خطة الحكومة المقترحة لدمج عدد كبير من السلطات المحلية في البلاد. ويكتنف الغموض الخطة المقترحة، بدءًا بدوافعها ومرورًا بتفاصيلها وطرق تنفيذها وانتهاءً بما ستؤول اليه من نتائج. ووفق النزر اليسير الذي أفضت به الجهات الرسمية حول خطة الدمج، ومن السياق الذي طرحت من خلاله، ألا وهو خطة الطوارئ الإقتصادية للحكومة الحالية، فإن المتوخى منها إحداث تقليص ملموس في ميزانية الحكم المحلي في البلاد.

ومن الطبيعي أن تستقطب خطة الدمج المقترحة أهتمامًا خاصًا في الأوساط العربية في البلاد، وذلك نظرًا للوزن النوعي المتميز الذي تحظى به هذه السلطات لدى مواطنيها، كونها مؤسسات تضطلع بمهام رسمية وشعبية جسيمة.

ومن هنا تأتي هذه المعالجة للموضوع كمساهمة في إلقاء الضوء عليه، وتبيان ملامحه المعلنة، وتحليل جوانبة، والإشارة إلى آثاره الخاصة بالسلطات المحلية والبلدات العربية.

ملامح خطة الدمج

نقول ملامح خطة الدمج وليس تفاصيلها نظرًا للتعتيم والضبابية المتعمدة التي تكتنف الخطة كما تم الإعلان عنها لغاية اليوم من المصادر الرسمية. وكما يبدو فإن التعتيم والتقتير بنشر التفاصيل عن الخطة يرميان إلى إضعاف سبل تحديها ومجابهتها والطعن بصدقيتها وجدواها، ومن ثم تمريرها وفرضها.

يتكون نظام الحكم المحلي في البلاد عامة (بما في ذلك المجالس الاستيطانية في المناطق المحتلة) من 266 سلطه محلية تنقسم كالتالي: 144 مجلسًا محلياً، و 66 بلديه، و 54 مجلسًا أقليميًا، ومجلسين محليين صناعيين. ومن ضمنها هناك 77 سلطة محلية عربية، منها 65 مجلسًا محليًا، و 10 بلديات، ومجلسين إقليميين (بالأضافة ألى 5 مجالس محلية عربية في هضبة الجولان المحتلة لن نقوم بالتعرض لها في هذه المعالجة). وعلية فإن نسبة عدد السلطات العربية من المجموع العام للسلطات المحلية في البلاد تصل إلى حوالي 30%. ولطالما لمسنا التبرم وعدم الرضى والتخوف الذي تبدية جهات متنفذة في أجهزة الحكم المحلي حيال الوزن العددي "المتضخم" للسلطات المحلية العربية، ضمن مركز السلطات المحلية في البلاد.

وقد هدفت خطة الدمج في بداياتها إلى تقليص عدد السلطات المحلية في البلاد الى ما بين 150-200 سلطة فقط، كوسيلة لتقليص ميزانية الحكم المحلي بما يتراوح بين 1.5-2 مليارد شيكل سنويًا. وبالفعل، فخطة الدمج التي عرضتها مؤخرًا وزارة الداخلية تقضي بتقليص عدد السلطات المحلية في البلاد إلى 161 سُلطة (من أصل 266)، والسلطات العربية إلى 38 (من أصل 77). وعليه، تصبح نسبة السلطات العربية من المجموع العام حوالي 23% (بالمقارنه مع 30% سابقاً). ويبيّن الجدول التالي عدد السلطات العربية في الألوية المختلفة قبل الدمج المقترح وبعده، وأسماء تلك السلطات التي لم يتناولها الدمج. وعلى سبيل المثال، فقد طال مخطط الدمج 46 سلطة عربية في لواء الشمال وحولها إلى 15 سلطة جديدة، بينما بقيت 5 سلطات على حالها دون دمج، ليكون عدد السلطات العربية في اللواء في نهاية المطاف 20 سلطة فقط.

وبالمقارنة، فأن عدد السلطات اليهودية في لواء الشمال سيبقى 22 سلطة بعد الدمج من أصل 38 سلطة قبله.

المعايير المعتمدة للدمج

عددت الخطة الإقتصادية للحكومة، التي أعدتها وزارة المالية، المعايير التالية التي أعتمدتها في تصميم خطة الدمج، وهي كالتالي:

1- تحقيق النجاعة الاقتصادية في عمل السلطات المحلية: وتقاس بالنسبة بين قيمة الموارد المستثمرة (المالية والبشرية وغيرها) في عمل السلطات المحلية وبين كمية وجودة الخدمات البلدية المقدمة للمواطنين.

2- رفع نجاعة تخصيص الموارد الحكومية للسلطات المحلية: بمعنى أن تضمن الحكومة عدم نشوء عجز في ميزانيات السلطات بعد دمجها.

3- رفع الفاعلية التنفيذية: وتفسر برفع مستوى الخدمات البلدية للمواطنين وتحسين مستوى أداء الموظفين والأجهزه الإدارية في السلطات المدمجة.

4- تحسين مستوى الخدمات العامة: مثل التعليم والرفاه والثقافة.

5- النهوض بالقدرات المهنية لدى مستخدمي السلطات: في مجالات الهندسة والمواصلات والأقتصاد والأدارة العامة.

6- تحسين مستوى التخطيط الوضعي والحيزي: كيف سيساهم الدمج في ترشيد استغلال وتخصيص الأراضي للأهداف المختلفة.

7- تحقيق المساواة بين مواطني السلطات المدمجة: أي أن يسهم الدمج في توفير خدمات متساوية لمواطني البلدات المدمجة، وفي إلغاء الفوارق في مستوى البنى التحتية في هذه البلدات.

8- ملاءمة المجموعات السكانية: بواسطة توخي دمج بلدات ينتمي مواطنوها الى نفس المجموعات السكانية (والقصد للانتماءات العرقية والدينية والطائفية).

وتأمل وزارة المالية في أن يؤدي تطبيق خطة الدمج إلى تقليص 1.5-2 مليار شيكل سنوياً من ميزانية السلطات المحلية، وإلى تعزيز مكانة السلطات الموحدة وتدعيم استقلاليتها، ورفع نجاعتها وفاعليتها، وفتح آفاق جديدة أمامها في مجالات التخطيط المحلي والمنطقي، والنهوض بمستوى الخدمات للمواطنين.

مراحل تطبيق الخطة

تعود النية لدمج السلطات المحلية وتقليص عددها الى سنوات عديدة سابقة. ففي عام 1998 أعدت دراسة أكاديمية حول الموضوع بمبادرة مكتب رئيس الوزراء. ومؤخرًا انكب طاقم مؤلف من ممثلي مكتب رئيس الوزراء ووزارتي الداخلية والمالية على إعداد اقتراح خطة الدمج التي عرضت على الملأ في السابع من نيسان من العام الحالي. ومن الملفت للنظر حقًا أنه سيتم سن قانون خاص في الكنيست (ضمن قانون التدابير الاقتصادية) لضمان سرعة إقرار الخطة ومنحها منزلة قانونية رفيعة يصعب معها تحديها ومقارعتها ونقضها عبر المحاكم والجهاز القضائي. وقد شكلت لجان خاصة في مكاتب ألوية وزارة الداخلية مهمتها تلقي ودراسة الملاحظات الكتابية التي ستقدم على الخطة. وأمهلت السلطات المحلية والهيئات والمؤسسات ذات الصلة (بما في ذلك الأفراد المعنيين) لتتقدم بملاحظاتها لغاية نهاية شهر نيسان الحالي.

وبعد الأنتهاء من دراسة الملاحظات المقدمة للجان الخاصة سيتم إدخال التعديلات ووضع الصيغة النهائية للخطة وعرضها على الكنيست (ربما خلال شهر أيار المقبل) كمشروع قانون حكومي لإقرارها بالقراءة الأولى. بعدها سيتم عرض الخطة، كما ستقرها الكنيست في القراءة الأولى، على لجان الكنيست المختصة لدراستها والمصادقة عليها كما هي أو مع تعديلات تفرضها الضغوط السياسية التي ستمارسها الكتل والأحزاب ومجموعات الضغط البرلمانية. وفي نهاية المطاف سيتم إقرار الخطة بصيغتها النهائية في الكنيست في القراءتين الثانية والثالثة في أشهر الصيف المبكرة لتصبح قانوناً ملزماً، وليبدأ العمل على تنفيذها على أرض الواقع.

ومن الجدير بالذكر أن مجموعة من التعديلات على قانوني البلديات والمجالس المحلية سترافق إقرار خطة الدمج. إذ ستمنح لوزير الداخلية صلاحية خاصة تمكنه من تقصير فترة ولاية رؤساء ومجالس السلطات المدمجة إلى ثلاث سنوات فقط لتسهيل تنفيذ الخطة. كما وسيخول الوزير صلاحية رفض إقامة سلطة محلية مستقلة في أي بلدة يقل تعداد سكانها عن 10 آلاف مواطن، وفي بعض الحالات الخاصة عن 5 آلاف مواطن. ومن المحتمل أن يؤجل موعد أجراء الانتخابات للسلطات المحلية من 28 تشرين الأول للعام الحالي الى 30 آذار عام 2004. كما ويدور الحديث حول النية لإلغاء منصب نائب الرئيس كليًا في السلطات المحلية التي يقل تعداد مواطنيها عن 50 ألف نسمة.

الموقف من خطة الدمج

خطة دمج السلطات المحلية المقترحة مرفوضة بجوهرها وديباجتها وطريقة تنفيذها. وقد تبنت هذا الموقف كل من اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية ومركز السلطات المحلية (اليهودية والعربية) في البلاد. وقد أوصت الهيئتان التمثيليتان السلطات المحلية المعنية بعدم الانسياق وراء قواعد الخطة كما حددتها وزارة الداخلية، والتي تقضي بأن تقدم السلطات المحلية المذكرات المفصلة حول نوايا الدمج لغاية نهاية نيسان الحالي. وعوضًا عن ذلك فقد رأت بأن تعبر هذه السلطات عن رفضها المبدئي للخطة أمام وزارة الداخلية، وأن تحث مواطنيها والمؤسسات والهيئات المحلية الفاعلة فيها للتعبير عن موقفها الرافض للخطة.

ان موقف الرفض لخطة الدمج يعتمد على مبررات مختلفة تتراوح ما بين استنكار الدوافع والمقاصد العامة للخطة، وبين تجاهلها للظروف الخاصة للسلطات المرشحة للدمج. ويختلف جوهر رفض السلطات العربية عن رفض السلطات اليهودية للخطة، فلكل من المجموعتين هواجسه وظروفه ومخاوفه حيالها.

فيما يلي سنعدد بإيجاز الأسباب التي تستوجب رفض خطة الدمج بالإعتماد على ما نعلمه أو نستشعره من مخاطر تحملها الخطة في ثناياها، خاصة في ما يخص السلطات المحلية والبلدات العربية.

الموقف السياسي العام من الخطة:

وقبل أن نخوض في أي نقاش مهني حول الجدوى من وراء خطة الدمج وما تنذر به من تقليصات في الميزانيات وتوفير في الموارد، لا بد من أن نتساءل ببساطة: هل هي حقًا كثرة السلطات المحلية في البلاد ما أدى الى تفاقم الأزمة الأقتصادية، الى درجة أصبح معها التقليص في الأمور الحياتية والمعيشية مباحًا ومبررًا؟ أم هي الحرب واستمرار الاحتلال وتكثيف الاستيطان والميزانيات الضخمة التي تهرق عليها دون حسيب أو رقيب؟ أليس من الأجدر بهذه الحكومة اليمينية المتطرفة أن تكف عن محاولات إخضاع الشعب الفلسطيني وأن تتلمس طريق السلام والمصالحة قبل أن تصل الى مرحلة الإفلاس التام؟

ان نقاش وتقييم خطة الدمج لا يجوز أن يجري في معزل عن السياق العام للظروف السياسية التي تتخبط فيها الحكومة الحالية. فخطة الدمج إذًا مرفوضة لأنها تشكل الخيار السهل أمام الحكومة الحالية وربابنتها.

فرض الخطة بواسطة سن قانون خاص:

كما ذكر أعلاه، فالحكومة تعتزم فرض وتمرير خطة الدمج من خلال سن قانون خاص في الكنيست. وهذا الأمر مستهجن، ويشكل منحى جديدًا في التعامل مع القضايا البلدية يتميز بالالتفاف المباشر على قانوني البلديات والمجالس المحلية. ونخشى أن هذا المسلك يرمي إلى القضاء على فرصة تحدي الإملاءات القسرية للخطة بواسطة الجهاز القضائي. وحسب الوضع القانوني القائم اليوم فان تغيير حدود أية سلطة محلية يستوجب موافقة وزير الداخلية فقط، والمرجح أن يصبح الأمر من اليوم فصاعدًا مرهونًا بتعديل القانون الذي سيرسم حدود السلطات المحلية وينزلها منزلة القانون. ونرى أن هذا سيعقد عملية توسيع مناطق نفوذ السلطات المحلية التي تطالب بها السلطات المحلية العربية ويجعلها شبه مستحيله.

تجاهل رغبات المواطنين:

ان الميزة الأولى للحكم المحلي هي قربه من المواطنين وتأثره برغباتهم. وللأسف، فقد أعدت خطة الدمج المقترحة في دهاليز الوزارات المعنية دون الرجوع الى السلطات المحلية ودون الأخذ بآراء ورغبات المواطنين فيها. حتى أن مركز السلطات المحلية في البلاد استثني كلياً من المشاورات حول الخطة وصياغة المقترحات. فإذا كانت القرارات الحاسمة بشأن الحكم المحلي تؤخذ في منأى عن مركباته ومؤسساته، بل وتفرض عليها وعلى مواطنيها بشكل قسري، فما الذي يبقى من هيبتها واحترامها ومكانتها في النظام السياسي والإداري في البلاد؟ والجدير بالملاحظة أن قانون البلديات الذي سن خلال حقبة الانتداب (الكولونيالي) البريطاني على فلسطين يعير الاهتمام ويمنح وزناً لا بأس به لرغبات المواطنين وتطلعاتهم في تحديد معالم السلطة المحلية في بلداتهم. وعلى العكس تمامًا تأتي خطة الدمج، في ظل الديموقراطية الإسرائيلية، لتفرض خريطة متكاملة للحكم المحلي دون أن تعير رغبات المواطنين أي وزن أو أعتبار.

إلغاء التعددية والمس بالديموقراطية وخصوصيات البلدات:

والميزة الأخرى البارزة للحكم المحلي هي احترام التعددية. فلكل بلدة طابع غالب قد يتصل بتاريخها ونمط تطورها وثقافتها والهوية الجماعية لمواطنيها وموروثها الحضاري. والسلطة المحلية هي انعكاس وتجسيد لطابع البلدة وخصوصيتها. وتعتبر رعاية التعددية ركناً من أركان الديموقراطية الحديثة، أما إنكارها فقد يؤدي الى ضعف الشعور بالانتماء وانعدام المسؤولية لدى المواطنين تجاه المؤسسات والهيئات التمثيلية، بما فيها السلطة المحلية. ولغاية يومنا هذا ما زالت غالبية السلطات المحلية العربية تعاني من شعور المواطن بالغربة تجاهها، وهو يترجم بظواهر وممارسات سلبية مختلفة بحقها. فإلى أين ستؤول بنا الحال إذا ما "ربحنا" البلديات العظمى الموحدة على شاكلة تلك التي تقترحها خطة الدمج وخسرنا نهائياً مشاعر انتماء مواطنينا لها؟ إن للوحدة شروطًا يجب أن تتوفر ومحطات لا يمكن اختزالها أوالالتفاف حولها أو التعويض عنها بالكلام النظري والمثالي عن محاسنها. كما أن السلطات المحلية ليست شركات تسعى للربح وليست مؤسسات اقتصادية لتكون معايير تقييمها مالية فقط، بل أنها مؤسسات جماهيرية تلعب دورًا اجتماعيًا حاسمًا يلتصق بهموم ورغبات وتطلعات المواطنين.

التحسينات المتوخاة من الخطة هي افتراضية:

وفيما يتعلق بالجوانب العملية والمهنية في خطة الدمج فحدّث ولا حرج. فالخطة تعِد جزافًا برفع النجاعة والفاعلية في السلطات المحلية وبتحسين الخدمات للمواطنين وبفتح آفاق جديدة للتخطيط والتطوير في السلطات المدمجة، بينما تتوعد بتقليص الميزانيات والهبات الحكومية لها. فأنى يتسنى لها ذلك حقاً؟ والحقيقة هي أن كل الإيجابيات التي تروّج لها خطة الدمج هي أوهام وأحلام في اليقظة. فهي تراهن على أن مجرد ازدياد عدد المواطنين في السلطة المحلية سيتلوه، ربما بقدرة قادر، ارتفاع في مدى نجاعة وفاعلية الكوادر الإدارية. وربما يكون الأمر الوحيد المؤكد في هذا المضمار هو تسريح المئات بل الآلاف من موظفي ومستخدمي السلطات المحلية ليتم تحقيق هدف ارتفاع النجاعة والفاعلية مقابل دفع الثمن الباهظ بارتفاع معدلات البطالة في البلدات العربية التي تعاني أصلاً من معدلات البطالة الشاهقة.

تقليص الهبات الحكومية للسلطات المحلية:

ومن المؤكد أيضًا أن تقلص الهبات الحكومية للسلطات المحلية العربية بالتحديد. وللتوضيح نقول إن الهبات الحكومية ما زالت تشكل حصة الأسد من الميزانيات العادية للسلطات المحلية العربية نتيجة عدم توفر مصادر دخل ذاتية من المناطق الصناعية والتجارية والمرافق والمؤسسات الاقتصادية. فإذا تقلصت الهبات الحكومية دون توفير مصادر دخل ذاتية بديلة بالمقابل، فكيف يمكن أن نتصور قيام السلطات المحلية بأداء دورها وتطوير الخدمات لمواطنيها حقا؟! والحيلة التي تعتمدها الحكومة لتقليص الهبات العامة مكشوفة وبالغة الشفافية. فالطريقة المتبعة في وزارة الداخلية لاحتساب الهبة الحكومية للفرد في أية سلطة محلية تعطي ميزة للسلطات الصغيرة. وكلما ازداد عدد المواطنين تقل الهبة للفرد. لذلك فإن دمج مجموعة سلطات محلية سيؤدي بطبيعة الحال إلى ازدياد في تعداد سكان السلطة المدمجة، مما سينتج عنه انخفاض الهبة الحكومية للفرد الواحد. وبهذا تغدو الهبة التي ستحظى بها السلطة المدمجة أقل من مجموع الهبات التي كانت تحظى بها السلطات المنفردة قبيل الدمج. كما وستؤدي عوامل أخرى، لا مجال للاستفاضة في عرضها وتحليلها هنا، إلى تقليص إضافي في الهبات الحكومية.

فإذا كان الوضع الراهن في مجال تخصيص الهبات الحكومية للسلطات العربية على درجة السوء التي نعرفها ونناضل ضدها، فكيف سيغدو الأمر بعد الدمج مع ما يحمله من تقليصات "وفق القانون"؟ ولاستكمال كل جوانب المشهد المتوقع نتيجة الدمج نذكر أن جباية الضرائب البلدية، التي هي حق في جوهرها، لتعويض ما ستقتطعه الحكومة من ميزانيات، ستصبح الشغل الشاغل للسلطات المحلية الناشئة، وليصدق القول فيها "جباة لا ولاة".

تسريح الموظفين:

ثم أنه لا يصح أن نتغافل عن مصير الموظفين والمستخدمين في السلطات المحلية الذين سيسرحون إثر الدمج. وهذا أحد المركبات الهامة للخطة وأكثرها غموضًا. فالحكومة لا تتوسع في الحديث عن فصل الموظفين ضمن تطبيقها للخطة أملاً في عدم إثارة النقابات العمالية ومحاولة تحييدها وتغييبها عن النضال ضدها. بل أن الغموض يكتنف تفاصيل هامة ومركزية وأساسية في الخطة من الطبيعي جدًا إعلانها وشرحها حتى يتم اتخاذ أي موقف حيالها عن وعي وإدراك. وكما أسلفنا القول، فالغموض متعمد لاختزال المعارضة ولتمريرالخطة على ما هي علية من السوء.

التضييق في مجالات التخطيط والتطوير:

أما الترويج لخطة الدمج على أنها تفتح آفاقًا جديدة أمام البلدات المختلفة للتطوير والتخطيط فهو هراء متعمد. فكل ما تتضمنه الخطة في المجال التخطيطي والجغرافي هو الجمع ما بين مناطق نفوذ السلطات المحلية المدمجة دون إدخال أي تعديل عليها. وكان الأجدر بواضعي الخطة أن يدخلوا تعديلات على مناطق نفوذ السلطات المدمجة تتوخى وتمهد حقاً لخلق ظروف موضوعية وفرص جديدة للتطوير والتخطيط. والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها ضرورة فك الخناق عن عين ماهل (التي تقع كجزيرة ضمن منطقة نفوذ نتسيرت عيليت) لخلق تواصل جغرافي بينها وبين الرينة وباقي شريكاتها في الدمج. وكذلك الحال بالنسبة لقرى الزرازير والكعبية ورأس علي والخوالد وبسمة طبعون التي بقيت كالكرات المتناثرة التي لا يربطها أي رباط رغم النية بدمجها في سلطة واحدة. فإذا كانت النية صادقة بإنشاء سلطة محلية واحدة لمجموعة من البلدات الصغيرة، فلماذا لا تحظى البلدات العربية بما تتمتع به المجالس الإقليمية اليهودية من مناطق نفوذ تنيف مساحة بعضها عن مساحات دول صغيرة في أرجاء العالم؟ أو قل: لماذا لا تتضمن خطة الدمج الإعلان عن مناطق نفوذ السلطات المدمجة، مناطق تنظيم مستقلة تحظى فيها السلطات الجديدة بمهام لجان تنظيم، كما هو الحال في غالبية المدن والمجالس الإقليمية اليهودية؟ ولماذا لا تتضمن الخطة استكمال الاعتراف بكل القرى العربية غير المعترف بها في النقب، من خلال اقامة مجلس اقليمي جديد يضم هذه القرى، التي يبلغ تعداد مواطنيها زهاء 45 الف نسمة؟ او الاعتراف بقرية عرب النعيم ضمن المجلس الاقليمي "مسغاف" في الجليل؟ وغيرها من التساؤلات التي تفضح النوايا غير الصادقة لخطة الدمج المقترحة.

وكما نعرف، فإن حجة وزارة الداخلية لرفض كل طلبات السلطات المحلية العربية لتوسيع مناطق نفوذها تتلخص في عدم موافقة السلطات المانحة (وهي على الأغلب من المجالس الأقليمية اليهودية) على ذلك. فما المانع إذًا، لو صحت نوايا وزارة الداخلية، من استغلال فرصة سن القانون الخاص بخطة الدمج للاستجابة ولو لبعض مطالب السلطات العربية بتوسيع مسطحات نفوذها - على سبيل المثال قضية "منتجع شبرينتساك" الذي يقع كجزيرة ضمن منطقة نفوذ بلدية الناصرة. أو لنأخذ مثلاً آخر في رفض مؤسسات التنظيم والبناء لمطالب ومبادرات السلطات العربية لإقامة مناطق صناعية وتجارية وسكنية جديدة متذرعة بالعوائق البيئية أحياناً وبالحجة لتعديل مناطق النفوذ أحيانًا أخرى. ومرة أخرى نقول إن خطة الدمج وسن القانون المرافق لها يشكلان الفرصة السانحة للتغلب على هذه العقبات، ولإثبات مصداقية الحكومة في سعيها لفتح آفاق جديدة للتخطيط والتطوير، ولزيادة مصادر الدخل الذاتي للسلطات المحلية العربية من المرافق الصناعية والتجارية فيها.

وفي هذا المجال أيضًا تدعي الحكومة هباء أن الخطة ستساهم في تحسين ظروف السكن للمواطنين في البلدات المدمجة. وهذا التحسين هو افتراضي أيضًا. فمثلاً، تدعي الحكومة أن معدل الكثافة السكانية سينخفض نتيجة دمج بلدة مكتظة مع بلدة أقل اكتظاظاً، وهكذا يحقق الدمج تحسيناً في الظروف السكنية. والحقيقة هي أن المواطنين لا يسكنون في المعدلات والمعادلات الحسابية للكثافة وإنما على الأرض التي لا يمكن نقلها من بلدة الى أخرى بالرغم من دمج السلطات المحلية فيها، إلا أذا كانت النية تتجه لنقل المواطنين من بلدة الى أخرى، وهو ما نرجح أنه يدور في خلد واضعي الخطة. فنحن لا نستهجن أبدًا أن تخرج علينا لجان التنظيم اللوائية في المستقبل ببدعة مفادها أنه لا يمكن استيعاب الزيادة السكانية في بلدة ما لتعذّر إمكانية توسيع مسطحها (مبررين ذلك بالحجج التقليدية المألوفة)، ولذلك فالحل يكمن في نقل المواطنين الى البلدة الشريكة في الدمج. وما العجب؟ أليست هاتان البلدتان تقعان في سلطة محلية واحدة؟ ونؤكد أن ليس هذا ضرباً من الخيال، بل أن المخطط اللوائي للواء الشمال يوفر الأرضية القانونية لمثل هذه الممارسات التي ربما تبدو الآن مستهجنة وغير واردة.

وفي غالبية البلدات المرشحة للدمج فإن كثافة البناء (وهي عدد الوحدات السكنية للدونم) التي ستفرضها لجان التنظيم ستتضاعف. فالمقياس الذي تعتمده مؤسسات التنظيم والبناء لتحديد كثافة البناء في أي بلدة يتعلق بعدد السكان فيها. فكلما ازداد عدد السكان ازدادت الكثافة المطلوبة في البلدة. وبما أن الدمج يؤدي الى ارتفاع ملحوظ في تعداد السكان في كل سلطة جديدة ناشئة عنه، فإن كثافة البناء التي ستفرض على هذه السلطة ستكون أعلى بكثير عما كانت علية في البلدات المكونة للسلطة المدمجة.

خلق الصراعات بين البلدات على تقاسم الميزانيات:

وآخر ما نريد الإشارة ألية في تقييم خطة الدمج هو فيما يتعلق بتوزيع الميزانيات وأعمال التطوير على البلدات المنضوية تحت سقف سلطة محلية واحدة. إننا نشهد اليوم نقاشات محلية في العديد من السلطات حول أوجه العدالة والمساواة في توزيع الخدمات والمرافق وأعمال التطوير ما بين الحارات المختلفة في نفس البلدة. وكثيرًا ما يساهم هذا النقاش في تأجيج الخلافات الداخلية في كل بلدة. فإلى أي حال سنصل عندما يصبح النقاش عابرًا للبلدات والقرى؟ وهل ستنتقل حُمّى الصراعات الداخلية التي تئنّ تحت وطأتها بلداتنا الى العلاقات بين البلد وجاره؟

تعميق الفصل بين اليهود والعرب:

وبالرغم من التشدق بأن المعيار الأساسي في اختيار السلطات المرشحة للدمج هو اقتصادي ويسعى لرفع النجاعة والفاعلية والتكامل بين البلدات المختلفة، فالحقيقة هي أن المعيار الأسمى الذي اعتمد في صياغة الخطة هو استمرار عزل اليهود عن العرب في سلطات منفصلة. وإلا، لماذا لم تدمج عين ماهل، التي أوضحنا وضعها سابقاً، مع نتسيرت عيليت، وهما سلطتان متداخلتان تمامًا؟ أو لماذا لم تدمج نتسيرت عيليت مع الناصرة ؟ نتساءل ليس من منطلق أن هذا ما نريد وما نقترح بل لإظهار أن كل المعايير المهنية في هذه البلاد تخضع في نهاية الأمر لمعيار السياسة.

خاتمة

لا نبالغ إذا قلنا إن هناك العشرات بل المئات من الملاحظات والتحفظات على خطة الدمج المقترحة. وكل واحدة منها جديرة بالاهتمام والدراسة والتمحيص. فالدمج لا يمكن أن يكون نتيجة نزوة عابرة ولا شطحة فكرية أو مجرد تجربة اعتباطية لأنه يحمل في طياته قضايا ترتبط بحياة الناس وأحاسيسهم ومستقبلهم.

لذا فإن الموقف المسؤول والواقعي يحتم معارضة خطة الدمج والنضال ضدها بدون هوادة. ولا ضير في أن نفكر ملياً وبروية في كيفية توفير الظروف المواتية للتكامل والتعاون بين بلداتنا، وصولاً ربما إلى الدمج والوحدة في المستقبل، ولكن ليس تحت تهديد الدمج الفوري المسلط فوق رقابنا.

ولا شك في أنه من واجب السلطات المحلية العربية أن تضطلع بالدور القيادي للتصدي لخطة الدمج وإفشالها تحت مظلة ولواء اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية ولجنة المتابعة العليا.

ويجب أن تتحمل الهيئات المحلية في كل بلدة قسطاً وافرًا من النضال ضد الخطة سواء كانت فروعاً للأحزاب السياسية أو كتلاً ممثلة في السلطة المحلية أو نوادٍ أو فرقاً رياضية أو لجان أولياء أمور الطلاب وغيرها. وعلى هذه الهيئات أن تنسق عملها مع السلطة المحلية وأن تسمع صوتها أمام اللجان الوزارية الرسمية المخولة باتخاذ القرارات بخصوص الدمج.

* الدكتور حنا سويد رئيس المجلس المحلي عيلبون، ورئيس "المركز العربي للتخطيط البديل".

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, القراءة الأولى, مجلس اقليمي

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات