المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 2151

التحولات العميقة التي تعرض لها المجتمع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين أثرت في الإعلام الإسرائيلي شكلاً ومضموناً كالتخصيص واللبرلة الاقتصادية والدمقرطة السياسية. وقادت التحولات إلى نتائج ابتعدت بإسرائيل عن فكرة «المخيلة الجماعية» التي حاول بن غوريون «الأب الروحي» لحزب العمل الإسرائيلي تأسيسها، وأدت إلى تصاعد هيمنة رأس المال حيث الإعلام مصدر ربح ويمكنه ذلك من خلال الدمج بين الأيديولوجية «القومية التعبوية» ومجالات وثقافات الترفيه وبهدف تعميق التحكم بآليات الاستهلاك الإعلامي وضمان الانصياع السياسي.

 

هذه التحولات يتناولها الكاتب الفلسطيني أمل جمّال (محاضر في جامعة تل أبيب) في كتابه «الصحافة والإعلام في إسرائيل» (منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"– رام الله، 2005)، ويضع جانباً منها في سياق التحولات في هياكل المؤسسات الإعلامية وتزايد الاحتكار حيث تتحكم مؤسسات اقتصادية بالبث الإعلامي وبالخطاب الإعلامي. عصر تزداد فيه الأصوات الإعلامية وتقل فيه الاختلافات، ويُردد الكل المقولات والمضامين والأشكال نفسها.

انطلاقاً من هذه الرؤيا، يعرض جمّال مستويين من التغيير، المحور الأول يوضح التعددية المؤسسية للصحافة والإعلام الإسرائيلي. والمحور الثاني يوضح انعكاس هذه التعددية على المفاهيم والقيم المهنية في الخطاب الإعلامي.

 يُبرِر طريقة التناول هذه أن التطرق إلى مبنى المؤسسة الصحافية والإعلامية في إسرائيل فقط غير كاف،ٍ على رغم أهميته في إظهار خصائص هذه المؤسسة وأشكال التأثير فيها من قوى خارجة عنها مثل المؤسستين السياسية والعسكرية وأصحاب رؤوس الأموال. وهو تأثير هائل يخضع الإعلام والصحافة في إسرائيل، إرادياً، لمصلحة المؤسسة السياسية والعسكرية والنخب المهيمنة.

وفي السياق نقرأ وجهة نظر ثاقبة حول إشكالية «ديمقراطية الإعلام» الإسرائيلي وقصور بعض النظريات في فهمه. ويقدم الكتاب نموذجاً مركباً لشرح التعقيدات البنيوية وتنوع مضامين هذا الإعلام من جهة ومدى انصياعه الشديد للقوى السياسية والأمنية والاقتصادية المهيمنة في المجتمع الإسرائيلي من جهة ثانية، ويسمي الكاتب ذلك نموذج «الانصياع الإداري»، ويتمثل في رضوخ المؤسسات الإعلامية والصحافيين الطوعي للمؤسسات السياسية والعسكرية. ولا يترك جمّال أسئلته هائمة إذ يستطرد عارضاً التغييرات في العادات وآثار محاولات الصحافة إتباع تقاليد غربية، وتلبية حاجات كثيرة في مجتمع «تميزه أزمات كثيرة وخلافات حادة في وجهات النظر إضافة إلى نمو الاتجاهات الفردية».

من حيث المفهوم، تنامت منذ الثمانينات صحافة التحقيق واتجاه توفير المعلومات حول الحكم وعمله. وفي مجالات عدة تم تثبيت صحافة نقدية والتأثير في التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويخلص الكاتــب مراراً وكلما تـطرق إلى مضمون هذه التغييرات تجاه فلسطينيي الداخل وتجاه الصراع مع الشعب الفلسطيني، إلى استمرار الصحافة الاسرائيلية، عند التطرق إلى المسائل الأمنية والسياسة الخارجية، في الالتزام بالمشروع الصهيوني وروايته للصراع. وفي نقل رغبات المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة مع إبرازها الفوارق البسيطة بين المواقف السياسية المختلفة للأحزاب خصوصاً في الأزمات.

ويعزز جمّال ما خلص إليه بعرض نتائج أبحاث إسرائـيـليـة إعـلامية كرست فيها الصحافة العبرية «جهدها لمصلحة الجيش بهدف الحفاظ على صورته كأسطورة». وأحياناً تحويل «الفشل» التكتيكي إلى «نجاح» استراتيجي. وشكلت وسائل الإعلام هذه لسان حال الحكم في الشؤون الخارجية ومن دون نقد كما يُفترض في الصحافة الحرة. واعتمدت موقفاً تعبوياً أكثر حدة يقول إن هدف الفلسطينيين إبادة إسرائيل وليس إقامة دولة في حدود 1967. كل هذا يشير كما يبيّن جمَّال إلى الانصياع الإعلامي الكامل لمواقف المؤسسة الأمنية كما يتضح من الاعتماد الكلي على هذه المؤسسة في معظم المعلومات الصحافية بل حتى معظم الأبحاث الأكاديمية وأطروحات الماجستير والدكتوراه في الجامعات الإسرائيلية.

 في فصل آخر نقرأ عن الصحافة التي تصدر بلغات أخرى (إنكليزية وروسية) وتوقف خاص عند الصحافة العربية، ونلاحظ محاولة جادة للإجابة عن أسئلة تُحير القارئ البعيد وهو يستعرض وضع صحف الفلسطينيين في الداخل، نشأتها وظروفها الراهنة، وعلاقتها بالمؤسسة الإسرائيلية الأمنية والسياسية والخطوط الحمر. وهنا نعود مع جمّال إلى منتصف ثمانينات القرن الفائت الذي شكل مفترقاً لهذه الصحافة، وبعد إشارة إلى دور صحيفة «الاتحاد» الذي «يشهد له كثيرون وقيادتها لموقف سياسي مختلف واجتذابها أقلاماً حرة، وكانت ذراعاً واقية».

نصل إلى التعددية الراهنة مع صدور صحف «الصنارة»، «بانوراما»، «كل العرب» و«فصل المقال» وغيرها من الصحف الأسبوعية. هذه التعددية الإعلامية القائمة خصوصاً في الجليل، مؤشر واضح إلى المواقف المتباينة لفلسطينيي الداخل ولعدم توافر أرضية مشتركة للنقاش البناء ورضوخها لقوى السوق ولتدخل السلطات الإسرائيلية. وفي هذه الحال يصعب على الإعلام العربي داخل إسرائيل «تنمية وعي سياسي ثقافي قومي يحدد الأهداف المشتركة لمجتمع تعرض لسياسات قمع واستنزاف يومية، وحيث يصعب الوصول إلى قواسم ومبادئ مشتركة على مستوى الهوية الجماعية». ويخلص الكاتب إلى أن «هذه التعددية تعكس حالاً خطرة من التنكيل أكثر من كونها انعكاساً لقوى كامنة تدعم الديمقراطية والبناء».

إسرائيل تستغل هذه التعددية لتعميق الشروطات والخلافات وفرض سيطرتها بكل السبل، خصوصاً من خلال سياسة الإعلانات إذ تدعم من تريد وتحجب الإعلانات وفقاً للمصالح الاسرائيلية والعلاقة مع الدولة ومؤسساتها. وعموماً تحظى الصحف العربية بنسبة 1 في المئة من إعلانات الدولة، مع أن عدد الفلسطينيين في اسرائيل الناطقين بالعربية يقترب من خُمْس السكان.

وفي أي حال، الصورة ليست سيئة الى هذا الحد فهناك جوانب ايجابية وجوهرية يتطرق إليها الكاتب ويقر بها دارسون آخرون، مثل آثار هذه الصحف في تسريع العلاقات مع شعبهم في الأراضي المحتلة عام 1967 وتعزيز التضامن مع النضال الفلسطيني. وتمتلئ صحافة فلسطينيي الداخل عادة بأخبار وقصص فلسطينيي الاراضي المحتلة عام 1967 وكذلك في المنفى والجوار العربي.

لا يكتمل الحديث عن الإعلام الإسرائيلي من دون الحديث عن التلفزة والإذاعة المسموعة، وهنا نرى بعض أسباب الأزمة التي تعصف بالأقسام العربية وأفول المشاهدين والمستمعين الفلسطينيين والعرب. وبعد عرض مسهب لوضع الإذاعة المسموعة التي تحاول مُخاطبة جهات عدة وشرائح إسرائيلية مختلفة عبر موجات متوسطة وFM يتوقف عند «صوت إسرائيل» الناطق بالعربية والموجه إلى فلسطينيي الداخل والخارج والعالم العربي ويُعدّ «ذراعاً إعلامية مركزية لإسرائيل بهدف المساعدة في تحقيق ولاء الجمهور العربي للدولة وتقديم روايات بديلة لما تبثه المحطات العربية».

تواجه الإذاعة الإسرائيلية العربية المرئية والمسموعة أزمة ثقة وانحساراً في الدور بسبب تحسن الأداء الاعلامي العربي في شكل عام وتوفر بدائل فلسطينية، اضافة الى التطور في الوعي السياسي العربي والفلسطيني وعادات متابعة الأخبار.

الأزمات في الهياكل والأهداف، بسبب التحولات في الإعلام الإسرائيلي والعالمي، سببت أزمة خانقة في المستوى المالي حيث خفضت عائدات إذاعة «صوت إسرائيل» بالعربية إلى أكثر من الثلث، وتحاول الحفاظ على مستمعيها الآن من خلال البرامج الموسيقية والترفيهية والدخول المتأخر، عبر إنشاء فضائية إسرائيلية تبث بالعربية، إلى منافسة الفضائيات العربية ولكن من دون نجاح يذكر.

يقدم جمّال والفريق الذي ساعده في فصول الكتاب الخمسة عرضاً معمقاً لمختلف جوانب الإعلام الإسرائيلي يبدأ بتقديم نظري وينتقل إلى الصحافة المكتوبة ثم الإذاعة والتلفزيون. يتوقف عند علاقة الإعلام الاسرائيلي بالمؤسسة العسكرية، وينتهي بدور الدولة والسيادة والفضاء الإعلامي والاقتصاد وتأثيره في الخطاب الإعلامي المهيمن.

في النتيجة، الإعلام الإسرائيلي إعلام تعددي ينشر ويبث ما يريده المشاهد ومن وجهات نظر مختلفة، ولكن، يخلص الكتاب إلى «خضوع هذا الإعلام إلى سيطرة تحالف قوتين أساسيتين: أصحاب رؤوس الأموال وتنحصر في مجموعة من العائلات القليلة وشركائها في عالم الصحافة والإعلام والقوة الثانية تتمثل في النخب السياسية والأمنية التي تسيطر على المؤسسات الرسمية المركزية وتسن القوانين الإعلامية وفق ما ترى أنه مصالح إسرائيلية».

__________________________________________

 

(*) أحمد سيف كاتب فلسطيني مقيم في لندن. المقال نشر في"الحياة"- لندن.

 

المصطلحات المستخدمة:

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات