المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 830

تدأب إسرائيل، في الآونة الأخيرة، على الظهور في مظهر المبادر إلى خطوات ترمي من ورائها إما إلى الحؤول دون قوننة العنصرية أو إلى عدم إخضاع وجود العنصرية الشّاطة وأحكامها في الواقع إلى اختبار القانون.

 

 

مهما تكن هذه الخطوات تجدر الاشارة، مثالاً، إلى إلغاء مناقصة لـ"دائرة أراضي إسرائيل" على بيع قسائم أرض مخصصة لليهود في مدينة كرميئيل، تمامًا قبيل استنفاد البحث القضائي في الموضوع. قبل ذلك وبعد نضال دام أكثر من تسع سنين، أقرت المحكمة العليا الاسرائيلية، بتاريخ (2/9/2004)، بحق عائلة قعدان في شراء قطعة أرض في بلدة كتسير اليهودية وبناء بيت العائلة على هذه الارض.
ورفض قضاة المحكمة العليا معارضة الجمعية التعاونية كتسير لقرار "دائرة اراضي اسرائيل" بتخصيص قطعة أرض لعائلة عربية في البلدة. بل إن أحد القضاة وجه، خلال جلسة المحكمة، انتقادا واضحا للجان قبول واستيعاب العائلات في البلدات الشبيهة ببلدة كتسير وطبيعة اتخاذ القرار فيها.
وللمعلومية فإن عائلة قعدان كانت طلبت، في العام 1995 ، شراء قطعة أرض في بلدة كتسير بهدف بناء بيتها هناك. الا ان السلطات، وبينها الجمعية التعاونية كتسير و"دائرة اراضي اسرائيل" والوكالة اليهودية، رفضت السماح للعائلة بشراء أرض. واضطرت العائلة في أعقاب ذلك للتوجه الى القضاء بواسطة "جمعية حقوق المواطن". وأصدرت المحكمة العليا الاسرائيلية قرار حكم في آذار 2000 جاء فيه انه لم يكن يتوجب على دولة اسرائيل بحسب القانون "تخصيص أراض تابعة للدولة إلى الوكالة اليهودية من اجل اقامة بلدة كتسير على أساس التمييز بين اليهود وغير اليهود".

 

ومنذ العام 2000 حاولت السلطات عمل كل شيء ممكن من أجل عدم تنفيذ قرار المحكمة العليا، بما في ذلك اتباع اسلوب المماطلة بهدف تيئيس عائلة قعدان ودفعها الى التنازل عن حقها في شراء قطعة أرض في بلدة كتسير، وأيضًا تشويه الصورة الحقيقية لعائلة قعدان.

 

ونذكر في هذا الصدد أن الحكومة الإسرائيلية نفسها سبق لها أن التفت قبل أكثر من عامين على قرار اتخذته وقضى بتأييد قانون عنصري جرى طرحه في حينه على أجندة الكنيست بشأن تخصيص "الأراضي العمومية" لليهود فقط، والذي بدوره جاء لكي يلتفّ على قرار صادر عن المحكمة الإسرائيلية العليا قبل سنتين من ذلك التاريخ في هذا الشأن، والذي أشرنا إليه فيما سبق.

وكان التفاف الحكومة هذا قد بدا في وقته أمرًا شبه حتميّ. فقد تحدثت عنه أطراف عديدة حتى قبيل الاعلان، رسميًا، عن أن نية الحكومة متجهة صوب إعادة البحث بالموضوع خلال جلسة مقبلة. ومن هذه الأطراف صحيفة "هآرتس"، التي كتبت في مقال إفتتاحي تقول: "إقرار مشروع القانون من جانب الحكومة تلازم مع شرط أن ينسق أعضاء الكنيست المبادرون إلى تشريعه الكامل بعض تعديلات على مسودته مع سكرتير الحكومة. وهذا الشرط لوحده في مقدرته أن يسعف الحكومة في النزول عن شجرة العنصرية العالية التي تسلقت عليها".

 

ومهما يكن من أمر فإن متابعة ما صدر من تعليقات على التصويت الأول للحكومة، تأييدًا لمشروع القانون المذكور، وكذلك على إتضاح النوايا في التراجع عنه (وهو تراجع لزج، لأنه ليس لناحية معارضته وإنما انتظار ما ستسفر عنه أبحاث لجنة حكومية خاصة في هذا الشأن)، كان لا بدّ لها أن تقف على تقييمات متطابقة أدرجت قيام "حكومة ما في إسرائيل" بإعلان تأييدها لـ "قانون عنصري" على رؤوس الأشهاد في خانة "أخطاء تكتيكية" ارتكبتها الدولة العبرية على مرّ تاريخها.

غير أن الفارق عن أخطاء أخرى يكمن في ان هذا الخطأ هو من ذلك الصنف الذي يشفّ عن الخطيئة الأصلية لإسرائيل- خطيئة اللدغة العنصرية الكولونيالية التي إنطوت عليها فكرة إقامتها أولاً وظلت ملازمة لها دائمًا.

في الواقع الذي كان سائدًا والمستمر حتى يومنا هذا لا يمكن مقاربة موقف الحكومة الإسرائيلية إياه في معزل عن "تاريخيته"، المحددة أساسًا بوضعية الانزياح العام نحو اليمين. هذه الوضعية لا تنفك تغلب على إسرائيل حاليًا وتزداد حدّتها من يوم لآخر. وتشكل واحدًا من أبرز مشاغل الكثير من الباحثين والمحللين. ويؤكد هؤلاء، في شبه إجماع، أن بداية هذا الإنزياح يمكن تعيينها في فترة صعود بنيامين نتنياهو الى سدّة الحكم، غير أن مداه صار إلى تعمّق في فترة إيهود باراك أيضًا. ومن علائمه الواضحة توحيد خطاب المركز السياسي في إسرائيل المتمثل في حزبي "الليكود" و"العمل"، ترتبًا- ضمن أشياء أخرى-، على التوصيف المشوّه من جانب الإسرائيليين لما حدث في "كامب ديفيد" ومن ثمّ لمستحصلات "عملية التسوية" برمتها. وطبقًا لهذا الخطاب فإنّ "خيانة" الفلسطينيين لمبدأ التسوية (الذي يحيل إلى "مبدأ" السلام)، لم تبق أمام إسرائيل سوى نتيجة واحدة: محاولة حل النزاع من خلال القوة، لأن ذلك يتسّق في صورة موازية، مكملة، مع غاية "حفظ البقاء" في وجه "أخطار وجودية" داهمة.

مع ذلك فإن حصر التسويغ لموقف الحكومة في تخوم هذه الوضعية هو أقرب إلى التفسير التبسيطي، لكون ذلك يفارق العامل الأهم والأبعد مدى، وهو مبلغ انغراز العنصرية في العمق لدى الغالبية الساحقة من الرأي العام الإسرائيلي، المؤدلجة بالفكر الصهيوني.

 

ومن السهل ملاحظة أن بعض التعقيبات الصحافية طورت "وسائل دفاع" عن فكرة العنصرية وضرورتها لإسرائيل، الآن وهنا، في سبيل الإقناع بها وتوكيد أهمية قوننتها دون مواربة أو تحرّج، من خلال الاستعانة بالحجج عينها التي تردّ كذلك على عوامل توحيد خطاب المركز السياسي. نأخذ نموذجًا على ذلك مقالاً ظهر في "هآرتس" بقلم يسرائيل هرئيل، أحد كتابها الدائمين، دافع فيه عن صيغة قرار الحكومة الأول في مواجهة حملة الانتقاد التي تعرض لها، من منطلق إطلاقي أنه يستحيل أن يكون "موقفًا عنصريًا". بل إنه اتهم القائلين بعنصرية موقف كهذا باقتراف فرية، كاد يقول إنها دموية، بحق إسرائيل.

وردّد مقولة أن "اليهود ليسوا عنصريين"، ملمحًا إلى أنها تكفيه مؤونة الاستغراق في مزيد من التفاصيل. أما الدافع الأرأس لهذا القرار فهو كامن، برأيه، في "حماية" إسرائيل من خطر داهم يتمثل في "سحب الأرض من تحت أقدامها"، من طرف العرب.

دفاع هرئيل هذا، الذي يبدو للوهلة الأولى أنه ينمّ عن خفة لا تحتمل، يحمل في ثناياه عدة "أفكار" تعكس إشارة سالفة إلى العنصرية المغروزة في العمق. لعل أهمها فكرة "المحورية القومية" في أحد أكثر أشكالها بدائية، ومن هذه الفكرة فإن الطريق قصيرة نحو شرعنة العنصرية دون أية غضاضة.

في دلالة طريقها هذه احتلت الفكرة السالفة، تاريخيًا، حيّزًا مركزيًا جدًا في التفكير والتخطيط الصهيونيين. ولا تنفك تنتج أسانيد لها، ليست وليد تباعد الجماعتين بمقدار ما هي وليد العلاقات التي تجمعهما.

داخل هذه الأسانيد لا يزال ثمة موقع بارز لسند التضليل، الذي يعتمد قلب الحقائق رأسًا على عقب، حسبما يتبدى الأمر في التلويح بخطر سحب العرب الأرض من تحت أقدام إسرائيل وفي التلويح بخطر مواز هو اختلال الميزان الديمغرافي لصالح الفلسطينيين (وخصوصًا فيما هو متعلق بالوضع داخل "الخط الأخضر") والذي تدحضه حتى الاحصاءات الإسرائيلية الرسمية الأخيرة حول عدد السكان.

 

لكن إذا عدنا إلى قراري الحكومة بشأن "تخصيص الأراضي العمومية"، الذي يلتفّ واحدهما على الآخر، يمكننا القول أيضًا إن التضليل شكلّ المتكأ الرئيسي للقضية برمتها. حسبنا أن نشير إلى تصريح المستشار القضائي للحكومة آنئذ، الياكيم روبنشطاين، الذي ذكر أن مشروع القانون المذكور غير ضروري بصورة جوهرية، في إلماح صافٍ إلى كون الواقع في إسرائيل، الذي يضبط نطاق الأشياء كلها على إيقاع العنصرية المقنعة، كفيلاً كفايته بممارسة التمييز على أساس عنصري بشكل تسقط معه الحاجة لتشريع قوانين خاصة في هذا المجال من شأن تشريعها أن يسيء، كذلك، إلى سمعة إسرائيل ومكانتها الدولية.

 

في كتابه الصادر مؤخرًا باللغة العربية تحت عنوان "المكانة القانونية للعرب في إسرائيل" يعيد البروفيسور دافيد كريتشمر، أستاذ الحقوق المعروف، التذكير بأن قرار المحكمة الإسرائيلية العليا بشأن تخصيص الأراضي لا يعني التأثير على ترتيبات بعيدة الأمد بشأن سياسة الأراضي التي كانت تمييزية ضد العرب، كما لا يمكن إعتباره قرارًا جارفًا يجعل جميع التقييدات الخاصة المفروضة على أراضي الدولة غير شرعية، ولا يعني أن التمييز على أساس الديانة أو الانتماء للمجموعة القومية- العرقية سيكون غير مشروع دائمًا. بموجب "مبدأ المساواة" فإنه يمكن الطعن في مثل هذا التمييز، لكن المجال مفتوح لإثبات أنه ضروري "في ظروف خاصة لقضية محددة". وإذا قدم مثل هذا الدليل فإن اللجوء إلى مثل هذا التمييز لن يعتبر خرقًا لـ "مبدأ المساواة".

 

من ناحية أخرى، موازية ومكملة، لا يوجد في اسرائيل ذاتها انكشاف عالمي واسع النطاق على التقاليد التي تحتقر العرقية، وتحث على المساواة المدنية، وتعرض جدول أعمال للأقلية العربية أيضا. فاليسار الاسرائيلي (وكذا اليمين الديمقراطي المعتدل) لم يتجرأ أبدًا على الإعراب عن مواقف كفاحية في سبيل المساواة المدنية في كل مجالات الحياة بين اليهود والعرب.

 

لماذا؟، سأل أخيرًا المعلق الصحفي الاسرائيلي نير برعام. وأجاب: قبل كل شيء لأنهم هم أيضا مصابون بالتفكير العرقي. وفضلا عن ذلك، فان الدفاع عن العرب يعتبر في اسرائيل نزعة يساروية خطيرة.

 

أما الحاخامون، الذين يتصدرون عادة الحملات العنصرية، كما في الآونة الأخيرة بالارتباط مع محاولات دفع خطة الانفصال الأحادي عن غزة إلى الأمام، فإنهم لا يُصدمون أبدًا من جراء فعلتهم الفاسقة هذه، كونهم جميعًا يعرفون بأن العنصرية في إسرائيل هي ظاهرة تقطع الأحزاب وتكمن عميقا في السلطة الحاكمة نفسها. وفي رأي برعام فإنه يجدر بالاسرائيليين ان يقرأوا الترجمة العبرية لكتاب "الحربة والإبرة" (مختارات من النصوص الفرنسية ضد اليمين المتطرف) كي يفهموا كيف يتم خلق تقاليد قتال عنيد ضد اليمين المتطرف، تماما لأن مواقفه التبسيطية تتغلغل في عقول الجماهير وتكتسب العطف. فالشكل الذي حرص فيه مفكرون مختلفون من تيارات سياسية متنوعة (في فترات مختلفة) على توحيد القوى في الصراع ضد اليمين المتطرف، لا يمكنه أن يثير الكراهية لدى اولئك الذين لا يزالون يؤمنون بأن اسرائيل يمكنها ان تكون أكثر بقليل من "مجرد ساحة لعب" لعنصريي مجلس "ييشع" (مجلس المستوطنات في الضفة الغربية وغزة)، ولكارهي العرب من شاس (الذين في أصلهم هم أنفسهم يهود - عرب)، ومعهم آخرون (يهود- عرب) يصرخون "الموت للعرب" في مباريات كرة القدم، على حدّ ما يؤكد.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات