ثلاثة ابحاث اكاديمية جديدة تبين ان اربعة من كل عشرة صبية اسرائيليين يهود (42,7%) يعانون من درجة تتراوح بين معتدلة وحتى خطيرة جدًا من اعراض ما بعد الصدمة، و 15% منهم وصفوا هذه الاعراض بأنها بدرجة ما بين متوسطة وخطيرة جدًا، وابلغ 9% عن اعراض بستوى كليني (سريري).
لعل بحث الدكتورة افيطال لاوفر، من معهد "ادلر" لدراسة الاطفال المعرضين للخطر، التابع لجامعة تل ابيب، هو اشمل بحث يتم منذ اندلاع الانتفاضة حول <<تآثير الارهاب على اطفال اسرائيل اليهود>>.
وتبدو معطيات البحث، الذي تم في فترة حافلة بالعمليات الانتحارية والموت (ايار - حزيران 2002) قاسية للغاية. وقد أجملتها صحيفة "هآرتس" في مقالة كتبها عكيفا الدار في صحيفته (24/4)، كشفت عن المعطيات المهة التالية التي تضمنها البحث:
شارك نحو 3000 صبي في البحث الذي شمل (11) مجموعة من الاولاد في صفوف السابع والثامن والتاسع من مدارس قائمة على جانبي <<الخط الاخضر>>.
وقال حوالي 70 في المئة من هؤلاء التلاميذ انه كان لحوادث <<الارهاب>> تآثير معين على حياتهم. وصرح ثلث المشمولين بالدراسة انهم يعرفون شخصًا ما اصيب في <<عملية ارهابية>>، وابلغ 20 في المئة عن ان احد اقاربهم تعرض لحوادث <<ارهاب>>، فيما اصيب نحو 2% من الاولاد انفسهم بشكل مباشر في عمليات <<ارهابية>>. وتبين معطيات الدراسة ان كل صبي من ابناء المستوطنين القاطنين في "غوش قطيف" (بقطاع غزة) تعرض بالمتوسط لنحو 10 حوادث <<ارهابية>> من بين 17 حادثاً وقعت في الفترة ذاتها، مقابل صبي واحد من بلدة "رحوبوت" (جنوبي تل ابيب) تعرض بالمتوسط الى حادثين.
وتشير معطيات الدراسة الى ان اربعة من كل عشرة صبية اسرائيليين يهود (42,7%) يعانون من درجة تتراوح بين معتدلة وحتى خطيرة جدًا من اعراض ما بعد الصدمة، 15% منهم وصفوا هذه الاعراض بأنها بدرجة ما بين متوسطة وخطيرة جدًا، وابلغ 9% عن اعراض بستوى كليني (سريري). ويتضح ان درجة اعراض ما بعد الصدمة اعلى لدى الاولاد الصغار الذين تعرضوا لعدد اكبر من حوادث <<الارهاب>>، خاصة لدى الذين ينتمون لعائلات تقليدية او علمانية. اعراض ما بعد الصدمة بأشكالها الاشد خطورة هي ما جرت العادة على تسميته بـ "اصابة صدمة".
مستوطنات "غوش قطيف" تتصدر اللائحة
المدارس الخمس التي وجدت فيها اعلى درجة من اعراض ما بعد الصدمة هي (حسب الترتيب من الاعلى الى الادنى): غوش قطيف (مشتوطنات القطاع)، المدرسة الدينية في "ارئيل" (المستوطنة)، المدرسة الدينية في رحوبوت، المدرسة الدينية في نتانيا، و مدرسة كريات اربع. اي ان المدارس الخمس المتصدرة هي مدارس دينية. وقد اظهر فحص حسب اعراض ما بعد الصدمة على مستوى كليني صورة مشابهة (مدرسة "كارني شومرون" – مستوطنة - حلت مكان "كريات اربع" – المستوطنة القائمة على اراضي الخليل - في المكان الخامس).
المكان المتقدم الذي تحتله نتانيا، يجد تفسيرًا له في كونها مدينة مثخنة بالهجمات. رحوبوت لم تشهد وقوع هجمات (لكن ريشون لتسيون المجاورة لها عرفت هجمات عديدة) وهو ما يمكن ان يقود الى الاستنتاج بأنه لا توجد بالضرورة صلة بين نسبة اعراض ما بعد الصدمة والقرب الجغرافي للهجمات.
وتظهر مقارنة مع دراسة سابقة ان نسبة اعراض ما بعد الصدمة بالمستويات العالية ققزت في غوش قطيف خلال سنة واحدة من 7,6% الى 13%. العامل الاساسي الذي يساهم اكثر من غيره في تطور اعراض ما بعد الصدمة هو مستوى الخوف لدى الاولاد.
وتفسر الباحثة الفرق بين مستوى الاعراض لدى الاولاد المتدينين والعلمانيين بـ "الاهتمام بسلامة الاخرين". وتقول ان "الخوف على سلامة الاقارب يشكل الحدث الاهم المرتبط بمستوى عال من الخوف. من المحتمل جدًا ان الاولاد المتدينيين في رحوبوت ونتانيا لديهم اقارب اكثر يعيشون في المناطق التي تتعرض لاعمال <<الارهاب>>، او ان اقاربهم مرتبطون اكثر بصلات زيارة مع اشخاص يعيشون في هذه المناطق، مقارنة مع الاولاد العلمانيين".
تعتبر اعراض ما بعد الصدمة من اشد ردود الفعل التي يتم تفحصها بصورة منهجية في الادبيات النفسية.
فمن المحتمل ان تظهر نتيجة لحادث الصدمة اعراضُ ضائقةٍ تتسم بثلاثة اشكال اساسية:
استرجاع او تذكر لا ارادي للحادث، يشمل ذكريات خاطفة وكوابيس ليلية، وردود فعل تنم عن ذعر وافكار او هواجس مزعجة.
الشكل الثاني يتمثل بـ الاستنكاف او الامتناع، ويظهر ذلك بصورة تراجع مستوى الاهتمام بالنشاطات المختلفة والشعور بالعزلة.
الشكل الثالث، اليقظة الزائدة بما في ذلك مواجهة مصاعب في الخلود الى النوم، وهبوط مستوى التركيز وانعدام الهدوء والطمأنينة.
تبلغ نسبة الذي يعانون من هذه الاعراض بين الاولاد حوالي 10% في فترات الهدوء وترتفع الى 60% في فترات الحرب.
البروفسورة زهافا سلومون التي تترأس مركز ادلر، تشعر بالقلق ازاء تعرض الاطفال الاسرائليين المستمر للموت الناتج عن صدمات وتقول: <<يعتبر الاولاد بصورة عامة متفائلين للغاية في مجتمعنا. فهم يتطلعون الى الامام ويحظون بتخطيط لمستقبلهم. ولكن الاولاد الذين عانوا من صدمة يظهرون بصورة عامة جزَعًا ازاء مستقبلهم. وكحال الجنود الذين يعانون من صدمة ويشيخون قبل اوانهم، فان الاطفال الذين يمرون بصدمة يكبرون بسرعة اكثر ويفقدون براءتهم بصورة مبكرة>>.
وكان مركز "ادلر" اجرى بحثين آخرين تفحص فيهما ايضًا تأثير العنف على الاطفال الفلسطينيين. شمل البحث الذي اجرته تمار ليبائي، التي تعد رسالة الدكتوراة في معهد "ادلر"، مجموعة عينة مكونة من 1300 ولد تتراوح اعمارهم بين 13 عامًا و 15 عامًا، يقطنون في ست مناطق مختلفة من اسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية، وقد جمعت معطيات البحث في صيف العام 2001، قبل عملية "السور الواقي"، ولذلك فانها توفر أساسًا للمقارنة مع بحث "لاوفر".
وقد سئل الاولاد الفلسطينيون الذين ولدوا في سنوات الانتفاضة الاولى، عن احداث تسببت بصدمة لهم، وعن ازمات نفسية واعراض ما بعد الصدمة، وعن مواقفهم تجاه حل النزاع.
اظهرت دراسة ليبائي ان 70% من الاطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية عانوا من اعراض ازمة ما بعد الصدمة، وهو ما وجدته الدراسة ذاتها بالنسبة لـ 30% من اطفال المستوطنات. نسبة الاطفال الفلسطينيين الذين تبين انهم يعانون من الاعراض المذكورة، تساوي تفريباً نسبة الاطفال الذين عانوا من اعراض مماثلة في الكويت بعد غزو العراق لها مطلع التسعينيات.
احدى النتائج المفاجئة التي تضمنها بحث ليبائي تتمثل في النسبة المرتفعة (50%) لأعراض ما بعد الصدمة بين اطفال الوسط العربي في اسرائيل، على الرغم من نسب تعرضهم المنخفضة، نسبيا، لأعمال الارهاب، وهذا كما اسلفنا في صيف 2001، اي خلال السنة الاولى من الانتفاضة. وتقول البرفسورة "سلومون" في تعقيب لها على هذه النتائج ان <<عرب اسرائيل حساسون ليس فقط بحكم تعرضهم وانكشافهم المباشر لاحداث فاجعة، وانما ايضًا بسبب مكانتهم الخاصة. فهم عرضة لتهديد الارهاب كحال اي اسرائيلي اخر، لكنهم يشعرون بعدم الامان والتهديد المتأتيَين ايضًا جراء تخوفهم من كراهية الاسرائيليين الاخرين>>.
وتضيف سلومون ان مجريات الانتفاضة <<قضت على ثقتهم، المهزوزة اصلاً، بالسلطات الاسرائيلية، مما جعل الكثيرين منهم (اي عرب اسرائيل) يشعرون بالاهانة و الغدر>>. احد المعطيات القاسية الاخرى التي توصلت اليها دراسة ليبائي تظهر ان 37% من اطفال الضفة الغربية عانوا من مستويات ضائقة مرتفعة (4 او 5 درجات في سلم مكون من خمس درجات) وذلك مقارنة مع 19,3% بين الاطفال العرب من مواطني اسرائيل .
في حي (مستوطنة) غيلو بالقدس وجد ان 5,2% من الاطفال يعانون من مستويات ضائقة مرتفعة.
وبعد مرور سنة تضاعفت نسبتهم 3 مرات لتصل الى 16%، كما اظهر بحث اجرته د. روت فات - هورنشيك لحساب المركز الاسرائيلي لسيكولوجيا الصدمة.
صلة محتملة بالعمليات الانتحارية
الفهم الذاتي لهذه الاحداث جرى تقديرة في بحث ثالث عرض امام معهد "ادلر" اجراه د. شفيق مصالحة، في صفوف اطفال تتراوح اعمارهم بين 10 سنوات و 11 سنة يقطنون في مخيمين للاجئين احدهما في الضفة الغربية والاخر في قطاع غزة.
وينقل البحث احاسيس وهواجس الاطفال الفسطينيين بلغتهم الخاصة. وهي دراسة نوعية لا تستند الى عينة تمثيلية.
طلب مصالحة من الاطفال ان يكتبوا عن ثلاثة احلام. 75% منهم قالوا انهم حلموا بمواجهات عنيفة مع الاسرائيليين، وقد تضمنت احلام 53% من هؤلاء حصول صدام عنيف بين الطفل ذاته والجيش الاسرائيلي. وتعكس هذه الاحلام ايضًا احساسًا عميقًا بانعدام الأمن الذي يشعر به الاطفال الفلسطينيون في كل مجالات الحياة سواء في البيت او المدرسة او المجتمع، وهي الاماكن التي يفترض ان يحس فيها الاطفال بالأمان والطمأنينة. وتتكرر في الاحلام هواجس الخوف والرعب التي لا يوجد ملاذ منها.
وقد اعتبرت الاحداث العنيفة بأنها تنطوي على اثار مرضية مستمرة، وتتسبب بمشكلات سيكولوجية وسلوكية.
احد الاحلام المنتشرة بين الاطفال الفلسطينيين كان على النحو التالي: "حلمت بان المدارس فتحت ابوابها. عندما ذهبت الى المدرسة فوجئت من الهدوء السائد. سألت شقيقتي: "لماذا لا توجد اي مظاهرات"؟ فأجابت: "لأن الجنود يطوقون المدرسة والمخيم".
وتقول "سلومون" ان آثار التجارب المتكررة جراء الحرب و<<الارهاب>> قوية وهدامة اكثر من اثار الصدمات المتفرقة. فمثل هذه التجارب تآتي مصحوبة باحساس دائم من الترقب والانتظار لضربة اخرى، وبجهود جبارة من جانب الاطفال لحماية انفسهم من هواجس وكوابيس هذه التجارب التي تؤدي الى احداث تغييرات في الشخصية تعبر عن نفسها في مشاعر غضب واغتراب وحزن وعزلة. وتجد الطفل يبذل طاقة نفسية هائلة في نشاطات اعتيادية كالنهوض من النوم صباحًا، كما ان اي ضجة تجعله (اي الطفل) يهتز واثبًا متاهباً، وهو ينتظر ان تحل المصيبة التالية في اي لحظة. وفي ظل مثل هذه الظروف من الصعب على الطفل التركيز في دروسه حتى في الايام التي تكون فيها ابواب المدارس مفتوحة. ان الانكشاف او التعرض المستمر للعنف، والاحساس بالخطر الذي لا مناص منه، والتغيرات الاجتماعية الناجمة عن الانتفاضة، ادت مجتمعة الى تغييرات شخصية دائمة لدى اطفال الانتفاضة. ومن المحتمل ان يفقد الاطفال الذين مروا بصدمة من قدرات وملكات التطور التي اكتسبوها (كالنطق او السيطرة على جهاز التبول) وفي صفوف الشبان قد يؤدي التعرض للصدمات الى سلوكيات شاذة او منحرفة تفضي الى تدمير الذات، ولا سيّما الادمان على المخدرات او الجنس فضلا عن ردود فعل عنيفة.
وتشير "سلومون" الى صلة محتملة بين وضع اطفال الانتفاضة وظاهرة الانتحاريين. وتقول ان <<الانتحاريين ينبثقون من تربة خصبة بالاحباط واليأس. فهم لا يتعلمون ولا يعملون ولا يملكون تصورًا حول ما سيكون عليه غدهم. فما هي قيمة حياتهم اذن؟! في الوقت نفسه فان المجتمع الذي يعيش هؤلاء الشبان في ظله يجل الشهيد ويقدم العون لاسرته>>. وتضيف سلومون: <<ان الاطفال الذين تمتلىء احلامهم بالكوابيس المرعبة سوف يتحولون في كبرهم الى اناس محبطين، وساخطين، ومفتقدين الى الكفاءات والمواهب، اناس يرون في انفسهم مخلوقات عديمة الجدوى. وليس من الصعب تكهن النتيجة بعد عدة سنوات، عندما تضاف الى كل هذه العوامل حوافز التعصب الديني>>.
وبحسب ما تقوله البروفسورة سلومون فقد كان بالامكان بثمن قذيفة واحدة اقامة ملعب كرة قدم في كل منطقة بما يوفر – حسب رأيها - مخرجًا مختلفًا لمظاهر العداء.