رأى الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز ("يديعوت أحرونوت"، 1/11/2004) أن مسار تطور الأمور السياسية في إسرائيل، خصوصًا بعد إقرار الكنيست لخطة الفصل الأحادية الجانب، بات يتحدّد في الاتجاه التالي: اليسار الاسرائيلي يعاني من خوار في قوته في حين بلغ اليمين الاسرائيلي المتطرف (الصقري، بموجب مغسلة الكلمات لدى عوز) مرحلة الإفلاس المطبق.
وفي قراءة "عوز" فإن ضياع قوة اليسار الاسرائيلي ناجم أكثر شيء عن إخفاقه، طوال فترة الخلاف والنقاش المحتدم حول مستقبل المناطق المحتلة منذ 1967 وحول الحرب والسلام، في إقناع الفقراء والمستضعفين في المجتمع الاسرائيلي بأن هناك صلة مباشرة بين وضعيتهم البائسة وبين أحلام "أرض إسرائيل الكاملة" التي هيمنت على روح إسرائيل مع إنتصارها العسكري في حرب حزيران 1967.. وعلى هذا الأساس لا يزال المسعى إلى السلام، الذي شقّ طريقه هذا اليسار، يرتسم في أذهان الكثير من هؤلاء الفقراء والمستضعفين كما لو أنه مؤامرة من جانب "أصحاب البطون الملآنة" الذين يهتمون بصالح الفلسطينيين أكثر من اهتمامهم برفاهية "أصحاب البطون الخاوية"، سكان سديروت وكريات شمونة وغيرهما من بلدات الضائقة الاسرائيلية. وطالما لم ينجح اليسار في مخاطبة عقول وأفئدة هؤلاء الفقراء والمستضعفين، الذين يدفعون ثمة سياسة القمع والاحتلال، فانه سيظل أسير دائرة المعاناة من فقدان قوته وإعيائه.
أما فيما يخص اليمين المتطرف فقد رأى "عوز" أنه في صلب النقاش الذي جرى في الكنيست حول خطة الانفصال الأحادية، والذي شارك فيه جميع أعضاء البرلمان الاسرائيلي، كان هناك إجماع في صفوف جميع الناطقين بلسان هذا اليمين على التهرّب في لاوعيهم إن لم يكن في وعيهم التام من السؤال المتعلق ببديلهم المخصوص، في موازاة الخطة المذكورة، التي تنص على إنسحاب من بعض أجزاء "أرض إسرائيل الكاملة". وهو البديل الذي يتعين عليه، بطبيعة الحال ووفق المنطق الذي يحتكم إليه هذا اليمين، أن يلحّ على التشبت بـ"أرض إسرائيل الكاملة" حتى ولو أمسى الشعب اليهودي أقلية في المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وهو يؤكد أن التهرب من هذا السؤال دافعه الأساس يتمثل في عدم وجود جواب واضح عليه، لهذه الناحية أو تلك.
وفي هذا المسلك من قبل قباطنة اليمين المتطرف ما يحيل، برأي "عوز"، إلى إفلاس معسكر "أرض إسرائيل الكاملة"، هذا الإفلاس الذي من مداليله أن أفراد المعسكر المذكور كفّوا تمامًا عن الاعراب أو التعبير عن إيمانهم الحقيقي، الذي هو في جوهره إيمان أيديولوجي أعمى. وباتت التسويغات التي يلوذون بها لمعارضة الانفصال تتمثل في القول إن الانسحاب من قطاع غزة هو انسحاب غير أمني، أو إنه يلحق الضرر والألم بجمهور المستوطنين، أو إنه يعطي جائزة لعناصر "الارهاب" الفلسطينية، أو إنه من الأفضل القيام به في إطار إتفاق وليس ضمن خطوات أحادية الجانب. وعلى هذا الأساس يمكن الاستنتاج، وفقًا لعوز، بأن اليمين الصقري قد طبّق، بهدوء تام، ما يطلق عليه "الانسحاب الحاسم"، وهو الانسحاب من موقفه السابق الذاهب إلى أنه من المحظور إخلاء شبر واحد من الأرض لأن "الأرض كافة تابعة لنا، ولنا فقط".
لكن ما هو الأفق الذي يقترحه "عوز"، ترتبًا على المسار السالف؟.
إنه يكمن، كما يستشف من بين السطور، في أن يخفّ اليسار الاسرائيلي إلى إحتضان هذا التطور الحاصل في صفوف اليمين المتطرف من أجل توثيق عرى التحالف بين الطرفين والقبض على أعنّة المستقبل الذي يحفظ إسرائيل، ضمن حدود 1967، دولة ذات أغلبية يهودية.
وباختصار فإن "عوز" يجد أن خلاص اليسار الاسرائيلي المشتهى من أمراضه، التي ذكر قسمًا منها، كامن في إفلاس اليمين الصقري.
إذا كان ما يقوله "عوز" بشأن اليمين الاسرائيلي المتطرف فيما هو متعلق بأحلامه التوسعية حصرًا صحيحًا، بكيفية ما، فإن ما يحكم فيه على اليسار الاسرائيلي من مآل يظل غير متطرق إلى مسألة جوهرية، هي فقدان هذا اليسار لأي برنامج بديل عما هو مطروح الآن على الساحة السياسية الداخلية والإقليمية. ويمكن استقراض تصريحات عديدة لقادة هذا اليسار تشي، دون مواربة، بهذا الأمر مثلما تشي بأن البرنامج الوحيد المتداول في صفوفه هو الموقف من خطة شارون. وما زلنا نذكر تصريح حاييم رامون، أحد قادة حزب "العمل"، المستغول في تأييده للخطة المذكورة، الذي قال فيه إن شارون "هو الأمل الوحيد للتخلص من وزر الاحتلال".
بالإمكان طبعًا عدم الإستئناف على ما يقوله "عوز" في صدد الخطاب الاستعلائي لليسار الاسرائيلي حيال الشرائح الفقيرة والمستضعفة كافتها، إنما من غير التغاضي عن حقيقة أن ذلك بقدر ما يشفّ عن منهج في التفكير بقدر ما يعكس غياب أجندة سياسية- إجتماعية- إقتصادية واضحة القسمات لهذا اليسار، حتى وإن برسم صفته هذه، في الزمن الراهن، كما كانت الحال من قبل أيضًا.
ولعل ما يثير الدهشة أن التشبت، من طرف هذا اليسار، ومن طرف ناطقيه المفوهين على شاكلة "عوز"، بخطة شارون باعتبارها خشبة الإنقاذ لا لاسرائيل اليهودية فحسب وإنما لليسار الصهيوني نفسه أيضًا، يتم بالذات على خلفية إنفضاح دوافع خطة الانفصال حيال الداخل وحيال الفلسطينيين على حد سواء، دافعًا إثر دافع، بدءًا من تصريحات شارون نفسه ومستشاره الأقرب دوف فايسغلاس، وليس إنتهاء بنص الخطة الذي تم التصويت عليه في الكنيست.
في أجواء كهذه ليس من الغريب أن تكون تلك الخطة هي المبادرة السياسية الوحيدة في الساحة الاسرائيلية. بل وليس من الغريب أن يواصل هذا اليسار انكفاءه عن أعمال الاحتجاج على الاحتلال الاسرائيلي وجرائمه اليومية.
إن المتابع للمشهد الاسرائيلي لا بدّ أن يخرج بانطباع حاد مفاده أن خطة شارون وحدها هي التي أصبحت، منذ فترة، تمتلك المقدرة على أن تملأ ساحات المظاهرات في إسرائيل، سواء لناحية تأييدها أو لناحية معارضتها.
أما ما يقترفه الاحتلال من موبقات فإنه لا يحظى، في الآونة الأخيرة، من طرف اليسار الذي يعنيه "عوز" بأكثر من تجنيد مجموعات من الجنود، بوجه خاص الذين يؤدون خدمتهم العسكرية في المناطق المحتلة، وحثهم على كسر ما يسمى بـ"حاجز الصمت" أو "حاجز الخوف" والحديث عن الممارسات التي تقترف على مدار الساعة بحق المدنيين الفلسطينيين العزل. وبعض هذه الممارسات يرتكبها الجنود أنفسهم الذين يتحدثون عنها في سياق يهدف إلى زوبعة الرأي العام حيالها.
وحتى لا يساء الظن فيما نقصد نؤكد أنه لا يمكن التقليل من أهمية وأخلاقية ما يفعله هؤلاء الجنود، شريطة الانتباه إلى عدم تحويل "كسر الصمت" إلى ما يشبه الرياضة القومية التي تعيد إلى الأذهان مقولة: "يطلقون النار... ويتكلمون"!