المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 1016

يكشف كتاب إسرائيلي جديد بعنوان "ثمن الغطرسة"، من تأليف الأستاذ الجامعي والباحث في شؤون الاقتصاد والمجتمع، شلومو سبيرسكي، النقاب عن الخسائر المادية والاجتماعية والإقتصادية التي حلّت بإسرائيل نتيجة احتلالها للضفة الغربية والقطاع. وأشير في الكتاب إلى أنه في العشرين عامًا الأوائل بعد الاحتلال في 1967 لم تكن الخسائر كبيرة ولكن الوضع انقلب بعد إندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 وإزدادت خسائر إسرائيل منذ العام 2000. وتقدر الخسائر خلال الإنتفاضة الثانية بحوالي 10-12 مليار دولار (40-55 مليار شيكل) بالإضافة إلى خسائر في الاستثمارات الداخلية والخارجية وإنخفاض في المستوى المعيشي للفرد وارتفاع في عدد العاطلين عن العمل على مستوى الدولة القطري. كما يتطرق الكتاب إلى خسائر إسرائيل في بناء جدار الفصل العنصري التي تقدر بمليار ونصف مليار دولار.

وقد تبنت إسرائيل وعلى مدار سنوات مضت تحليلات إقتصادية جاء فيها أن احتلالها للمناطق زاد من مكاسبها، ويظهر الكتاب أن مكاسب إسرائيل نبعت من إستغلال المؤسسات العبرية للعمال الفلسطينيين القادمين من الضفة والقطاع والاستغلال الإقتصادي الذي حلّ بهم. وكان العمال الفلسطينيون يتلقون رواتب شهرية منخفضة ويدفعون مستحقات التأمين الوطني الإسرائيلي كاملة، الأمر الذي جعل الدولة هي المستفيدة الأولى من هذه السياسة. وعلى الرغم من أن هؤلاء العمال لم ينالوا الحقوق التي ينالها العامل الإسرائيلي إلا انهم دفعوا مستحقات الدولة كاملة. ولا يقتصر الأمر فقط على التأمين الوطني لا بل إن نقابة العمال الاسرائيلية التي من المفروض أن تدافع عن حقوق العامل جبت من العمال رسومًا شهرية ومن دون أن تحميهم من إستغلال مشغليهم لهم.

وتوضح المعطيات في الكتاب أنه لا يمكن التوصل الى وضع إقتصادي صحيح وسليم في إسرائيل إلا عن طريق إنهاء الإحتلال.

ويؤكد هذا الباحث أنه إذا تفحصنا العلاقات التي نشأت بين إسرائيل وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ الاحتلال في 1967 فسنجد أنها، في الجوهر، "لا تنطوي على تسليم كامل ومريح للأعصاب بما يتعين تأويله من مصطلح "السلام"، في دلالته التي تعني حياة في إطار دولتين منفردتين منفصلتين عن بعضهما البعض، حتى في حالة التوصل إلى تسوية سياسية تلبي التطلعات القومية لجيراننا. فمنذ الاحتلال في 1967 فرضت إسرائيل على سكان المناطق الفلسطينية الاندماج في جهازها الاقتصادي - الاجتماعي إلى درجة لم يعد فيها ممكنًا الحديث في أثناء ذلك عن إسرائيل وعن تلك المناطق كوحدتين اقتصاديتين- اجتماعيتين منفصلتين. وبالإضافة إلى العدد الكبير من عمال المناطق الفلسطينية، الذين يشتغلون في إسرائيل، فإن هذه المناطق أصبحت أيضاً جزءاً عضوياً من السوق الإسرائيلي. وهو سوق غير متساوٍ وغير متكافىء. ويمكن القول، دون خشية الوقوع في المبالغة، إنه في ضوء ذلك أصبح المستقبل الاقتصادي- الاجتماعي لسكان المناطق الفلسطينية منوطاً ببرامج تطور الاقتصاد والمجتمع الإسرائيليين".

ويضيف: في المدى الذي في مقدورنا استشرافه منذ الآن فإن أيًْا من أشكال التسوية السياسية المطروقة حالياً لن يجلب معه، بصورة حتمية، تغييراً جوهرياً في علاقات التبعية بين الفلسطينيين في المناطق وبين إسرائيل. مثل هذا التقدير كان صحيحاً بالنسبة لاتفاقيات "كامب ديفيد" (مع مصر) وبالنسبة لما عرف باسم "الخيار الأردني". وهو صحيح أيضاً حتى بالنسبة لتسوية سياسية تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة بين إسرائيل والأردن.

وإذا لم يحصل مثل هذا التغيير الجوهري فإن المتوقع هو استمرار تعمق علاقات التبعية الاقتصادية- الاجتماعية بين إسرائيل وبين جيرانها الخاضعين لسيطرتها. ويعني ذلك، في المستقبل المنظور، استمرار وجود مجتمع إسرائيلي لا يستند فقط إلى توزيعة عمل طائفية بين أفراده، وإنما يستند أيضاً إلى استغلال قومي- طبقي لسكان المناطق الفلسطينية، يكون مقترنًا بتصنيف عنصري لميادين العمل بموجب المجموعات الطائفية والقومية التي تعتبر، في مفهوم هذا التصنيف، مناسبة للعمل فيها.

وهو يشير إلى أن هذه البنية الاجتماعية لا يظهر أنها تضايق غالبية اليهود في إسرائيل. غير أن الوضع الحالي مختلف عن الوضع الذي يتوقع أن يسود بعد إنجاز التسوية السياسية. في الوضع الحالي تتعامل الغالبية من اليهود الإسرائيليين مع مسألة تشغيل الفلسطينيين في إسرائيل، وكذلك مع الاحتلال نفسه، كما لو أنهما ظاهرة "مؤقتة وعابرة"- تماماً مثلما تعاملت الأغلبية في الخمسينيات والستينيات مع عدم المساواة بين الاشكنازيين والشرقيين كما لو أنها ظاهرة "مؤقتة وعابرة". ومثلما أنه في الخمسينيات والستينيات آثر الجميع أن ينظروا فقط إلى الجانب الإيجابي من عدم المساواة بين الطوائف المختلفة- "نزودهم بالشغل ونبني لهم شققا وبلدات تطوير"- فإن الأغلبية تؤثر، في أيامنا هذه أيضاً، أن ترى ما يروق لها رؤيته. هكذا مثلاً يجري تفسير تشغيل العمال الفلسطينيين في إسرائيل بأنه إثبات على "ليبرالية" الاحتلال الإسرائيلي الذي "على استعداد لأن يخاطر بتمكينهم من العمل" كي لا يعانوا عار البطالة!

لكن ما الذي سيحدث غداة إنجاز التسوية السياسية؟ حينذاك لن ينظر إلى الاستغلال الطبقي ضد الفلسطينيين باعتباره منتوجًا مرافقًا مؤقتًا للاحتلال، وإنما سيعترف به على رؤوس الأشهاد باعتباره عنصرًا ثابتًاً في البنية الاجتماعية للدولتين.

وبما أنه لن يكون هناك جيش احتلال في مقدرته أن يفرض على الفلسطينيين جوهر التشغيل وشروطه وظروفه فإنه ستتطور، بشكل علنيّ، أيديولوجيا تسوّغ وتبرّر الفوارق الطبقية الناشئة بين اليهود والفلسطينيين بمفاهيم ثقافية عنصرية أو قومية- تماماً مثلما أن الأيديولوجيا حول "الاستضعاف الثقافي" تطورت في الخمسينيات والستينيات كتسويغ ومبرّر للفوارق الطبقية التي نشأت بين الأشكنازيين والشرقيين. ومن الجائز جداً أن تعرض هذه الأيديولوجيا ذاتها اليهود بوصفهم "شعب الأسياد" و/أو "شعب المجتمع التكنولوجي المتطور"، الذي يُسمح ويحقّ له تشغيل "المستضعفين في الأرض" ضمن شروط استغلال.

بيد أن التسوية السياسية، يؤكد سبيرسكي، ستجلب معها تغييرات أيضاً لدى الفلسطينيين، الذين سيواصلون العمل في إسرائيل. فعلى اثر تحرّر هؤلاء من ربقة الحكم الاحتلالي لا بدّ أن تتجه أبصارهم وتطلعاتهم صوب التنظم والكفاح من أجل شروط عمل أفضل. وبالتأكيد فإنهم سينتفضون علناً ضد الأيديولوجيا الطبقية- القومية التي أصبحت لها مركبات رئيسية منذ الآن. وإن أي نضال طبقي واقتصادي يخوضه الفلسطينيون ضد إسرائيل، بوصفها الجهة المؤثرة بل وحتى المسيطرة على كيانهم السياسي المتأتي عن التسوية، لا بد أن يحمل طابعاً قومياً كذلك.

بكلمات أخرى: إذا لم يحصل تغيير جوهري في العلاقات القائمة حالياً بين اليهود والفلسطينيين فإن حالة "السلام" بينهما أيضاً ستكون متميزة بالنضال المستمر وبالقمع.

ويتابع: إجمالاً نستطيع القول إنه إذا استمرت الظروف القائمة حالياً فإن "السلام" المنشود لن يكون حقيقيًا. ومن الأفضل وضعه بين مزدوجتين، حسبما أفعل. كذلك لن يكون سلامًا مهدئًا للتوتر الدائم، بل سيكون مقرونًا بمثل هذا التوتر وبمواجهات مسلحة وباستمرار سيرورات التآكل الأخلاقي والفكري.

الحؤول دون تطور كهذا يستوجب، في رأي الباحث، تغييرًا في مفهوم التطور الاقتصادي- الاجتماعي، الذي ضرب جذوراً عميقة في إسرائيل. وأي مفهوم مغاير للتطور لا بُدّ أن يكون مقروناً أيضًا بـ "ثقافة تطور" مغايرة.

المصطلحات المستخدمة:

التأمين الوطني

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات