المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 2180

منذ أن أعلن عن إعتزال الحياة السياسية والحزبية، بعد هزيمة نكراء أمام أريئيل شارون، في شباط/ فبراير 2001، لا ينفكّ إيهود باراك، رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، يشكّل "مادة دسمة" لكتب وأبحاث ومقالات عديدة في إسرائيل وفي خارجها على حدّ سواء. ومنها كتاب "هراكيري- إيهود باراك: الإخفاق الأكبر"، الذي صدر أخيرًا في ترجمة عربية.

 

 

   في واقع الأمر لم يكن الإكتراث بباراك وفترة رئاسته للحكومة الاسرائيلية، التي لم تدم طويلا (1999- 2001)، من قبيل الصدفة. وإنما ترتّب ذلك، بالأساس، على ما شهدته هذه الفترة من تغييرات دراماتيكية داخلية وإقليمية لا تزال تلقي بظلالها السوداء على تطورات الأحداث حتى أيامنا الراهنة. ولعلّ التغيير الأشد خطورة يبقى متمثلا فيما ترتّب على تلك الفترة من دهورة لعملية السلام الاسرائيلية- الفلسطينية، التي لم يعد الآن من المبالغة رؤية أنها أعادت الصراع إلى مربعه الأول. زد على ذلك "تفويت الفرصة"، من جانب إسرائيل باراك عن طريق العمد، للوصول إلى "إتفاق سلام تاريخي" مع سوريا بسبب إصراره على عدم إعادة شريط حدودي ضيق محاذ لبحيرة طبريا عرضه بضع عشرات من الأمتار، وفقما يؤكد المؤلف، نقلا عن أولي الأمر من المسؤولين الاسرائيليين.

 

يحتوي هذا الكتاب على تفاصيل كثيرة، بل وكثيرة جدًا. وجلّها يتعلق بشخصية إيهود باراك وأدائه العام وتدرجّه العسكري والسياسي وخصوماته وتجاذباته، وكذلك بواعثه الداخلية وتركيبته النفسانية والفكرية. وجميعها تبدو تفاصيل مهمة ومثيرة للمعني في التبحّر بتحليل هذه الشخصية وما تنطوي عليه من مركّبات قوة وضعف ونقص.

 

مؤلف الكتاب، رفيف دروكر، أشغل في الفترة التي يتناولها هنا بالرصد المتتابع وبعض التشريح وظيفة المراسل السياسي لإذاعة الجيش الاسرائيلي (جالي تساهل). وانتقل أخيرًا إلى الوظيفة نفسها في القناة الاسرائيلية التلفزيونية العاشرة. وهو من مواليد العام 1970 وخريج كلية الحقوق في جامعة تل أبيب.

 

وضمن أشياء أخرى، يستند دروكر في مادة كتابه إلى مقابلات أجراها في هذا الصدد مع حوالي مئة وعشرين شخصًا من أصحاب الشأن المباشر في إسرائيل وفلسطين والولايات المتحدة.

وكانت حصيلة كل ذلك كتابًا يشتمل على توصيف واسع النطاق لمختلف الجوانب التي شهدتها ولاية باراك في رئاسة الحكومة الاسرائيلية، وبالأخص المفاوضات مع سوريا في آخر عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد والانسحاب الأحادي الجانب من جنوب لبنان ومؤتمر القمة في كامب ديفيد ومباحثات طابا واندلاع الإنتفاضة الثانية والهبّة الشعبية للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل التي انتهت بمقتل ثلاثة عشر شابًا منهم مغدورين بالرصاص الحيّ للشرطة الاسرائيلية. كما يتطرق إلى علاقة باراك الإستحواذية مع الإعلام والصراعات العاصفة في محيطه ومكتبه وإدمانه المرضيّ على إستطلاعات الرأي العام والسقوط السياسي لحكومته وحملته الإنتخابية في 2001، التي هزم في نهايتها أمام مرشح "الليكود" أريئيل شارون، الذي اعتبر قبل ذلك واحدًا من الديناصورات السياسية في المشهد الحزبي الاسرائيلي العام.

 

"هراكيري" هي طريقة انتحار يابانية تتم على أساس بقر البطن إثر فشل شخصي فاضح. وينوّه دروكر إلى كون باراك درج، عادة، على أن يعتبر سقوطه المدوِّي بمثابة إنتحار واع، أشبه بهراكيري سياسي. لكنه انتحار ينمّ، في رأيه المخصوص، عن "ممارسة أصيلة" لإنسان كان جاهزًا للتضحية بمستقبله السياسي لصالح إسرائيل. بيد أن دروكر يسفّه هذا الرأي مؤكدًا أن هناك بونًا شاسعًا بين ادعاء باراك وبين التوصيف الصحيح الذي ينبغي إدراج قراراته كافتها في إطاره، فيكتب قائلاً: "لا شكّ أن الـ 1,8 مليون ناخب الذين صوتوا لباراك في 1999 (عندما تنافس مع بنيامين نتنياهو) لم ينتخبوه لكي ينتحر، والأمر الأكيد أن هؤلاء لم يتوقعوا أن يأخذهم جميعًا معه".

 

حتى لا نغرق في وهج التفاصيل سأشير إلى ما يلي من وقائع مركزية في هذا الكتاب:

 

(*) أولاً- يرى المؤلف أن باراك ذهب إلى مؤتمر القمة في كامب ديفيد وهو "مستعدّ جيدًا" لكي يحتفل بالاتفاق، الذي خيّل له أنه سينجزه مع الفلسطينيين حول الحل الدائم للنزاع بين الطرفين دون أن يكون مستعدًا البتة لجوهر هذا الإتفاق، وذلك بسبب من طبيعته المتعجّلة الساعية إلى إحراق المراحل وبسبب من نهجه الأرعن. ولا يقل أهمية عن ذلك أيضًا بسبب خنزوانيته الجوفاء. لا يعني هذا الكلام أنه أهمل الجوهر في ما هو مرتبط بالمشاريع الاسرائيلية التقليدية المؤدلجة بالصهيونية، فوقائع هذا المؤتمر، حتى وفق عرض هذا الكتاب لها، تثبت تصلّب مواقفه بشأن القضايا الرئيسية: الحدود والقدس واللاجئين. وكان رهانه هو أن يقنع الرئيس الأميركي بيل كلينتون بالاتفاق الذي ينوي إبتزازه من خلال تجيير كون هذا الأخير "بطّة عرجاء"، كما هي حال أمثاله عشية كل إنتخابات رئاسية أميريكية، وهذا بدوره يفرض الإتفاق على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

 

(*) ثانيًا- لدى حديثه عن أداء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والوفد المرافق له، وبالأساس في كامب ديفيد ولاحقًا في طابا وما أعقب ذلك من مستجدات، لا يخلو عرض دروكر في أحيان كثيرة من "دسّ السمّ في الدسم"، لكنه يلمح بصورة غير مباشرة إلى كون الرئيس عرفات واعيًا طيلة الوقت للمطبّ/ الفخّ الذي حاول باراك استدراجه إليه وكيفية وقوفه له بالمرصاد، سوية مع مواجهة الموقف الأميركي المنحاز.

وفي غالبية الوقائع التي يسجلها دروكر بهذا الخصوص نصادف توكيدًا على ما سبق أن جاء عليه الأستاذ أكرم هنية في كتابه "أوراق كامب ديفيد"، وتحديدًا إستحصاله للأمور التالية بشأن الرئيس عرفات:

§         كان ياسر عرفات الذاهب إلى قمة كامب ديفيد يدرك أنه ذاهب إلى معركة صعبة.. بالغة الصعوبة.

§         .. كانت المحصلة النهائية، ووفق جميع السيناريوهات المحتملة، تقود لاستنتاج واحد: سيكون هناك في القمة موقف إسرائيلي متصلّب، منسّق ومدعوم بالكامل من قبل أوساط نافذة في الادارة الأميريكية، خاصة في صفوف طاقم السلام الأميركي. وبناء عليه ستكون هناك مواجهة صعبة... بل بالغة الصعوبة.

§         كان (ياسر عرفات) يدرك بالطبع أنه سيخوض في النهاية معركة ضد الموقف الأميركي في عقر دار القوة العظمى الوحيدة في عالم القطب الوحيد.

§         وكان يدرك أنه يواجه مخططًا يستهدف الإجهاز على جوهر الحقوق الوطنية الفلسطينية، وكانت حساباته صحيحة. كما أثبتت الوقائع أن عنوان المخطط هو القدس، سواء بمحاولة فرض حلّ لا يعيدها فلسطينية عربية أم بمحاولة تأجيلها (أكرم هنية، "أوراق كامب ديفيد"، الطبعة الثانية- كانون ثاني 2001، منشورات الأيام- رام الله، فلسطين).

 

(*) ثالثًا- في الكتاب وصف مثير لأداء باراك بعد فشل القمة في كامب ديفيد وطابا وإثر تفجر الانتفاضة. وهو أداء تمحور، بصورة رئيسة، في استخدام القوة العسكرية المفرطة ضد الفلسطينيين كي يعوّض عما فقده في المفاوضات السياسية. ويحيل في أقل تقدير إلى طبيعته البشرية الثأرية.

 

هنا تجدر الإشارة إلى أن حقيقة كون الجيش قد أملى معظم الإجراءات في الميدان ليست ناجمة فقط عن كون باراك استنكف عن فرض سلطته على رئيس هيئة الأركان العامة وعلى قيادة الجيش، على ما يؤكد دروكر، وإنما عن أن  باراك وبقرار منه هو الذي منح الجيش حرية التصرف بشكل كبير.

 

كما يشير إلى دور باراك في ما يسميه "إملاء ردّ عسكري صارم" على المقاومة الفلسطينية، خلافًا لرأي عدد من وزرائه ولموقف قيادة الجيش في بعض الأحيان، كما توضّح الحادثة التالية:

 

"بعد أسبوعين من بدء الإنتفاضة، دخلت سيارة تقل جنديين اسرائيليين من الإحتياط إلى رام الله بطريق الخطأ. واعتقل الجنديان من قبل الشرطة الفلسطينية وأحضرا الى مبنى الشرطة في رام الله. ووصلت الجماهير الفلسطينية الغاضبة الى مبنى الشرطة ونفذت عملية لينش قاسية بالإثنين... سمع باراك بالنبأ، وبينما هو يشاهد التقارير الأولية عن الحدث في التلفزيون نقل قصاصة ورق الى سكرتيره العسكري، جادي أيزنكوط، كتب فيها: "أريد أن تستوضح كيف سيرد على ذلك رئيس هيئة الأركان العامة. يوجد تقييم للوضع في الساعة 12:00 وأنا أريد الرد بقوة على ذلك". عاد أيزنكوط بعد فترة قصيرة برسالة من رئيس هيئة الأركان العامة، شاؤول موفاز، مؤداها أن الأخير لا يعتقد بوجوب الرد على ذلك.

باراك: "يبدو هذا غير منطقي".

أيزنكوط: "هذا هو موقف رئيس هيئة الأركان العامة".

باراك: "قل له بأن يحضّر قائمة بالأهداف".

أيزنكوط: "هذا هو أيضاً موقف أمان (الاستخبارات العسكرية)".

باراك: "قل له بأني أنوي الرد".

في ساعات الظهر أجري تقييم للوضع ولكن الجيش لم يعرض قائمة بأهداف لقصفها.

قال باراك بغضب لكبار ضباط الجيش: "سيكون ردٌ". في هذه الأثناء حاول الرئيس (الأميركي بيل) كلينتون التحدث الى باراك. وكانت الساعة مبكرة في واشنطن وكلينتون مستيقظ وقلق للغاية. لم يكن باراك على استعداد للتحدث مع كلينتون، فقد كان يدرك ماذا ينوي الرئيس الأميركي قوله. وطلب من سكرتيرته أن تقول لكلينتون: "قولي له إني لست هنا".

بعد فترة قصيرة حقق باراك رغبته. فقصف سلاح الجو بمروحيات حربية، بعد اللينش، أهدافاً للسلطة الفلسطينية في غزة ورام الله وخاصة مبنى الشرطة الفلسطينية في رام الله، حيث نفذ اللينش، وكذلك مركبات للشرطة الفلسطينية وطابق مكاتب للتنظيم في مبنى الشرطة الفلسطينية في قطاع غزة وغيرها. لم تقصف اسرائيل أهدافاً في المناطق (الفلسطينية) لسنوات طويلة، وفي الواقع، منذ حرب الأيام الستة في 1967. لكن باراك رفع من سقف رد الفعل الإسرائيلي بشكل حاد بدون أن يتشاور مع المجلس الوزاري وعلى عكس رأي الجيش. وتلقى الفلسطينيون هذا الهجوم بشكل قاسٍ".

 

ولم تكن هذه المرة الوحيدة في الإنتفاضة التي يملي فيها باراك رداً عسكرياً حاداً، وربما أكثر من اللازم. فبعد العملية التفجيرية ضد إحدى حافلات الأولاد في كفار داروم - قتيلان وتسعة جرحى- طلب باراك مصادقة المجلس الوزاري على نسف أهداف للسلطة الفلسطينية بواسطة طائرات إف 16، وفوجئ الوزراء بذلك.  فحتى ذلك الحين، لم تستعمل الطائرات الحربية ضد أهداف فلسطينية. وسرعان ما اتضح لباراك أنه لا توجد أغلبية لهذا الإقتراح في المجلس الوزاري السياسي - الأمني. فاقترح استبدال الطائرات بمروحيات حربية. واتضح لباراك أنه توجد معارضة لاقتراحه الجديد أيضاً. وقد فاجأ باعتراضه، رئيس هيئة الأركان العامة موفاز، الذي قال للوزراء: "إذا لم يتم القصف بطائرات حربية فمن الأفضل عدم القصف نهائياً، إذ لا جدوى من القصف بالمروحيات الحربية".

لم يرغب الوزراء، في نهاية الأمر، بإحراج باراك. ومرّ اقتراحه بصعوبة، إذ انضم وزيران فقط لاقتراح باراك - بن عامي وشوحط- وعارض بيلين، في حين امتنع الوزيران بيريس وشاحاك.

أدى القصف الى أضرار شديدة. فقد جرح ما يقارب 80 فلسطينياً وانقطع تزويد الكهرباء في معظم أنحاء غزة، وتعطلت شبكة الهواتف.

بعد يوم من القصف، أعلنت مصر عن سحب سفيرها، محمد بسيوني، من إسرائيل. وكانت المرة الأخيرة التي قامت بها مصر بهذه الخطوة غير العادية في أثناء حرب لبنان. وأدى القرار المصري الى اتخاذ قرار أردني مماثل. فبقي في الأردن السفير الأردني الجديد، الذي كان يفترض أن يأتي الى إسرائيل.

 

 

(*) أخيرًا- تظل هناك وقائع كثيرة تسترعي الإهتمام زيادة على جميع ما تقدّم. ومنها نختم بالواقعة التالية:

 

في ضوء التلميح، الذي بثّه باراك لدى إعلانه النية في إعتزال النشاط السياسي- الحزبي، إلى احتمال عودته في وقت ما إلى هذه الحلبة، يتساءل دروكر: هل ستكون هذه العودة إيذانًا بحدوث تغيير نحو الأحسن في مواقفه السابقة؟. ولا يلبث أن يجيب بالقول: على رغم الإخفاق الكبير الذي مني به باراك فإنه لا يبدو نادمًا على شيء يذكر، بل هو لا يني يدافع عما ارتكبه من أخطاء وخطايا يصعب حصرها.

 

لعل الاستنتاج المطلوب الآن من هذه المسلكية هو أن عودة باراك إلى النشاط السياسي لا بد أن تكون ملوّنة بجميع مواقفه المتعنتة وقراراته الرعناء وأخطائه القاتلة، التي كلفت الشعبين ثمنًا باهظًا ولا تزال.

 

* هذا المقال هو نص تقديم الترجمة العربية من الكتاب التي أنجزها هاشم حمدان وصدرت أخيرًا عن "مدار"- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.

المصطلحات المستخدمة:

باراك, الليكود, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات