في هذه المرحلة الصعبة، المطلب العربي الأول ليس "الديموقراطية" بل التحرير من هيمنة الأجنبي. علمتنا تجارب الماضي ان اقامة الديموقراطية في ظل الاستعمار لا تأتي بالحرية بل تكرّس الاستعباد للأجنبي. فالحرية والديموقراطية وحق تقرير المصير لا يحققها إلا كفاح الشعوب وتضحياتها، ايضاً كما علمتنا في القرن الماضي ثوراتنا ضد الاستعمار.
في هذه المرحلة الصعبة، المطلب العربي الأول ليس "الديموقراطية" بل التحرير من هيمنة الأجنبي. علمتنا تجارب الماضي ان اقامة الديموقراطية في ظل الاستعمار لا تأتي بالحرية بل تكرّس الاستعباد للأجنبي. فالحرية والديموقراطية وحق تقرير المصير لا يحققها إلا كفاح الشعوب وتضحياتها، ايضاً كما علمتنا في القرن الماضي ثوراتنا ضد الاستعمار.
المشكلة التي يعانيها العرب اليوم ليست مشكلة نفسية، بل هي مشكلة سياسية، وحلّها ممكن ومتاح ويتم بتغيير الأوضاع القائمة: باستعادة الشعوب العربية عزيمتها على مواجهة الاستعمار الجديد ومقاومته وكسر شوكته.
ندرك جميعاً ما هدر العرب خلال نصف القرن الماضي من امكانات مادية وبشرية، وندرك مدى فشلهم دولاً ومجتمعات في تحقيق التغيير الاجتماعي وإقامة الدولة الحديثة والمجتمع الديموقراطي في اي قطر من الأقطار العربية.
وكما نرى، ما زال العرب يعيشون في ظل نظام ابوي (بطركي) عاجز عن مواجهة التحديات الداخلية وغير قادر على الوقوف بوجه الأخطار الخارجية. وتضاعفت هذه التحديات والأخطار بعد الغزو الأميركي، وتجسّد الخطر الخارجي في واقع احتلال اجنبي ونظام (اميركي - اسرائيلي) استعماري جديد نراه يُبنى ويستقر يوماً بعد يوم لا في العراق وحسب بل في الهلال الخصيب والخليج والجزيرة العربية.
لكن التاريخ وأحداثه ليست قدراً محتماً. فالأحداث التاريخية الكبرى، كالتي نواجهها اليوم، تجلب معها احياناً تحولات وإمكانات لم تكن متوافرة قبل هذه الأحداث.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المنعطف التاريخي: ما طبيعة الخلل في النظام العربي القائم؟ نجد الجواب في دراسات علمية مختلفة، آخرها وأهمها التقرير حول التنمية البشرية في العالم العربي (الصادر عن الأمم المتحدة عام 2002)، وهو فشل هذا النظام في تحقيق التغيير الاجتماعي والانتقال الى الحداثة فبقي على حاله: نظاماً أبوياً متخلفاً يقوم على ثقافة قمعية تنبع من العلاقات السلطوية التي تنمو وتتطور داخل العائلة الأبوية، ثم تُكمل وتتعزز في مؤسسات المجتمع والدولة على انواعها كافة. ويستمر هذا النظام بإنتاج نفسه وإعادة إنتاجها من خلال عملية التثقيف الاجتماعي Socialization المباشر وغير المباشر - في المدرسة والجامعة ومكان العمل، كما في بيروقراطية الدولة ومؤسسات المجتمع المدني - التي يتكون فيها الفرد الذكوري القامع للمرأة والعاجز عن تحرير ذاته وتحرير مجتمعه وتحقيق امنه الوطني والقومي.
والمفارقة ان طريق الخروج من الواقع الأبوي القائم أو الوسيلة الفعّالة لتحقيق التغيير المطلوب تكمن في الدولة نفسها التي نطالب بتغييرها وتجاوزها. والخلل في هذه الدولة الأبوية هو انها لا تستهدف الصالح العام بل صالح الفئة الحاكمة الخاص وهم هذه الفئة وهمّها الأكبر امتلاك السلطة والثروة الى الأبد.
من هنا، اذا نظرنا نظرة واقعية الى إمكانات التغيير الاجتماعي والسياسي في معظم الدول العربية، لوجدناها ضئيلة ومعقدة. كلنا ندرك ان عهد التغيير العنفي، الذي فعّل حركات التغيير الثوري في الستينات وأوائل السبعينات، قد مضى ولم تعد الثورة مشروعاً عملياً للتغيير في معظم الأقطار العربية القائمة.
لكن على رغم كل هذا، فإن المطلب الأكبر الآخر في هذه المرحلة هو ايجاد وسائل التقارب بين الحكومات وشعوبها، وفتح قنوات التواصل في ما بين السلطة والحركات الاجتماعية، الإصلاحية منها والمقاومة، وتأمين الصيغ التي يمكن الدولة ان تساهم من خلالها في عملية الإصلاح والتعاون الوطني التي يطالب بها المجتمع المدني في انحاء العالم العربي كله.
ما يجب إدراكه والتشديد عليه انه لا يمكن عملية الإصلاح والتعاون والتغيير ان تفعل إلا ضمن الإطار القطري، اي داخل الدول الوطنية القائمة Nation-states، التي تملك السيادة والمال ووسائل التغيير كلها. لذلك فإن ما يحدد طبيعة النشاطات الممكنة على ارض الواقع هي بالذات الأوضاع والعلاقات المحلية النابعة من الخصوصيات والتجارب الاجتماعية والتاريخية لكل قطر من هذه الأقطار.
اما كيف يتم التواصل بين النخب الحاكمة وبين النشطاء والقوى والحركات الاجتماعية، فلست ادري كيف يمكن إرساؤها. إنها بلا شك عملية شائكة ومعقدة، لكن لا مهرب منها.
ما يدعو الى القلق في هذه اللحظة الانتقالية امران:
قيام نظام احتلال استعماري على مدى المشرق العربي، الذي اذا استمر، ستكون له نتائج وخيمة على المستقبل العربي.
اما الثاني فهو الوضع المحزن لأكبر وأهم دولتين عربيتين بعد سقوط العراق، مصر والجزائر اللتين ترزحان احداهما تحت عبء التبعية الأميركية والأخرى تحت عبء حكم ابوي عسكري خانق يصعب فيه التغيير.
ما يرمي إليه بوش، والعصبة الليكودية واليمينية المتطرفة حوله كخطوة اولى، هو تثبيت السيطرة الأميركية المباشرة على العراق وإقامة نظام سياسي تابع يوفّر الشرعية اللازمة لتنفيذ الأجندة الأميركية الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة ككل.
وفي حين يعلن بوش ان القوات الأميركية سيتم جلاؤها خلال بضعة اشهر يعلن عن عزمه على إقامة قواعد اميركية على ارض العراق (المطار العسكري قرب بغداد، في الناصرية وفي الشمال والصحراء الغربية). وكما تذكرنا الكاتبة الأميركية، مورين داود، بازدواجية كلام جماعة بوش:
إن "جماعة بوش تتظاهر بأن اميركا لا تريد اقامة قواعد عسكرية في العراق، لكنها بالواقع تريد ذلك، وبأن الأميركيين لا يريدون التدخل في موضوع النفط العراقي، لكنهم يريدون ذلك، ان الأميركيين لن يتدخلوا في السياسة العراقية الداخلية حتى لو هيمن التيار الإسلامي الأصولي، لكنهم سيتدخلون، وان اميركا ستغادر العراق قريباً، لكن هذا لن يكون باستطاعتها".
هل اصبح محتماً ان تُمسي دول المنطقة جزءاً من نظام الهيمنة الأميركية الإسرائيلية، وتفقد ما تبقى من سيادتها الوطنية وتخضع لإرادة واشنطن وتل ابيب، كما كانت تخضع للندن وباريس في زمن الاستعمار في القرن الماضي؟
هل ستصبح العراق بالفعل كما يصورها الصقور النيومحافظون والموالون لإسرائيل: "دولة"، كما وصفها المحلل البريطاني البارز باتريك سيل، "ضعيفة موالية لأميركا، تتمتع بـ"الديموقراطية" والاقتصاد الحر والنظام الفيديرالي، وتستغلها الشركات الأميركية، لا قدرة لها على رفع اصبع بوجه الولايات المتحدة او بوجه المصالح الإسرائيلية".
هل ستعترف الدول العربية التسع عشرة الباقية بإسرائيل وتُطبع علاقاتها الثنائية بها وتعقد الاتفاقات التجارية والثقافية وربما التحالفات الأمنية معها؟
هل ستنجح الحكومة الفلسطينية الجديدة بإنهاء الانتفاضة وتنفيذ "خريطة الطريق"، وإقامة "دولة" فلسطينية تعترف بها اسرائيل وأميركا، ويقفل ملف القضية الفلسطينية دولياً؟
إن خوف الإدارة الأميركية الأكبر في هذه المرحلة يتمثل، كما يقول باتريك سيل، في "قيام مقاومة عراقية تُعرّض قواتها العسكرية وإدارتها المدنية وشركاتها الى حرب عصابات وهجمات استشهادية كالتي اجبرت اسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان". من هنا ضرورة عزل العراق ومنع اي تدخل خارجي فيه، وخصوصاً من سورية، الدولة الوحيدة من دول جوار العراق التي يمكن ان يأتي منها الدعم في السلاح والمال والمتطوعين ويتوافر فيها "الملجأ الآمن".
ويؤكد اكثر المحللين السياسيين ان الحرب في العراق لم تنته بعد وأن السلام المتوقع لم يتحقق. يقول روبرت فيسك، مراسل الإندبندنت البريطانية: "ربما يكون ما سمّي بحرب التحرير الأميركي قد انتهى، لكن حرب تحرير العراق من الأميركيين تبدأ الآن". ويزيد باتريك سيل: "في ضوء كل التحليلات، فإن الشوط الأول لمشكلة الولايات المتحدة في العراق يبدأ الآن".
لكن، كيف سيكون الوضع اذا سارت الأمور في اتجاه مغاير؟ مثلاً، إذا، كما نتوقع، لم تستتب الأمور في العراق كما يشتهي الأميركيون واستمر التوتر والعنف وقامت مقاومة ضد الاحتلال والحكم التابع له؟ أو إذا تفشّت المعارضة في المنطقة، وتخلخل الأمن والاستقرار في بعض الدول العربية الموالية لأميركا؟ أو إذا فشلت عملية "خريطة الطريق" واستمرت الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية؟ او، اخيراً، اذا فشل بوش في انتخابات الرئاسة المقبلة (نوفمبر 2004) وقامت ادارة ديموقراطية تعارض سياسة بوش الخارجية وأهدافها الاستعمارية في المنطقة؟
إن الرفض الشامل لسياسة الحرب والاستعمار الجديد ومواجهتها ومقاومتها قد بدأ في العالم العربي والإسلامي وعلى صعيد العالم اجمع بما فيه المعارضة داخل الولايات المتحدة، التي اعلنت ان هدفها في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل هو الإطاحة بجورج دبليو بوش وعصبته المخبولة وإقامة ادارة جديدة "تلتزم مبدأ التعاون بين الدول والسلام العالمي".
استاذ شرف في جامعة جورجتاون ورئيس المركز الفلسطيني في واشنطن.
الحياة 2003/05/03