المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما يبدو الآن تأتأة أو رطانة علي استحياء قد يصبح خلال اقل من ربيع واحد بالعبرية الفصحى، ومن أذّنوا في الجرار ذات صحراء رسولية قد يصعدون المآذن ليأمروا الناس بالامتناع عن التجوّل، خصوصاً اذا صدقت نبوءة ابن الأثير مرة أخري، وبني هولاكو مآذن من جماجم العرب.

ما يبدو الآن تأتأة أو رطانة علي استحياء قد يصبح خلال اقل من ربيع واحد بالعبرية الفصحى، ومن أذّنوا في الجرار ذات صحراء رسولية قد يصعدون المآذن ليأمروا الناس بالامتناع عن التجوّل، خصوصاً اذا صدقت نبوءة ابن الأثير مرة أخري، وبني هولاكو مآذن من جماجم العرب.
منذ حزيران 1967 عثر التيّار المضاد للأستقلال العربي، وكومبرادورالثقافة على ما يعتقد انه الذريعة المنطقية للتشكيك بجدوي كل ما نزف من دم في حروب الاستقلال، وبدلا من تحويل الهزيمة الي رافعة، وبالتالي البحث عن فعالياتها الممكنة، حدث العكس، وظنّ الغلاة من مفسّري ظواهر التاريخ بأدبيات القضاء والقدر أن النقد الذاتي الذي أعقب حزيران (يونيو) هو نهاية المطاف، وتم التعامل معه بمعزل عن أهدافه، فهو لم يكن توصيفا مجرّدا لواقع بقدر ما هو دليل لتجاوز هذا الواقع، واستدراك ما يمكن استدراكه في النسيج القومي المهتريء. اذكر علي سبيل المثال، ان الاذاعة الأسرائيلية قدّمت عيّنات من كتب د.صادق العظم وهي النقود الثلاثة للفكر الديني والهزيمة وفكر المقاومة، وكان المقصود بهذا الابتسار سيئ النيّة احراج الكاتب اولا أمام قرّائه العرب، لكن ما كتبه د.العظم في ذلك العقد كان يصدر عن حاسّة نقدية، شحذت الهزائم ما تثلّم منها في زمن الاسترخاء الكاذب، وما أفرزه من حمل كاذب وفجر كاذب!

انّ ما يهدد العقل العربي، وكذلك الوجدان القومي والذاكرة الوطنية الآن، هو هذه النخّبة البديلة التي لا تخفي فحيح العبرية وهي تكتب بالعربية، فالظرف جد مناسب للجهر بما كان همساً، سواء تعلّق الأمر بالقصور الأبدي والفيزيقي للذات العربية، أو بتبنّي أردأ ما أفرزته الحقبة الكولونيالية من مقولات، أفقدها الزمن صلاحيتها، وبرهن العلم علي عقمها!

وفي المقال الذي كتبه د.حسن نافعة مؤخّرا ونشرته مجلة <وجهات نظر> المصرية تبصير جاد بهذه الظاهرة الوبائية، فالدكتور نافعة اتخذ من اطروحات فؤاد عجمي نموذجا لما سمّاه الجسر الذهبي الذي يبنيه المثقف المرتهن مع السّلطة، خصوصا عندما تكون سلطة السلطات كلها، اي الولايات المتحدة بما آلت اليه من نرجسية الخطاب الامبراطوري.

هنا، يندفع التشكيك بالعروبة وربما بالعرب الي اقصي ما يمكن توقّعه من مثقف خلع ذاكرته كالقبّعة، وتقمّص ثقافة الآخر الذي لن يقبله الا كقفاز او ملقط، ونحن نعرف جيدا كيف ينـظـــــر المستعـــــــمر سواء كان ينتـــــــــمي الي ما قبل الحداثة او ما بعدها الي هذا الكومبرادور، انه اذ يباركه ويسلّحه، ويحميه انما يدّخره كاحتـــــياطي في جعبـــــته الي ان تأزف الحاجة، وها هي قد أزفت .

ما كتبه عجمي في <فورين أفيرز> الأمريكية شهادة نعي لأمة، بقدر ما هو صك غفران واسترضاء واعتذار لمن نكّلوا بها، وصاغوا لها صورة شوهاء، ابتكروها من نوافل الاستشراق الكولونيالي، وما تبقي من نفاياته.

*

ولأن الظواهر تستدعي نقائضها أيضا وليس مثيلاتها حسب، فان كل ما قاله فؤاد عجمي يستدعي علي الفور في ذاكرة القاريء العربي وربما الامريكي ما قاله ادواد سعيد، سواء في كتابه الاستشراق أو الثقافة والامبريالية، اضافة الي مقالاته العديدة في هذا السياق.

فقد أدرك سعيد منذ الصبا ان العربي لن يقبل من يتماهى معه، ولن يستطيع تمثّله وهضمه وربما أصابه بالغثيان في بعديه: الثقافي والسياسي.

يروي سعيد أن الشرطي البريطاني الذي كان يحرس نادي النخبة في قاهرة الثلاثينات منعه من الدخول الي النادي، رغم كونه مسيحياً، يتقن ألانكليزية، وينتسب الي عائلة موسرة، لقد منعه لأنه عربي فقط، وليس لأي سبب آخر،

ويبدو ان هذه الحادثة الرمزية لم تفارق وعي البروفسور سعيد حتي لو استقـرّت في باطن هذا الوعي، ولعلّـها الحافز الهاجـع في الاعماق، الذي دفع (سعيد) الي استقراء الاستشراق كما لم يفعـل احد من قبل. ان ثنائيـة عجـمي - سعيد هي بشكل ما تجسيد لثنائية الوعي السالب والوعي الفـاعل الخلاّق، فالاول يتخلي عن سؤاله التاريخـي ويعرض في المزاد عذابات أمةّ، والثاني يتشـبّث بسـؤاله الوطني الذي هو سؤال انساني في الجوهر من أجل مسـاءلة ثقافية ذات بعد سياسي، وقد تفضح الأيام القادمة المزيد من المسكوت عنه لدى هؤلاء الذين وصفهم كاتب امريكي بالزمّارين ووجدوا من يدفع لهم ثمناً لما يعزفون على (نايات) من عظام ذويهم وعلي طبول من جلود الضحايا!

*

ما لم يكتب حتي الآن بالعبريّة الفصحي، أصبح وشيك الكتابة والنشر، فالحاضنة التي توفّرها الولايات المتحدة الآن وفي هذا الربيع العربي دافئة، وملائمة لتفقيس البيوض التي هجعت طويلا في صدوع التاريخ، وكل هذه الأطلال!

فاذا كان المقصود باستثمار التخلّف وحلب الأخطاء، والبحث عن النّافع في كل ما هو ضارّ حتي الهلاك هو ديدن من تربّصوا كالضباع بأشلاء الفريسة، فان التاريخ يعيننا على استيعاب هذه الظاهرة لسببين: الأول تكرارها في كل العصور، والثاني ما يمكن تسميته سايكولوجيا المغلوب الذي يفقد بالتدريج محتواه، ويصبح مترجمًا حتي النخاع الى أنسان آخر،

ورغم الافتراق الزمني فإن ما قاله ابن خلدون قبل قرون وما قاله مصطفي حجازي قبل عقود عن سايكولوجيا المغلوب يلتقيان في هذه الذات التي تقضم ذيلها باتجاه الرأس!

كلاهمـــــــا ألمح الي الماســـــوشية التي تدفع الضـــــــــحية الي استمراء الألم، وتحوّلها الي قط يتلهي بالمبرد، حتي الهزال وأخيرا الموتّ!

كيف لم يخطر ببال الضّباع التي يسيل لعابها على ما تبقّي من اشلاء القطيع أن التاريخ لن يتوقف هذا المساء او هذا الربيع؟ وكيف تناسوا أن الامبراطورية التي تحولوا الي طبول لها تعاني من حرب أهلية في أحشائها ولا أدري بماذا يحس كاتب مثل عجمي عندما يقرأ تشومسكي او هارولد بنتر، او حتي الكاتب اليهودي - الأسرائيلي أوري أفنيري.

فالعبرية الفصحي تصبح أحيانا عربية أشدّ فصاحة، والعكس صحيح، وملايين المتظاهرين ضد أمريكا على امتداد خطوط الطول الثقافية وخطوط العرض السياسية هتفوا بعربية فصحى رغم اختلاف الألسنة، ولم تشب عواطفهم النبيلة أية (عجمة) أو رطانة.

لكن من يكتبون بانكليزية وصفها اورويل في الأربعينـــات من القرن الماضي، لا بانكليـــــــزية شكسبير او تشـــــــــوسر او اليوت، هم هـــــؤلاء الذين ينبجس الحبر من مثاناتهم أمام المارّة، والوصف لأورويل وليس لي ....

*

ان أهم ما يستوقف المثقف اذا لم يكن شاهد زور الآن هو انتهاء المشهد الدولي الي هذا السواد الذي كلّه سواد، وهذا البياض الذي كلّه بياض، فما من فرصة للمراوغة أو التأويل، لأن حربا بهذه الضراوة، قد رسمت للبشرية سراطاً جديدًا بين العبودية والحرية، الاستقلال والتبعية، والفرنسي الذي يدرك هذا السراط يدافع عن فرنسا قبل العراق وعن انسانيته قبل اية قومية أخرى، وكذلك الالماني والاسباني والكندي، الى آخر القائمة، لكن من يرطنون بالعبرية يفوتهم ان التاريخ لن يدفن قريبًا في مقابر آسيا، وان نبوءات فوكوياما وسائر السلالة غير المقدّسة لن تحوّل انسان هذا العقد الى الأنسان الأخير، فالتاريخ يولد من هذا الرّماد، وله القدرة علي نحت المهود من التوابيت سواء تعلّق الأمر بالبشر او الأفكار، ويبدو أن للأزمات وجهًا آخر، كما هو الحال بالنسبة للكوارث، هو توفير المجال لآختبار منسوب العدالة، وما تبقي من الناس على قيد الضمير والذاكرة.

بالطبع لن نوغل في التعويل علي هذا الوجه الآخـــــــر للأزمــــــــة بحيث نكتب مديحا لها، ونعدّد فضائلها الاختبارية، لكن من أسلـــمــــوا ارادتهم لرعونة القوة، بلغتهم عدوي العمي، ولشدّة ما التصق القاتل بالقتـــــــيل باتت الشعرة الفاصلة بين دم كل منهـــــــما والآخر مهددة بالتلاشي، لكن المثــقف الجدير بهذه الصفة، هو المرشّح قبل الجميع لبعث الفروق بين الأضداد حين تعمّ الفوضي، وينعدم المعيار ونتعطب البوصلات كلها،

أخيرا، ان الكتابة بالعبرية الفصحي تضيف الي مكرها، ومهارتها في التضليل مكرًا آخر، هو هذا التأوه الكاذب نيابة عن الضحيّة وكأنها خرساء، والحقيقة هي أن خطاب الدمّ القادم سيكون عربياً ممهورًا بأسطع ما اجترحت الأبجدية، وقد يلد رسوله أيضا...؟

(<القدس العربي> - لندن، 15 آذار)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات