كتب بلال ظاهر:
تنظر المحكمة العليا الاسرائيلية، الثلاثاء القادم، بتركيبة موسعة مؤلفة من سبعة قضاة برئاسة رئيس المحكمة، القاضي أهارون براك، في التماسات قدمها في الايام الاخيرة الماضية كل من "جمعية جودة الحكم في اسرائيل" والنائبين يوسي سريد (ياحد- ميرتس) وايتان كابل (العمل) ضد قرار المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية، مناحيم مزوز، بعدم مقاضاة رئيس الحكومة الاسرائيلي، اريئيل شارون، ونجله جلعاد، حول ضلوعهما في قضية "الجزيرة اليونانية" وقضية "اراضي غيناتون" والشبهات بتلقي شارون الرشاوى من رجل الاعمال ديفيد أبيل. من جهة أخرى، سيتم يوم الخميس المقبل، نشر التقرير الذي قدمته القاضية في المحكمة العليا والمدعية العامة الاسرائيلية السابقة، عيدنا اربيل، لمزوز وأوصت فيه بتقديم لائحة اتهام ضد شارون ونجله جلعاد لضلوعهما في القضيتين المذكورتين. ويذكر ان اربيل كانت ارفقت توصيتها بمسودة لائحة اتهام ضد الاثنين.
يشار الى ان مزوز كان اقام طاقما من الخبراء القانونيين العاملين في النيابة العامة لفحص تقرير اربيل وتوصيتها بتقديم رئيس الحكومة الاسرائيلي للمحاكمة. وبعد دراسة استمرت عدة شهور لتقرير اربيل، وسبعة من كبار العاملين في النيابة، اصدر مزوز تقريرا، الاسبوع الماضي، اعلن من خلاله عدم وجود ادلة كافية في ملف "الجزيرة اليونانية" و"اراضي غيناتون" ضد شارون، لتقديم لائحة اتهام ضده وضد نجله. ورغم انه تم في الاسابيع التي سبقت صدور قرار مزوز تسريب معلومات الى وسائل الاعلام الاسرائيلية تفيد بان مزوز ينوي اغلاق الملف ضد شارون، الا ان اعلان مزوز عن إغلاق الملف، الثلاثاء الماضي، اثار ضجة كبيرة في المحافل السياسية والقضائية الاسرائيلية لا تزال اصداؤها تتردد حتى اليوم. وانقسمت الحلبة السياسية الاسرائيلية الى قسمين: اليمين رحب بالقرار واخذ يهاجم اربيل وصعّد المطالبة بالعدول عن تعيينها قاضية في المحكمة العليا. واليسار عبر عن استيائه من القرار وراح يدافع عن اربيل ويوجه اتهامات لمزوز ويصف تقريره بانه لائحة دفاع عن شارون وان التقرير يشكل "نهاية لعهد محاربة الفساد".
غير ان الضربة الاقوى من تقرير مزوز تلقتها النيابة العامة وخصوصا اربيل. فقد اتهمها مزوز بانها وضعت شارون هدفا امامها. وقال ان النيابة لم تتصرف بمسؤولية في الملف ضد شارون. وكان توجيه الاتهامات للنيابة العامة اكثر ما أثار الغضب على مزوز. فقد قلب الامور رأسا على عقب، حيث دافع عن شارون ونجله ووضع المدعية العامة ومعها النيابة في قفص الاتهام.
الجدير بالذكر انه منذ الكشف عن ان النيابة العامة وقسم التحقيقات في الشرطة يحققان في الملف الذي ينسب لشارون شبهات بالفساد وتلقي الرشوة، تبارت وسائل الاعلام الاسرائيلية في الكشف عن تفاصيل التحقيق. ومن بين هذه التفاصيل ان رجل الاعمال ابيل دفع مبالغ طائلة الى حسابات مصرفية تابعة لشركة "مزرعة هشكميم"، هي مزرعة شارون في النقب. وجرى الادعاء بان شارون لا يدير هذه الحسابات وانه ليست له اية علاقة بها وانما نجله هو الذي يدير هذه الشركة. ولكن مزوز قال في تقريره ان جلعاد شارون كان يقدم الاستشارة لأبيل بخصوص مشروع "الجزيرة اليونانية"، التي كان ينوي ابيل اقامة مدينة سياحية كبرى فيها. ولا يتلاءم تقرير مزوز في هذه المسألة مع جملة قالها أبيل لشارون الاب ان "ابنك سيجني ارباحا طائلة" خلال الفترة التي سعى فيها ابيل لشراء "الجزيرة اليونانية". ويشار الى ان شارون لم ينف ان أبيل قال له هذه الجملة. واكدت التقارير الصحفية على ان جلعاد شارون لا يملك الخبرات لتقديم مشورة لابيل في الاعمال التي يمارسها الاخير.
في المقابل ادعى طاقم المحامين، الذي يدافع عن شارون، انه عندما جرى الحديث عن "الجزيرة اليونانية" كان شارون في المعارضة وان احدا لم يتوقع ان يصبح رئيسا للحكومة. ولكن تحقيقات صحفية نشرتها صحيفة "يديعوت احرونوت" افادت بان بداية المشروع كانت عندما تبوأ شارون منصب وزير الخارجية في حكومة بنيامين نتنياهو، في العام 1998. في تلك الفترة كان ابيل بحاجة الى دعم من شارون ورئيس بلدية القدس في حينه والقائم باعمال رئيس الحكومة الحالي، ايهود اولمرت، للتوسط لدى شخصيات في الحكومة اليونانية من اجل الموافقة على ان ينجز ابيل مشروعه في الجزيرة. وفعلا اعترف اطراف القضية بان ابيل دعا شارون واولمرت ورئيس بلدية اثينا ونائب وزير الخارجية اليوناني، في العام 1998 ، الى مأدبة عشاء.
كذلك كشفت تحقيقات صحفية أن جلعاد شارون كان يتلقى راتبا شهريا من أبيل بقيمة 20 الف دولار تقريبا، وذلك في الفترة التي كان فيها الليكود في المعارضة. ولكن فور انتخاب شارون لرئاسة الحكومة في العام 2001 حوّل ابيل لحساب مزرعة "هشكميم" مبلغ مليون شيكل، وبعدها اصبحت تحويلات الاموال بحجم كبير، مما دفع عددًا من الذين ينتقدون قرار مزوز يؤكدون انه مع تولي شارون رئاسة الحكومة اصبحت "التسعيرة أعلى"..
القضية الاخرى، التي اغلق ملف التحقيق فيها ضد شارون، هي "اراضي غيناتون". وهي اراض زراعية تابعة لموشاف غيناتون، القريب من مدينة اللد، وكان أبيل قد اشترى مساحة واسعة من الاراضي فيه. وبحسب الشبهات فان ابيل قدم الرشوة لشارون ايضا من اجل ان يقوم الاخير، بصفته وزيرا للبنى التحتية عندما تم شراء هذه الاراضي، بتحويل اهداف استخدام هذه الاراضي، من اراض زراعية الى اراضي يسمح البناء فيها. واظهرت تحقيقات ان ابيل قد اعد الخرائط لبناء حي سكني كبير فوق هذه الاراضي.
واعتبر موشيه نغبي، وهو أحد ابرز المحللين الاسرائيليين في الشؤون القانونية، في حديث خاص لـ"المشهد الاسرائيلي"، قرار مزوز باغلاق ملف التحقيق ضد شارون ونجله على انه "عملية تخريب خطيرة للغاية لسلطة القانون". " بل انني- أضاف- اعتبر هذا القرار بمثابة عملية انتحارية نفذها مزوز ضد قيادة سلطة القانون. فقد هدم الاسس التي من المفترض به، سوية مع المسؤولين عن سلطة القانون، حمايتها. اذ ان مهمته الاساسية تكمن في الحفاظ على مصداقية جهاز القانون وثقة الجمهور بهذا الجهاز. عندما يقول مزوز ان نخبة النيابة العامة تتصرف بعدم استقامة وتحيك ملفات وتقرر النتائج مسبقا وتتساوق مع املاءات (اربيل) وتقدم لوائح اتهام من دون الاستناد الى قاعدة، فانه بكل تأكيد يجعل الجمهور يفقد الثقة بمصداقية الجهاز القضائي".
ويشار الى ان المسؤولين في النيابة العامة اعلنوا عن استيائهم من مزوز بعد نشر تقريره ووقعوا على عريضة وجهوها اليه مطالبين اياه من خلالها بالتراجع عن انتقاداته لهم وتقديم الاعتذار. وفي اعقاب ذلك عمم مزوز رسالة عليهم قال فيها انه لم يوجه الانتقادات لهم وانه يثق بهم. كذلك بادر وزير القضاء، يوسف لبيد، الى عقد اجتماع بين مزوز والمسؤولين في النيابة العامة لتسوية الامور بين الطرفين. وكان مزوز قال انه وجه انتقادات الى اربيل، التي لم تتمكن من التعقيب بعدما تم تعيينها قاضية في المحكمة العليا قبل اقل من شهرين.
وقال نغبي ان "ما يزيد من خطورة تفاقم انعدام الثقة هو ان مزوز بعد ان هاجم النيابة العامة يدعي انه ما زالت لديه ثقة كاملة بالنيابة. وهذا امر غير مقبول. وثمة امكانيتان: اذا كانت ادعاءاته صحيحة فكيف يثق بهم ولماذا يسمح لهم بمواصلة تقديم لوائح اتهام. من جهة ثانية اذا كان يثق بالنيابة، كيف يتناسب ذلك مع اتهاماته لهم. انا اعتقد اننا امام حالة خطيرة الى ابعد حد، خصوصا انه هاجم النيابة، وعلى رأسها اربيل، من دون وضع الاساس لادعاءاته. كذلك فانه لم يراع اصول العدل عندما هاجم النيابة من دون السماح بنشر تقرير اربيل وادعاءاتها بالقضية. ولكنه الان فقط اعلن انه سينشر تقرير اربيل بعد تهديده بالتوجه الى المحكمة العليا".
"ولكن الامر الاخطر من كل ما تقدم- زاد نغبي- إنما يكمن في اضفاء مزوز الشرعية على منح مبالغ طائلة لنجل رئيس حكومة من جانب شخص (ابيل) بحاجة ماسة الى رئيس الحكومة للتقدم في مصالحه الشخصية. وقد تم اثبات مسألة حاجته الماسة الى رئيس الحكومة. وهو (ابيل) لم ينف ذلك. ولكن ما زال السؤال هو: لماذا تلقى نجل رئيس الحكومة هذه الاموال؟ ولماذا اختار نجل رئيس الحكومة ليحصل على هذه الاموال؟".
* "المشهد الاسرائيلي": ما هي دوافع مزوز ليصدر تقريرا كهذا، يبريء من خلاله ساحة شارون ونجله؟.
نغبي: "لا اعرف. فالقرار غير عقلاني الى حد كبير يجعل من الصعوبة بمكان ان يقيم المرء دوافع مزوز".
ونفى نغبي ان تكون النيابة العامة قد وضعت هدفا امامها يتمثل في محاكمة شارون، كما ادعى مزوز في قراره. واضاف انه عندما يقول مزوز مثل هذا الادعاء فعليه ان يوفر الاثبات قبل كل شيء. "والامر الاهم هو انه اذا كان يعتقد ان النيابة استهدفت شارون، فكيف يقول ان لديه ثقة بالنيابة وكيف يواصل هؤلاء عملهم".
واكد نغبي على ان غالبية الطاقم الذي اقامه مزوز لدراسة تقرير وتوصيات اربيل هو من أشخاص غير متخصصين في القانون الجنائي وذلك خلافا لطاقم اربيل الذي تكون من متخصصين بارزين في القانون الجنائي، وهو الطاقم الذي اوصى بتقديم لائحة اتهام ضد شارون. ولذلك يعتقد نغبي ان مزوز اخفق بشكل كبير وخطير في معالجة ملف شارون. واردف قائلا: "اما ان يكون ما حصل يعبر عن اخفاق في معالجة هذا الملف او ان الامر كان مقصودا"..
يشار الى ان عملية تعيين اربيل في المحكمة العليا رافقها هجوم شرس للغاية ضد التعيين، على خلفية تقديمها عددًا من لوائح الاتهام ضد سياسيين وشخصيات عامة اسرائيلية، كان اخرها التوصية بتقديم لائحة اتهام ضد شارون. وقد شاركت في الحملة الشعواء ضد تعييين اربيل في المحكمة العليا صحيفة "معاريف"، بعد ان كانت اربيل قد وجهت لائحة اتهام ضد صاحب الصحيفة، تاجر الاسلحة الاسرائيلي المعروف، يعقوب نمرودي (وهو مقرب جدا من شارون بالمناسبة) وضد نجله عوفر نمرودي. واعتبر نغبي ان الهجمة ضد اربيل في حينه استهدفت اخافة مزوز لئلا يتخذ قرارا ضد شارون. "فالامر الثابت في هذه القضية ان قرار مزوز لا يمكن ان يقبله أي عقل فهو قرار غير مفهوم وغير عقلاني".
ويبدو ان مزوز يواجه مشكلة جدية لدى بدء نظر المحكمة العليا في الالتماسات ضد قراره. لكن نغبي يؤكد انه من الصعب توقع قرار المحكمة في هذا الخصوص، لكنه اشار الى ان المحكمة العليا قد تطلب من مزوز اعادة النظر في قراره وبحثه من جديد. وهذا يعني، برأيه، ان المحكمة ستلغي قرار مزوز من دون إثارة ضجة كبيرة حول ذلك.