منذ أكثر من سنة وضع عدد من قادة الحركة الإسلامية، بمن فيهم الشيخ رائد صلاح، قيد الإعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية في المحاكمة المنعقدة ضدهم بسبب تقديم مساعدة إنسانية للفلسطينيين في المناطق المحتلة. هذا كان موضوع المحاكمة. ووفقًا لنهج غالبية وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي لم تفلح في التنائي عن الناطقين بلسان "الشاباك" (جهاز الأمن العام)، فإن المحاكمة لم تكن أدنى من تقديم متعاونين مع الإرهاب إلى القضاء.
ثمة غايتان مركزيتان للإعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية: الحفاظ على الجمهور من متهم خطير، والدفاع عن الإجراء الجنائي أمام احتمال تشويشه من جانب المعرّض له. ومن غير الواضح كيف ينطبق هذان المبدآن على المتهمين من أوساط الحركة الإسلامية. فالحديث يدور عن شخصيات جماهيرية بارزة نشطت على مدار سنوات عديدة في المجتمع بصورة علنية وبموجب القانون في سبيل دفع أهدافها الإجتماعية والدينية إلى الأمام. وربما يكون أكثر ما يميّز نشاط هذه الحركة هو شفافيتها، بما في ذلك حيال سلطات الدولة. وقد تغيّت شفافية الحركة الإسلامية وانفتاحها حيال هذه السلطات، من قبل المحاكمة ضد قادتها، التشديد على أن ليس لديها ما تخفيه. ولن يكون من قبيل عدم المعقول الإضافة كذلك أن هذه الحركة حتى بالغت أحيانًا في رغبتها بالتشديد على شفافية نشاطها أمام السلطات. بكلمات أخرى لا يدور الحديث عن أناس خطرين على المجتمع، بحيث يمكن أن يشكل إطلاق سراحهم إبان انعقاد المحاكمة ضدهم خطرًا على الجمهور بأي شكل من الأشكال.
كذلك فإن الغاية الثانية للإعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية- الدفاع عن الإجراء الجنائي أمام احتمال تشويشه- غير قائمة في حالة قادة الحركة الإسلامية. بداية، القرائن التي زعمت النيابة حيازتها كانت وثائق، وليس شهودًا يمكن التأثير عليهم. ثانيًا، قدمت قرائن عديدة في سريّة تامة دون أية إمكانية للإطلاع على محتوياتها أو أية إمكانية لتحديها بشكل من الأشكال. والنتيجة المطلوب استخلاصها من ذلك ليس فقط أنه لم يكن في مقدور قادة الحركة الإسلامية تشويش الإجراء المنعقد ضدهم، وإنما كان هذا الإجراء أيضًا منوطًا بخلل ملموس لاعتماده على قرائن مجهولة.
الإختيارات التي التجأت إليها المحكمة العليا في كل ما يتعلق بتمديد اعتقال متهمي الحركة الإسلامية ثلاث مرات، كل مرة لفترة 90 يومًا إضافيًا، ينبغي أن تؤدي إلى إقلاق الراحة وإلى انتقاد لا هوادة فيه. كيف أن هؤلاء الأشخاص الذين زعمت النيابة العامة أنه لا يتعين إطلاق سراحهم في أثناء محاكمتهم بسبب خطورتهم على الجمهور، واكتفت المحكمة العليا بهزّ رأسها كعلامة موافقة على هذا الزعم، يتم إطلاق سراحهم بصفقات إدعاء تلغي الإتهامات الخطيرة ضدهم. أين هو الخطر الذي تم الزعم به وقبلته المحكمة العليا، لكنه غاب كما لو أنه لم يكن قائمًا في نهاية المفاوضات حول صفقة الإدعاء. أمامنا، إذن، أشد الأخطار غرابة، الذي يشكل أداة ضغط في يدي النيابة العامة. الفرقة الموسيقية التي تقودها النيابة العامة وتعزف نوتات جرى تأليفها بموهبة مشكوك فيها من قبل الشاباك، تشمل أيضًا المحكمة العليا. وأداء هذه الأخيرة يصمّ الأذن ويصرف النظر. كونسيرت ما كان دانييل بارنبويم ليتردّد في الكفّ عنه بتقزز وخيبة أمل.
أحد الأمور الغريبة في هذه المحاكمة تمثل في محاولة النيابة العامة إضفاء جانب ذهني وأكاديمي على الإجراء ضد الحركة الإسلامية، في ما يمكن اعتباره محاولة للإظهار أمام المحكمة أن مجرّد اعتناق المتهمين الدين الإسلامي منوط بتهمة ما. ربما حاولت النيابة بذلك الوصول إلى الجانب المتصلب في المحاكمة الجنائية، الذي يتطلب إثبات التهمة في منأى عن أي شك معقول. ويبدو أن المعادلة التي وضعها المدعون من مكتب المستشار القضائي للحكومة نصب أعينهم هي أن القرائن المكنونة زائد الأكاديميا تساوي الإدانة.
كان رفائيل يسرائيلي، بروفيسور من الجامعة العبرية، هو الذي اختير لتمثيل وظيفة منتج المعرفة، صاحب الصلاحية، الذي لا يعرف فحسب وإنما أيضًا يفهم أسس وأنماط سلوك الحركة الإسلامية في إسرائيل. وقد بلغ هذه المرتبة بعد أن بحث المسلمين في الصين بالذات. في عالم مثالي كان يجدر بقادة الحركة الإسلامية أن يمتدحوا اختيار مدعيهم، حيث يكمن هنا الشك المعقول لبراءتهم، إن لم يكن أكثر من ذلك أيضًا. ومن حق البروفيسور يسرائيلي أن نقول عنه إنه لا يخفي مواقفه، التي تشمل عموم الجماهير العربية في إسرائيل وليس تيار الحركة الإسلامية فقط. هذا ما شهد به البروفيسور المثقف، على سبيل المثال، أمام لجنة أور بشأن التغييرات في المجتمع العربي والسياسة التي يجدر بالحكومة أن تتبناها حيالها (**):
"وعندها صعدت طبقة المتعلمين المقتدرين الذين، كما سبقني إيلي ريخس إلى القول، أصبحوا الأساس الأكثر تمردًا في دولة إسرائيل. معنى ذلك أنه إذا منحت المال فلا يفضي ذلك حتمًا إلى مزيد من التصالح ومزيد من الموافقة. في مرات كثيرة يصبح أولئك الذين تربيهم في جامعاتك، في البلاد، وتفتح لهم أبواب العالم، أشد الدعاة خطورة ضدنا. معنى ذلك، أعطهم وتحصل على نتائج معكوسة. لذا فإنني أقول أعط، لكن أعط بصورة واعية ومنطقية".
النزعة المهيمنة على المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية في كل ما يتعلق ببحث المجتمعات العربية والإسلامية تقدّم قيمة مبتذلة لمشروع المرحوم إدوارد سعيد عن الإستشراق. وفي الإمكان كمشروع ثانوي ابتداع فئة "إبتذال الإستشراق الإسرائيلي". وبدل بحث تاريخي جدي، يكفي الإشارة إلى البيبلوغرافيا. بدل تحليل الخطاب الما بعد حداثي ثمة الإقتباس الذي يعكس نفسه ببريق أخّاذ. وكبديل عن كشف منظومات موازين القوى الكامنة في النص، يمكن تحديد العلاقة المباشرة لمنظومات الأمن الإسرائيلية، إذا لم يكن بدّ من التشديد على رتبة الباحث العسكرية. أعني أن البحث المركزي في الأكاديمية الإسرائيلية عن المجتمعات العربية والإسلامية غير مثير في ضوء غايته الواضحة التي تبدو الصلة بينها وبين خلق المعرفة للناس، خلافًا للصلة مع منظومات القوة، غائمة جدًا.
لقد كان مصدر المحاكمة ضد الحركة الإسلامية أمرًا مباشرًا من مكتب رئيس الحكومة، أريئيل شارون. والهيئة التي بادرت إلى كل هذه العملية، الشاباك، نشطت من هناك وفي إطار قوى المكتب نفسه. وكان من الواجب معارضة هذه المحاكمة السياسية. وهي محاكمة سياسية لأنها خدمت هدفًا سياسيًا مباشرًا لشارون: هأنذا أحارب الإرهاب الذي ينقضّ عليّ من جميع الجبهات، بما في ذلك داخل البيت. زد على ذلك انضمام هذه المحاكمة إلى النزعة الواضحة لدى السلطة التنفيذية لمحاربة السياسة التي تفرض التحديات من جانب الجماهير العربية، عبر تقديم قادة منتخبين إلى المحاكمة بسبب مواقفهم السياسية المناهضة للإحتلال وبسبب نشاطهم الإنساني الذي لا يروق للسلطة الحاكمة. إنها محاولة شفافة من جانب هذه السلطة اتخذت لبوسًا كولونياليًا واضحًا: عالج قادتهم لكي تردع مجتمعهم.
ليس المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل الأقلية الأولى التي تحاول أن تضع تحديات أمام وضعيتها وأمام المسبب لها وتجد نفسها عرضة لهجوم منفلت العقال من قبل السلطة التنفيذية، التي تستعين بالسلطتين الأخريين، التشريعية والقضائية، لتحقيق أهدافها. لقد سبقتها أقليات أخرى، بمن في ذلك السود والأصلانيون في الولايات المتحدة وأستراليا، لم تغيّر حملة الترويع والردع من جانب السلطة رغبتها الأساسية في التطلع إلى مواطنة متحررة ومتساوية. وعليه فما من سبب يحول دون المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل ودون مواصلة كفاحه، بما في ذلك تزويد الفلسطينيين في المناطق المحتلة بالمساعدات الإنسانية والسياسية. فهذا حقه وواجبه، الذي يمكن ومن اللائق القيام به بثقة ذاتية وبحبور بالغ.
(*) الكاتب محام في عدالة- المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل. وهذا المقال ظهر في العدد رقم 9 (كانون الثاني 2005) من مجلة عدالة الألكترونية.
(**) شهادة رفائيل يسرائيلي أمام لجنة أور من يوم 27/12/2001، ص 9036 من بروتوكول اللجنة.