المكتبة
إيلاه شوحاط في كتابها "ذكريات ممنوعة": ربط اليهود بالذاكرة الغربية فقط هو تغطية لخطة التقسيم الكولونيالية
الكتاب: "ذكريات ممنوعة" (الترجمة العربية)
تأليف: إيلاه شوحاط
الناشر: دار كنعان ـ دمشق 2004
الصفحات: 196 صفحة من القطع المتوسط
ما الذي يجمع بين الباحثة إيلاه شوحاط، التي تصر في كتابها هذا وفي ما تكتبه عمومًا على أنها يهودية عراقية ولدت في اسرائيل وتعيش في أميركا، وبين ادوارد سعيد الفلسطيني المقدسي الذي عاش في أميركا؟.
تفرد الباحثة فصلا في كتابها "ذكريات ممنوعة" عن المنفى المزدوج لكليهما، وعن مكابدات الاختراق الثقافي للمفاهيم الصهيونية في العقل الغربي والأميركي خصوصا. لكنها تبدأ من حيث تعيد انتاج المقطع التوراتي عن «السبي البابلي»: «على أنهار بابل، هناك جلسنا وبكينا ونحن نتذكر صهيون»، معكوسا هذه المرة.. حيث تقول:
ـ ربما هذا هو الوقت المناسب للتصحيح والانتحاب: «على أنهار صهيون، هناك جلسنا، وايضا بكينا ونحن نتذكر بابل».
وبابلها.. بغداد، حيث تصر حين كانت في اسرائيل على أنها: يهودية عراقية، كما تفعل في أميركا حيث تعيش الآن.
وسنلحظ في كتابها هذا اصرارها على تواتر ثلاثة مصطلحات: يهود عرب، يهود شرقيون، يهود الاسلام.. أي: اليهود الذين عاشوا في كنف الحضارة العربية الاسلامية، في مقابل المصطلحات التي روجتها الصهيونية عن اليهود كأمة، معتبرة اسرائيل بأنها: دولة الاشكناز.. أي: دولة اليهود الغربيين، التي تعاملت مع اليهود الشرقيين «السفارديم» كمواطنين من الدرجة العاشرة، حيث لم يفلح الخطاب «الصهيوني»، «يهود مقابل عرب»، في اخفاء الشرخ البنيوي لدولة اسرائيل منذ انشائها وحتى الآن.
حتى في شمال أميركا ـ تقول ايلاه شوحاط ـ ليس لنا الحق في الحديث الا باسم ذاكرة يهودية واحدة هي: «الذاكرة اليهودية الاوروبية. وعندما نعلن عن عربيتنا اليهودية نجابه بحاجب يرتفع وبأصبع موبخة».
وتتابع: «لقد أكره والداي على مغادرة بغداد، وكان عليهما ان يكونا عربا أو يهودا، وان يمسحا الوصمة العراقية، في محاكاة «اليهودي الجديد» كتدريب على التدمير الذاتي للهوية. قال والداي: في العراق كنا يهودا، وفي اسرائيل نحن عرب! ومنذ دخول التلفزيون الى بيتنا عام 1969، وهما يتابعان باخلاص برامج وأفلاما تلفزيونية في محطات الاردن ولبنان ومصر».
وتنوه الباحثة الى ان الخطاب الثقافي الغربي يعترف بالصلة القائمة بين اليهودية والمسيحية ويشطب الصلة التي تربط اليهودية بالاسلام.
وفي كتب التاريخ الرسمي والمدرسي لاسرائيل توصف حياة اليهود في البلدان الاسلامية على أنها كابوس طويل من الاضطهاد، مع أن اليهود ـ الاسلام لم يعرفوا محاكم التفتيش الاسبانية ولا غرف الغاز النازية، وقد عبر اليهود العرب عن نتاجهم الديني والعلماني بالعربية، وتختلف شعائر صلاتهم عن الصلاة الاشكنازية ـ الغربية، ولم يكونوا يرتدون الثياب السوداء ذات المنشأ البولندي، بينما كانت النساء يضعن غطاء رأس يتناسب مع الزي المحلي.
تشير ايلاه شوحاط إلى ان ربط اليهود بالذاكرة الغربية فقط، هو تغطية لخطة التقسيم الكولونيالية الاستعمارية التي جعلت الفلسطينيين يطردون من اراضيهم واملاكهم وذكرياتهم، كما اقتلعت يهود البلاد العربية والاسلامية من جذورهم لتجعلهم مجرد لاجئين في «ارض الميعاد» يواجهون النزعة الكولونيالية ذاتها عن اليهود الاشكناز الغربيين بوصفهم: اخرين، حتى ان الخوف من التصنيف كعراقية أو يمنية او مغربية جعلت نساءنا يصبغن شعورهن بالاشقر، وحلق رجالنا شواربهم الشرقية، بينما اعتقل بعضنا وضربوا على أنهم فلسطينيون!.. لقد ترافق نفي الشرق العربي الاسلامي والفلسطيني خصوصا بنفي الشرق اليهودي واليهودي العربي خصوصا، وقد جرد ايضا من حقه في تقرير المصير!
تشرح ايلاه شوحاط: «تزعم الصهيونية أنها حركة تحرر لكل اليهود، لكنها لم تكن سوى حركة تحرر لليهود الاوروبيين. وبينما تزعم انها تمنح وطنا لكل اليهود، فقد جيء باليهود الشرقيين الى اسرائيل تلبية لاحتياجات صهيونية ـ اوروبية كولونيالية، وكمجرد.. أيد عاملة رخيصة الثمن. وقد تعرضوا منذ لحظة وصولهم، ولا يزالون، الى تمييز منهجي ضدهم حتى في توزيع الموارد بمحاباة اليهود الاشكناز ـ الغربيين ـ على حساب الشرقيين ـ السفارديم».
وقد وصفهم دافيد بن غوريون بعديمي الثقافة، تعوزهم حتى معرفة الالف باء، وبدون أية تربية يهودية او انسانية، بل وصل الى القول بأن «الروح القدس قد فارقت يهود الشرق»!!
وكذا.. صرح ابا ايبان وغولدا مائير وآخرين من قادة الصهيونية، واليوم.. تندد شولاميت الوني، عضوة الكنيست الليبرالية السابقة وزعيمة حركة حقوق المواطن، بمتظاهرين يهود شرقيين على أنهم «قوى قبلية بربرية، يتحركون على انغام التام تام كقطيع، ويغنون كقبيلة همجية!».
وفي اسرائيل الموعودة، يقال عن اليهودي الشرقي: اليهودي الأسود، عبارة «شفارتساع حبيعاص» وتعني: حيوانات سوداء!.
واكتشف الصحفي امنون دنكنر في مقال نشره «هآرتس» حقيقة اليهود الشرقيين الذين تستمد ثقافتهم مصادرها من الثقافة العربية الاسلامية، قائلا: «هؤلاء ليسوا اخوتي ولا اخواتي، دعوني من هذا.. ليس لدي اخوة»!.
وقد قالت غولدا مائير: «اولئك الذين لا يتكلمون الييديش ليسوا.. يهودا». والمفارقة ان اليهود الشرقيين يتكلمون العبرية السامية، فيما يدعى الاشكناز من يهود الغرب أنهم ساميون، ويحاربون الآخرين بسيف العداء للسامية!.
وتقول الباحثة ان كتابات ادوارد سعيد هي تعبير عن حالة عدم القدرة على العودة الى المكان الذي اقتلع منه فجأة، "وأنا ايضا اكتب مثله كذات شرقية مقتلعة، كيهودية عربية لا استطيع العودة الى بغداد مسقط رأس والداي، واكتب ايضا بصفتي ولدت في اغلبية مهمشة في اسرائيل عانت امحاء ثقافتها وتاريخها الشرقيين، وايضا.. مثل ادوارد سعيد كأكاديمية تعيش الآن في الولايات المتحدة".
"ومن هنا- تضيف- افهم موقع ادوارد كفلسطيني في المنفى استطاع ـ وهذا نادر الحدوث ـ ان يخترق وسائل الاعلام الاميركية المغلقة عموما امام كل مثقف نقدي، وان يعترض على الوضع الذي اتاح للصهيونية تنصيب نفسها كمتحدث باسم فلسطين والفلسطينيين لتحول دون الفلسطيني من تمثيل نفسه على مسرح الرأي العام الدولي. ولم يكن مفاجئا اتهام ادوارد سعيد وخاصة مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية بأنه يحمل غضبا غير مسؤول، يصل الى مستوى الارهاب الذي يستخدمه زملاؤه في المجلس الوطني الفلسطيني!
وهو ما دعا سعيد الى التحقيق في جنيولوجيا مصطلح الارهاب ضمن سياق تاريخي عريض من تاريخ اليأس والنفي والاقتلاع، مبرزا الارهاب الذي تقوم به دولة مثل اسرائيل على نحو قانوني وعسكري نظامي ومبرمج".
وتشير الباحثة لماذا ازعج ادوارد سعيد الخطاب السائد في أميركا وفي اسرائيل معا بقولها انها "صورته المتميزة كأكاديمي من جامعة ارستقراطية، يتحدث باسم الحقوق الفلسطينية والعربية وهو متمكن من اسرار الثقافة الغربية ومعايير الحوار الاميركي وقواعد اللعبة الاعلامية في أميركا".
يقول الدكتور يوسي أولمرت عن ادوارد سعيد وزميليه ابراهيم ابو لغد ورشيد الخالدي: ..."وكلهم سوبرستار، انهم رجال مؤثرون، ذوو مكانة اكاديمية مرموقة، ويستغلون موقعهم، دون كابح، من اجل الدفاع عن قضيتهم الوطنية»!
بينما لقبتهم صحيفة عصبة الدفاع اليهودي الاميركية بـ «بروفيسورات.. م.ت.ف» وقالت بعد لقائهم جورج شولتز «فلسطينيون يحتلون الاعلام الاميركي»!.
تتابع الباحثة: وبما ان الاعلام هو الوعي الاميركي، فانهم يسيطرون على الوعي، ولهذا بلغ الاستنفار أوجه بين دوائر اللوبي اليهودي ومناصريه ضد ادوارد سعيد، فحتى عندما يعبر فلسطيني كادوارد سعيد عن رغبته في اجراء حوار مفتوح، فانهم يفسرونه كمكيدة عربية! اما الجوهر فهو قدرته على المس بصورة اليهودي كضحية، من خلال قدرته على التحدث باسم التاريخ الفلسطيني وفق الخطاب اليهودي ذاته، ناقضا اياه كضحية صار لها ضحاياها، كضحية صارت جلاد ضحاياها الفلسطينيين! وهذا اختراق لمصطلحات الاعلام الاميركي الذي يسمي حرب 1948 بحرب الاستقلال، وحرب 1967 بحرب الايام الستة.. بحسب المصطلح الاسرائيلي ذاته، وليس النكبة أو النكسة، ليس الاستيطان والتهجير.. بالطبع. وبالطبع ليس المنفى والعودة، لأن اليهود فقط يمتلكون الحق الحصري لهذه المصطلحات. ولقد استطاع ادوارد سعيد ان يكسر هذا الاحتكار، وان يجعلهم منفعلين من مجرد فكرة ان اليهود انفسهم قد انتجوا ضحايا، وهي سخرية تاريخية اقتنصها ادوارد سعيد من الخطاب الصهيوني ذاته: نفي الشتات، ترحال، وطن، وكأنها تصف الحال الفلسطينية تماما.
ان الصهيونية من زاوية رؤية ضحاياها- تضيف الباحثة- بما في ذلك ضحاياها من اليهود تجعلها منتجة للنفي، ولاقتلاع اخرين من أرضهم، وحين يكتب ادوارد سعيد عن منفى المثقف الفلسطيني فالتهديد كامن في قصة حياته ذاتها.. كفلسطيني يعزف على أوتار حساسة داخل اميركا ذاتها لأن ماضيها كدولة كولونيالية استيطانية، واستيعابها للسردية الصهيونية، القومية بل ودفاعها عنها، يذكرها بالهندي الأحمر والفلسطيني كوجهين متطابقين للاقتلاع والنفي.. أليست أميركا في نظر المستوطنين البيوريتانيين هي «أرض ميعاد» أيضا و«كنعان جديدة»!