المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أثار تدهور الحالة الصحية للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات جملة من التساؤلات حول الوضع الفلسطيني ومستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، بل والوضع في الشرق العربي عموما. ومما لا ريب فيه ان هذه التساؤلات نجمت عن المكانة الخاصة التي احتلها الزعيم الفلسطيني في الحلبة السياسية الاقليمية والدولية. وبقدر ما أظهرت الحالة الصحية للرئيس عرفات مكانته وأثره فإنها أظهرت هشاشة الوضعين الفلسطيني والعربي. فقد تعاملت القيادة الفلسطينية مع تدهور صحة عرفات بدرجة عالية من الارتباك تركت أثرها المعنوي البالغ على الجميع. كما ان الصمت الرسمي العربي، حتى في لحظة حرجة ومصيرية الى هذا الحد، زاد من حجم الإحباط الذي تعاني منه الحالة الشعبية.

والواقع ان تدهور الوضع الصحي للرئيس عرفات جاء في لحظة حساسة لأكثر من طرف. وربما هذا ما دفع عددا من المعلقين الإسرائيليين الى الحديث عن مرض اللحظة الحرجة. فقد جاء ذلك فقط بعد يوم واحد من إقرار الكنيست الإسرائيلي، من حيث المبدأ، خطة الفصل التي خلقت شرخا كبيرا في الليكود والحكومة. وجاء المرض قبل أيام معدودة من الانتخابات الأميركية بشكل كان لعواقبه ان تترك آثارها على هذه الانتخابات في لحظاتها الحاسمة.

ومن المؤكد ان الأنباء المريحة التي تصل من باريس عن صحة الرئيس عرفات تترك الانطباع بأن المخاوف الكبيرة التي سادت في الساحة الفلسطينية حول الوضع الداخلي لن يتحقق، وأن الشفاء العاجل للرئيس سوف يقود الى إعادة النظر في عدد من مواضع الخلل التي أظهرها تدهور وضعه الصحي. كما ان من الممكن ان يترك هذا الالتفاف الواسع والخوف الكبير على مصير الرئيس عرفات أثرا ملموسا على مساعي توحيد الصف الفلسطيني وإصلاح العيوب.
وبالمقابل، وكما يفهم كثيرون، كشف مرض الرئيس عرفات عيوب الوضع العربي بشكل مأساوي. إذ لم تعد قضية عرفات، وبالتالي القضية الفلسطينية، مجرد قضية حصار، بل صارت قضية تتعرض لعملية قتل بطيء. وإذا لم يتحرك شيء في الوضع العربي الراهن، فإن الاكتفاء بتقديس الانتفاضة، سوف يقود الى واحد من خيارين: الانتحار او التنازل. فالوضع والنضال الفلسطيني، من دون حاضنة عربية حقيقية، أشبه بحمل خارج الرحم. وقد آن الأوان لإعادة النظر فلسطينيا وعربيا في هذا الوضع.
ويبدو ان دخول فرنسا والاتحاد الأوروبي على خط صحة الرئيس عرفات شكل نوعاً من الإنقاذ من حالة الخيبة من الإرادة الدولية التي تماهت مع المشروع الأميركي الإسرائيلي في عدد من المفاصل الأساسية. وقد تفتح المعالجة الفرنسية لمرض الرئيس عرفات الباب أمام عودة الاهتمام الأوروبي بالقضية الفلسطينية التي صارت تلامس عن قرب قضايا ومصالح الاتحاد الأوروبي. ومن الممكن ان هذا الاهتمام الذي عاد الى الظهور قبل مرض الرئيس عرفات بقليل سوف يتعاظم في الأسابيع المقبلة، وقد يتخذ صورة أكثر جدية من ذي قبل، خصوصا مع الإدارة الأميركية.
والأميركيون، الذين قدموا الدعم الأوسع لإسرائيل في كل ما يتصل بفرض العزلة على الرئيس عرفات ومحاولة استبداله، يجدون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ان سياسة إسرائيل لم تحقق غايتها، وأن الرئيس عرفات، رغم كل الأحاديث عن إضعافه فلسطينيا، بقي "الرقم الصعب". وربما لهذا السبب تحرك الأميركيون "لأسباب إنسانية" لحث إسرائيل على السماح لعرفات المريض بالسفر الى باريس والتعهد بإعادته. والحديث الذي شاع في الأيام الأخيرة حول "دهشة" وزير الخارجية الأميركية كولن باول من الشعبية التي يحظى بها عرفات، ربما يشير الى نوع من الاقرار بالخطأ.
ولكن برغم الحديث عن البعدين العربي والدولي بأهمية كبيرة، فإن الأهمية الحاسمة تكمن في الوضعين والموقفين الفلسطيني والإسرائيلي. ومن السابق لأوانه تقدير ما إذا كان سيطرأ أي تغيير على الموقف الإسرائيلي من التسوية مع الفلسطينيين. إذ يبدو ان الحكومة الإسرائيلية اتخذت قراراتها بشأن "التساهل" مع المطالب الفلسطينية المتصلة بصحة الرئيس عرفات على أرضية الاقتناع بأن أيام هذا الرجل باتت معدودة. ولأن الأمر كذلك حاولت الايحاء بأنها تتعامل بسخاء وانها مستعدة لفعل كل شيء من أجل انقاذه.
ولكن إسرائيل، التي تعهدت للاتحاد الأوروبي وللولايات المتحدة ولبعض الدول العربية بإعادة الرئيس عرفات بعد شفائه، تفكر جديا في نقض هذا التعهد. إذ من المؤكد انها تفكر منذ الآن في انه يصعب عليها بعد عودة عرفات ان تعود لتفرض عليه الظروف ذاتها التي كانت قائمة قبيل سفره الى باريس. ومن الجائز انها في الأيام القريبة، وبقدر ما تتضح الأوضاع الصحية الكاملة للرئيس عرفات، ستعود الى سياسة الابتزاز السياسي في محاولة لبلورة وضع مريح لها على هذا الصعيد. ومن غير المستغرب ان تصر، مثلاً، على عودته الى قطاع غزة لا الى رام الله.

عموما، لا ريب في ان مرض الرئيس عرفات شكل لحظة تاريخية لتشخيص الحالة العامة للصراع والوقوف على حقيقة الوضع. وبعيدا عن التوصيفات المغالية، ثمة حرج كبير في الوضع الداخلي الفلسطيني يتطلب السرعة في المعالجة، وشرخ هائل في العلاقة العربية مع القضية الفلسطينية. كما ان حال الإسرائيليين ليست أفضل بكثير، بعد ان أربكتهم إمكانية غياب الرئيس عرفات عن الساحة.
بكلمة قصيرة: أظهر مرض الرئيس عرفات أمراض الآخرين جميعا.

من الشماتة إلى القلق ثم... "السخاء الإنساني"!

ما ان علمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بتدهور صحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حتى بادرت للاحتفال بموته. وأعلنت أنه سيفارق الحياة خلال بضع ساعات. ولكنها سرعان ما اضطرت إلى وقف تهورها والبحث في نتائج وفاة عرفات. وفجأة أخلت الفرحة مكانها للقلق. فما الذي سيحدث إذا توفى الله عرفات وهل إسرائيل مستعدة لذلك؟ وفورا تسارعت الأفكار وبدت إسرائيل الرسمية والإعلامية في موقع من يريد النأي بنفسه عن الظهور بمظهر الفرح أو الشامت.
وصار همّ الإسرائيليين التوضيح لكل من يريد أن يسمع بأنهم جميعاً، وخصوصاً أريئيل شارون ووزير دفاعه شاؤول موفاز، معنيون بتوفير كل ما يلزم وتسهيل أمر تلقي عرفات كل علاج ممكن. فإسرائيل لا تريد، رغم عدائها لعرفات، أن تظهر بمظهر من حال، مباشرة أو بشكل غير مباشر، دون علاجه. ولذلك أعلنت كل المصادر الإسرائيلية أن شارون وموفاز اتخذا قراراً أبلغاه لرئيس الحكومة الفلسطينية أحمد قريع (أبو علاء) باستعداد إسرائيل للاستجابة لكل ما يطلبه الفلسطينيون بهذا الشأن. وهكذا سمحوا لزوجة عرفات وطاقمين طبيين من الأردن ومصر بالوصول دون إبطاء. وأبلغا الأردن بجاهزية إسرائيل لتسهيل نقله إلى أي مكان في الأراضي الفلسطينية أو في الخارج. ورغم إصرار إسرائيل في الماضي على اشتراط كل خروج لعرفات من المقاطعة بعدم العودة إليها، فإنها تجاهلت الآن هذا الشرط، وصارت تتحدث فقط عن "الجانب الإنساني" في القضية.
ومن البديهي أن الخطوات الإسرائيلية سياسية من الدرجة الأولى، وهي تخلو من أية صفة إنسانية. ولعل محاولات التغطية الإعلامية الواسعة لـ"السخاء الإنساني" الإسرائيلي ترمي إلى تسجيل نقطة لدى الجمهور الفلسطيني تقلص حجم المسؤولية. ومع ذلك تدرك إسرائيل أن الفلسطينيين في كل الأحوال سيحمّلون إسرائيل المسؤولية المباشرة عن عيش عرفات في ظروف معيشية صعبة منذ فرض الحصار عليه قبل ثمانية وعشرين شهراً.
غير أن لجوء إسرائيل إلى هذه الخطوات لا يعود فقط إلى الخشية من الفلسطينيين بل كذلك إلى الخشية من الوضع الجديد الذي يفقد فيه شارون "فزاعة عرفات". فقد بنت إسرائيل سياستها على أساس انعدام الشريك الفلسطيني وصاغت وفق ذلك خطة الفصل، وأفلحت في نيل تأييد الولايات المتحدة لهذه السياسة والحصول على درجات متفاوتة من الدعم الدولي لها. ومن شبه المؤكد أن غياب عرفات في هذه اللحظة التاريخية بالذات يشكل إرباكاً وربما تقويضاً لواحد من أهم أعمدة السياسة الإسرائيلية. إذ ان غياب عرفات يشكل عودة اضطرارية إلى خريطة الطريق، وهذا ما يعيد خلط الأوراق في الساحة الإسرائيلية في هذا الظرف بالذات.
ويكتب المراسل العسكري لـ"معاريف" عمير راببورات أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعلّمت من خيبات الأمل السابقة عن وفاة وشيكة لعرفات فلم تهرع للتخطيط لليوم التالي لانصرافه. وكتب أنه في مداولات داخلية الأسبوع الماضي قال شاؤول موفاز ورئيس الأركان موشيه يعلون انه "يجب الانتباه جيداً لما يجري في المقاطعة". ولكنهما لم يتطرقا لعرفات بوصفه مريضاً ميؤوساً من شفائه في هذه المرحلة. ومع ذلك أكثر المعلقون الإسرائيليون من الإشارة إلى أن "سخاء" إسرائيل في التعامل مع قضية عرفات يعود إلى الاقتناع بأن وضعه الصحي ميؤوس منه.

وتبدي مصادر عسكرية إسرائيلية أملها في وفاة عرفات، الأمر الذي يقود حسب رأيها إلى بزوغ قيادة فلسطينية جديدة. وحسب ضابط رفيع المستوى فإنه "فقط إذا توفي عرفات هناك أمل بقيادة جديدة حقيقية في صورة أبو مازن أو محمد دحلان، اللذين قد يكونان على استعداد للتنسيق مع إسرائيل في تنفيذ خطة الفصل، الأمر الذي هو أفضل بلا ريب من خطوة من طرف واحد". وأوضح الضابط الكبير بأن تفاقم وضع عرفات سيغير بكل الأحوال المخططات بشأن الفصل من حيث الأساس، ويفتح إمكانية الانسحاب في إطار اتفاق. وأجمل الضابط بأنه "يحتمل أن يتبين انه حتى لو كان وضع عرفات خطيراً، ولكنه سيبقى سنة أو سنتين، على قيد الحياة، فإنه من المجدي تأجيل الفصل بعض الشيء وانتظار موته".
غير أن الأشد إثارة للذهول في التصرف الإسرائيلي هو أن القادة الإسرائيليين الذين قرروا قبل عامين أن عرفات صار "غير ذي شأن"، تعاملوا ولو بشكل مباشر معه الآن بوصفه الأكثر شأناً. وكرّست وسائل الإعلام الإسرائيلية أغلب وقتها وصفحاتها لمتابعة أنباء تدهور صحة عرفات. واحتلت صورة عرفات وأنباء صحته ليس فقط الصفحات الأولى بل الكثير من الصفحات الداخلية التي تعاطت مع الحدث وكأنه الشأن الداخلي الأول. وليس صدفة أن المعلق السياسي لصحيفة "معاريف" بن كسبيت أشار إلى أن المنطقة من دون عرفات هي "شرق أوسط جديد" وأن وفاة عرفات قد تقتل خطة الفصل.
وفي نظره فإنه "إذا لم يكن هناك عرفات، فيحتمل أن يغدو هناك شريك. المنطق القابع خلف خطة الفصل سوف ينهار دفعة واحدة". ويقول كسبيت إن هناك أيضا سيناريوهات أقل تفاؤلا، أبرزها ميل الفلسطينيين "لاتهام إسرائيل بوفاة عرفات، أو على الأقل بخلق الظروف التي أدت إلى تدهور وضعه. وفي مثل هذا الوضع، قد تنشأ اضطرابات من شأنها أن تجر إسرائيل إلى رد شديد، من شأنه أن يجعل السيناريو المتفائل أعلاه خيالياً وإحاطة كل المنطقة بدخان سميك. ومرة أخرى، فإن الكثير جداً منوط بأريئيل شارون. فالعالم بأسره، إلى جانب ملايين الفلسطينيين، سينظرون ويسمعون أفعاله وأقواله في اليوم ذاته. يمكن لشارون أن يكون سخياً وغير وحشي، مشفقاً وغير متسرع. من غير المؤكد أن يغير هذا كثيراً، ولكن أحياناً يكفي فارق صغير".
وفي "معاريف" أيضا أشار معلق الشؤون العربية عميت كوهين إلى أن إسرائيل بعد غياب عرفات تخشى من فقدان السيطرة على الوضع الفلسطيني وأن يسود واحد من سيناريوهين: "في واحد منهما تتواصل الفوضى على مدى زمن طويل وتخرج عن نطاق السيطرة، تقسم المناطق الفلسطينية إلى كانتونات، مع اتصال واهن بينها؛ في السيناريو الثاني، وهو على ما يبدو أكثر واقعية، ستقوم مجموعة قيادية لا قائد واحد، تقود الفلسطينيين. في هذه المجموعة سيكون قادة ميدانيون لفتح، رؤساء أجهزة وسياسيون، مثل أبو مازن وأبو علاء".
وكتب المراسل السياسي في صحيفة "هآرتس" ألوف بن أن غياب الرئيس عرفات عن الساحة "سيحدث تغييراً جوهرياً في المحيط السياسي لإسرائيل، وكذا في الساحة السياسية الداخلية. والادعاء بأن "لا شريك"، الذي شكل أساس السياسة الخارجية الإسرائيلية في السنوات الأربع الأخيرة، وبرر رفض إجراء مفاوضات مع السلطة الفلسطينية، سيغيب معه".

ورأى بن أن "خطة الانسحاب من طرف واحد ستفقد المبرر المركزي لوجودها، وهو غياب الشريك الفلسطيني. وبعد يوم واحد فقط من مصادقة الكنيست على الخطة، والشرخ الدراماتيكي في قيادة الليكود، تغيرت الظروف دفعة واحدة". فغياب عرفات سيهدئ الليكود ويحرر العقدة التي أوقفت حتى الآن من وجهة نظر أميركية العملية السياسية. ويرى بن أنه "بتشجيع الأوروبيين، سيكون بوسع واشنطن استئناف دورها وقيادة الحوار بين إسرائيل وورثة عرفات، ولا سيما إذا كان جون كيري هو الذي سينتخب، بدل جورج بوش. وسيكون شارون مطالباً بالدخول فوراً في مفاوضات، إذا ما وقف في قيادة السلطة شخصيات معتدلة مثل أبو مازن، غير المصابين بالإرهاب".
وثمة معنى كبير للاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيسا الحكومة الفلسطينية والإسرائيلية حول صحة عرفات. فهذا الاتصال هو الاول بين "المقاطعة" ورئاسة الحكومة الإسرائيلية منذ أكثر من ستة شهور. ورغم أن الإسرائيليين يقولون إن أبو علاء لم يطلب ولم يثر موضوع عودة عرفات بعد تلقي العلاج، غير أن المصادر الإسرائيلية أقرت بأن هذا الموضوع أثير حقاً في حديث هاتفي بين منسق السياسات الخارجية الأوروبية خافيير سولانا مع شارون، وأن شارون أبلغ سولانا أن إسرائيل لا تمانع في عودة عرفات إلى الأراضي المحتلة بعد العلاج.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, الليكود, موشيه يعلون, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات