المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 1597

- عن صناعة "الهويات الشرقية" في إسرائيل/ أحمد أبو حسين

 

الكتاب: "اليهود العرب - قومية ، دين وإثنية"

إصدار : "عام عوفيد" (تل أبيب)، 2003

عدد الصفحات :300

المؤلف : يهودا شنهاف (عالم إجتماع إسرائيلي)

 

 

 

 

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور يهودا شنهاف، أستاذ علم الاجتماع والأنثربولوجيا في جامعة تل أبيب و باحث كبير في "معهد فان لير" في القدس ومحرر المجلة العلمية الإسرائيلية "نظرية ونقد "، المتخصصة أكثر شيء في نقد الصهيونية وإسرائيل .

شغل في الماضي منصب رئيس القسم المذكور في الجامعة , وعمل أستاذا في جامعات ستانفورد

وكولومبيا وبرينستون في الولايات المتحدة الأمريكية. له عدة اصدارات ومقالات علمية وكذلك عدة كتب منشورة أهمها Manufacturing Nationality , الصادر عن أوكسفورد في العام 1999 .

وله أيضًا كتاب "الشرقيون في اسرائيل" بمشاركة باحثين أكاديميين آخرين , إصدار فان لير 2002 , وله كتاب آخر صدر في العام 1995 عن "دار شوكن للنشر" بعنوان "ماكنة التنظيم ".

ينحدر شنهاف من عائلة يهودية عراقية هاجرت الى فلسطين عشية قيام الدولة العبرية , وقد

برز في السنوات الاخيرة كباحث جامعي مناهض للسياسة الإسرائيلية الرسمية تجاه الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر. ويعتبر شنهاف من مؤسسي حركة " القوس الشرقي الديموقراطي"،

وهي حركة تعلن عن نفسها بأنها تناضل ضد التمييز بحق الشرقيين ومن أجل "العدالة الإجتماعية في المجتمع الاسرائيلي" .

 

 

في كتابه هذا "اليهود العرب - قومية , دين وإثنية " يقدم لنا شنهاف شهادة باحث من أصول شرقية حول تعامل المؤسسة الاسرائيلية الاشكنازية في اسرائيل مع "اليهود العرب"، ويقصد بذلك اليهود الذين هاجروا من البلاد العربية إبان النكبة الفلسطينية في العام 1948 .

 

فمن هم هؤلاء "اليهود العرب" , وكيف تحولوا الى "شرقيين " , وكيف تحول هؤلاء مقابل اليهود الاوروبيين إلى فئة "غير ممكنة" في اسرائيل , ما هي "الشرقية" أو لنقل "الشرقوية" , وما علاقتها بالدين والقومية , ما علاقة "اليهود العرب " بنضال الشعب الفلسطيني من أجل الإستقلال الوطني ؟ .

 

هذه الأسئلة الكبيرة يطرحها الكاتب ويجيب عليها في بحث يتميز فعلا عن غيره من الأبحاث،التي غاصت في موضوعة التمييز والهوة بين الشرقيين والغربيين ( السفارديم والاشكناز ) .

 

يتناول الكاتب اللقاء الاول بين "اليهود العرب" واليهود الاوروبيين، ويتميز في ذلك كونه يتركز في المميزات الكولونيالية وعلاقة القبول والرفض بين المركبات الأساسية الثلاثة للصهيونية: القومية, الدين والإثنية، وكيف شجعت الصهيونية "العلمانية" التدين في أوساط الشرقيين لتجنيدهم للمشروع الصهيوني .

 

يلفت الباحث إنتباه القراء الى أهمية الغوص والتنقيب في الاربعينيات لاستيعاب الطائفية في اسرائيل , ويوضّح أن "الشرقوية" ليست مناقضة أو مضادة للأشكنازية وهي بالتأكيد ليست هوية متجانسة لكنها هوية ذات هامش واسع لها اصوات متعددة ومختلفة .

 

لا توجد في هذا الكتاب نصوص عن رواية الشرقيين في إسرائيل , لكن الكاتب اختار حيزا لا بأس به من مقدمته ليحكي لنا القليل عن ماضي عائلته ومعارفها كي يفتح النار ويفضح الحقيقة عن معاناة " اليهود العرب " وتعامل المؤسسة الاسرائيلية معهم .

 

ويبدو واضحا منذ البداية أن الكاتب لا يؤلف كتابا بيوغرافيا عن حياته , لكن قراءة المقدمة توحي بدليل الكتاب النظري فحكايته عن عائلته في المقدمة محاولة ناجحة من الكاتب لتبسيط إدعاءات بحثه أمام القارئ .

 

 

يقول شنهاف في مقدمته : " منذ فترة وجيزة كنت جالسا في مقهى أرتاده في تل أبيب وإذا برجل كبير السن يفاجئني بالسؤال : هل أنت إبن الياهو شهرباني رحمه الله ؟ وتابع الرجل إبن السبعين قائلا : أنا أفنر يارون وقد جنّدته للمخابرات في الخمسينيات , وأستطيع ان أثبت لك ذلك" .

 

ويتابع شنهاف: "صدمت من طريقة سؤاله , لا أذكر أنني التقيته يوما , لن اتفاجأ أن والدي كان في المخابرات , كنت أعرف , لكنه فاجأني بأنه يريد أن يثبت لي ذلك , ذهب الرجل دون أن أرد عليه , ومرّت أيام وأرسل لي إلى المقهى مغلفا فيه بعض الصور , الصور كانت قديمة , في احداها ، وهي صورة بالابيض والاسود، يظهر والدي بصحبة أربعة شبان وشابة , كلهم "شرقيون" ممن تجندوا للمخابرات في حينه " .

 

 

كان والد شنهاف يعمل في المخابرات , وهو من مواليد العراق , وكان جده تاجرا متنقلا يبيع التمر والبيض والاسماك. وكان يسافر من بغداد الى فلسطين مرة واحدة كل ثلاثة أشهر , في احدى المرات من سفرياته المتكررة إشترى قطعة أرض في بيتح تكفا (ملبس) وفي العام 1936 حاولت العائلة ان تستقر في فلسطين لكنها عادت بعد تسعة أشهر , وفي العام 1942 قرر الياهو شهرباني اللحاق بأخيه شلومو الذي هاجر الى فلسطين , عارض الجد هجرة الأبناء لكن عناد الابنين الياهو وشلومو انتصر في نهاية الأمر .

 

 

في العام 1946 إستوطن الياهو شهرباني، والد يهودا شنهاف، في مستوطنة كيبوتس ألونيم بجانب الناصرة , أغلبية المستوطنين فيها كانوا من الاشكناز , وفقط قلة منهم كانت ممن هاجروا من العراق . وهناك في ألونيم قرر شهرباني مع "مجموعته البابلية " , معظمهم انضموا فيما بعد للمخابرات , الإستيطان في مستوطنة باري التي أقيمت على أنقاض قرية نحبير الفلسطينية .

 

وفي احد الأيام إختفى شهرباني من المستوطنة, وقررت ادارة المستوطنة التحقيق مع "المجموعة البابلية" لإعتقادها بأنهم جواسيس يعملون لصالح الارغون- الايتسل ( منظمة صهيونية أسسها مناحيم بيغن).

 

كانت "المجموعة البابلية" موضع تشكيك من قبل اليهود الاوروبيين أعضاء ادارة المستوطنة , لم ينضم أحد منهم للايتسل في حينه ولم يعملوا جواسيس لصالحها , لكن أغلبيتهم تحولت فيما بعد إلى جواسيس للدولة , بعد ان وصل الى المستوطنة افشالوم شموئيلي وجنّدهم للمخابرات , فكلهم تحدثوا العربية , وملامحهم وثقافتهم كانت عربية .

 

في العام 1950 تجنّد الياهو شهرباني للمخابرات , وربح بطاقة دخوله الى "الاسرائيلية" برغم كونه يهوديا عربيا عادة ما يتم التشكيك فيه في لحظات الشدّة. ولا يخفي الكاتب شنهاف أن غياب والده لفترات طويلة عن البيت رفعت من أسهمه في الحي الذي سكنه أيام طفولته .

 

ويسرد الكاتب بعض الحكايات، كما ذكرنا اعلاه، لتبسيط ادعاءاته ويقدم لنا في المقدمة أمثلة تطبيقية من الواقع المعاش، فضلا عن فصول الكتاب الاربعة .

 

من هذا الواقع المعاش يتراءى للقارىء كيف حاولت المؤسسة الاشكنازية الحاكمة أن تهمش ثقافة الشرقيين العرب، لكنها في الوقت نفسه طالبت بعضهم ممن عملوا في المخابرات أن يواصلوا حياتهم كعرب .

 

يعيدنا الكاتب، مثلا، إلى فضيحة الجاسوس الاسرائيلي إيلي كوهين , والذي عرف بكمال أمين ثابت وأعدمته سوريا شنقا في احدى ساحات دمشق , ويسأل لماذا لم يخطر على بال الدولة التي أرسلته للتجسس أن تخرج للدفاع عنه وتعمل على إطلاق سراحه ؟ لماذا إيلي كوهين بالذات ؟ ويضيف أن أحدا لم يهتم بحقيقة أن تجنيد إيلي كوهين للموساد يعود لكونه "شرقيا" .

 

وفي الماضي تم التعتيم على كل من حاول إثارة النقاش العلني في هذا الاتجاه بحجة ان ذلك محاولة تفتعل "الفتنة" , فالمزاوجة بين "الشرقية" أو "الشرقوية" والسياسة أبعدت عن التداول ونقاش الجمهور العلني، كونها خطرة ولعبا بالنار، من وجهة نظر المؤسسة .

 

 

فضيحة ايلي كوهين وحرب حزيران 1967، وهي الحرب الاولى التي شارك فيها "الشرقيون" بشكل فعلي وملموس ، والإشتراك في الحرب وكون ايلي كوهين يهوديا عربيا أو "شرقيا"- كل ذلك منح "الشرقيين" فرصة للتفاؤل في الشراكة في عالم "الاسرائيلية" .

 

يقول شنهاف إن جدته كانت متدينة لكن ثقافتها ولغتها عربية , لم تقتنع أنها غير عربية ولم تنكر ثقافتها حتى مماتها . ويحكي أنه في صغره أبدع أساليب شتى لمحاربة الثقافة العربية المعادية ويحكي كيف أسكت صوت الراديو ومنع عائلته من سماع أصوات أم كلثوم وفريد الاطرش وعبد الوهاب.

 

لم تكن هذه التصرفات بطاقة دخول رابحة وناجحة الى "الاسرائيلية " , "فالتنكر أو التفنيد هو مصطلح مهم جدا في علم النفس التحليلي وله واقعه الاجتماعي , وفي اللحظة التي يتضح أن عملية التنكر التي استوعبها الفرد في صغره كمعاناة شخصية ما هي إلا ظاهرة جماعية وإجتماعية يتبين عندئذ ان هذا التنكر الشخصي قد تراكم عند الكثير من أبناء جيلي ليصبح تنكرًا وإنكارًا جماعيًا للاصول"، يؤكد شنهاف.

 

يستند الباحث الى نظرية "الرأسمال الاداري" وتطور اللغة الادارية ونشوء " فئة المدراء" منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا ويبين كيفية نشوء هذه الفئة التي تريد ان تتطور رغم محاولتها التوسط بين العمال المنتجين واصحاب الرأسمال المشغلين . ويتحدث عن الوعي والقوة وعدم التسييس والانكار. هذه هي مصطلحاته العلمية في هذا الكتاب التي يخصص لها اربعة فصول للقاء النظري بين "الشرقوية" والقومية بأربعة إرتباطات خاصة: نقطة الصفر أو البداية (الارتباط الاستعماري) , الارتباط الديني والارتباط الاقتصادي وإرتباط الذاكرة، بمعنى انقسام الخيال القومي والهوية الشرقية .

 

ينتقل الكاتب الى فصوله وارتباطات اللقاء بين الشرقوية والقومية بأسلوب آخر في الكتابة، من البيوغرافيا الذاتية الى التاريخ الجماعي ومن التحليل الفردي الى التحليل الثقافي. ولا ينشغل الكاتب كثيرا بالجواسيس وأسرة المخابرات ولا في والده وجدته ولا بايلي كوهين، لكنه ينشغل بالمحظورات Taboo والتنكر في مساحات تلتقي فيها "الشرقوية" و"الاسرائيلية" , هذه المساحات موجودة في الجيش والجامعات والسياسة وكتب السياسة والكنيس وحدود الدولة التي يحرسها"الشرقيون".

 

يتجاوز شنهاف مبنى المعرفة القائم في المجتمع الاسرائيلي من خلال طرق باب النقاش الداخلي الطائفي والقومي معا , فالمتعارف عليه في اسرائيل الصهيونية منذ نشأتها حتى اليوم أن النقاش الطائفي هو نقاش داخلي بين السفارديم والاشكناز والنقاش القومي هو نقاش بين كل المجموعة حول القضايا الجامعة لمواجهة "غير اليهود" . فالفصل بين الطائفية والقومية كفئتين منفردتين كان متعمدا. ومنذ البداية تشكلت الصهيونية كنظرية ذات شرعية سياسية شريطة ان لا تجتاز حدود الإثنية حدود السياسة . فالمؤرخ الاسرائيلي بيني موريس، الذي كتب عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في العام 1991 ، لم يتطرق لعلاقة الصهيونية مع اليهود العرب الذين هاجروا الى اسرائيل برغم العلاقة الوطيدة , وهكذا فعل رجال الانثربولوجيا والتاريخ في اسرائيل عندما حققوا في تراث يهود الشرق وهجرتهم الى اسرائيل، فقد تعمدوا ان يعالجوا الهجرة كقضايا إثنية منفردة , هجرة أبناء اليمن مثلا أو هجرة أبناء العراق .

 

تستند الهستوريوغرافيا الاسرائيلية على جهاز توزيع ثقافي يجعل أشكال النقاش الطائفي والقومي تسير في قنوات مختلفة وذلك لعدم تسييس موضوعة "اليهود العرب" , ولتعريفها بأنها "طائفية"، بمعنى أنها موضوعة إثنية أو مشكلة داخلية .

 

 

تنظر الهستوريوغرافيا للهوية "الشرقية" من خلال رؤيتين: الاولى التي تتطرق لعقلية وثقافة الشرقيين ويغيب عنها واقعهم المعاش بمعنى التغييب المتعمد للسياسة , أما الرؤية الثانية فهي التي تتعامل مع الشرقيين وفق موقعهم في "سوق العمل " بمعنى وضعيتهم الطبقية والاجتماعية مع غياب تام للتاريخ العربي لليهود العرب .

 

وعندما تحاول الهستوريوغرافيا الاسرائيلية أن تجمع بين الرؤيتين يصبح النقاش حول الهوية "الشرقية" المصطنعة شائكا . فالرؤيتان تتعاملان مع "الشرقوية" كهوية نقيضة للاشكنازية، وبهذا تضيع الفرصة على الرؤيتين للتعامل مع "الشرقوية" كمساحة ذات هوامش واسعة .

 

اذا , يقدم الكاتب نقدا مقبولا لنظرة الهستوريوغرافيا الاسرائيلية إلى "الشرقوية" في اسرائيل ويخوض تحليلا تاريخيا يعود جذوره للماضي ويربطه بالحاضر عن رواية الاحتجاج الشرقي داخل المجتمع الاسرائيلي بدءا بأحداث وادي الصليب في العام 1959 , مرورا بحركة "الفهود السود" في السبعينيات , وانقلاب 1977 ( صعود مناحيم بيغن لسدة الحكم وسقوط حركة العمل التي حكمت اسرائيل منذ تأسيسها ) , انتهاء بقيام حركة "شاس" التي تزعمها ارييه درعي .

 

يهتم يهودا شنهاف كثيرًا بالتسميات والمصطلحات، انه يكتب بلغة غير عادية للقراء الاسرائيليين، وهو يحرص على أن يسّمي الشرقيين اليهود باليهود العرب أو الشرقيين أو يهود الشرق ويمتنع عن استعمال التسمية الرسمية (الطائفة الشرقية) , خاصة وأن المرحلة الاولى من سياسات الهوية هي قبول التعريف . انه، تبعًا لذلك، كتاب عن صناعة الهويات "الشرقية " في اسرائيل .

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات