وقائع عملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته"!/ أنطوان شلحت
الكتاب: "اليهود العرب - قومية ، دين وإثنية"
إصدار : "عام عوفيد" (تل أبيب)، 2003
عدد الصفحات :300
المؤلف : يهودا شنهاف (عالم إجتماع إسرائيلي)
الفصل الأخير من كتاب يهودا شنهاف "اليهود العرب- قومية، دين وإثنية"، والذي جاء حاملا لعنوان "الذاكرة: انقسام الخيال القومي والهوية الشرقية"، يعتبر من أهم الفصول. وفيه يقدم المؤلف ما يسميه ب"وجهة نظر شرقية" (أو "شرقوية"، كما أسلفت الإشارة) حول المجتمع الاسرائيلي وتاريخه المخصوص من خلال تفكيكه لعملية بناء الذاكرة أو تشييدها. ويستعين لمهمته هذه بمقولة للمفكر "وولتر بنيامين"، يثبتها كبادئة لهذا الفصل، من مداخلة تعريفه لمصطلح التاريخ، حيث جاء فيها (بترجمة خاصة عن العبرية): "أن تصيغ التاريخ كما لو أنه ذلك الذي انقضى لا يعني أن تقرّ به حسبما كان حقاً. يعني ذلك أن تكتنز ذاكرة وفقما لمعت في لحظة يتهددها الخطر".
ولغرض تقديم "وجهة النظر" المذكورة في الإطار الذي حدّده لهذا الغرض يشير شنهاف الى أنه اختار التركيز على نشاط ومنظور عمل "المنظمة العالمية لليهود المولودين في الأقطار العربية" (WOJAC)، نظرا لأن هذه المنظمة ولدت "من أجل أن تموضع الذاكرة الشرقوية في خارطة الذاكرة الجماعية الصهيونية، وليس من أجل أن تضع تلك الذاكرة (الأولى) أمام التحديات أو أن تتميز عن الذاكرة الثانية"، كما يكتب.
ويمهد لغوصه على عمل هذه المنظمة بمداخلة نظرية حول الذاكرة وعملية تشييدها، التي يقول بأنها ليست ملازمة للمجتمعات الحديثة فحسب ولكنها شهدت تجليات في العصور القديمة أيضاً. ويرى المؤلف أن الاشتغال على مسائل تشييد الذاكرة الجماعية تعرّض لمنعطف يصفه بأنه "دراماتيكي" في السبعينيات، ترتبًا على فاعلية الحركة الما بعد كولونيالية التي تطورت آنذاك في العالم الثالث.
فقد رأت هذه الحركة في الهستوريوغرافيا والذاكرة الجماعية مصدرًا لشرعنة الهيمنة الثقافية والتعريف الذاتي، وبدأت تصيغ من جديد حكايات تاريخية معيارية باسم الفئات المقموعة، المهمشة. وفي موازاة هذه الحركة تطور (في الأقطار الغربية) الفكر الما بعد حداثي الذي نفى امكانية وجود حكاية تاريخية متصلة واحدة وكفر بالحقيقة التاريخية الواحدة المطلقة وطالب بصياغة علاقة أكثر تركيبًا وإشكالية بين الذاكرة والتاريخ.
لكن، كيف يرتبط كل هذا مع موضوع اليهود العرب، محور كتاب شنهاف؟.
جوابًا على هذا السؤال يؤكد المؤلف ما أصبح معروفا للكثيرين غيره، من الباحثين والقراء، أن الحركة الصهيونية منذ بدايتها بلورت الذاكرة الجماعية ل "الأمة" (اليهودية) وذلك في سبيل "ترسيم حدودها وتعيين أعضائها". ولذا فقد أنتجت وأشاعت تصاوير عن الماضي تصف مصادر تلك الأمة وسيرورات تطورها على مرّ التاريخ. وقد جعلت الأيديولوجيا الصهيونية التاريخ اليهودي متحاذيًا على أساس العلاقة مع الأرض وطورت ما يسمى ب "الوعي الاقليمي"، والذي بواسطته قسمت الماضي الى فترتين رئيسيتين: الأولى- العصر القديم، وهو الزمن الذي استوطن فيه الشعب اليهودي في أرض اسرائيل قبل خراب الهيكل. والثانية- فترة الشتات، التي انقطعت خلالها الصلة مع البلاد.
وبينما كانت الفترة الأولى ترمز، في قراءة الصهيونية، الى مرحلة السيادة (وبالأخص فترة ملكوت دافيد وشلومو)، وهي مرحلة إيجابية كليًا يتعين تذكرها بحنين جارف في سبيل العودة اليها، ضمن أشياء أخرى، فان الفترة الثانية تعرضت للنفي (ما اصطلح على تسميته ب"نفي المنفى/ الشتات") وكان الهدف من ذلك دفع تلك الفترة الى صيرورة مطلقة من النسيان في أذهان اليهود كافة (إنما أساسًا دفعها إلى ذلك في أذهان اليهود الأوروبيين).
الى ذلك يضيف شنهاف أن اللقاء بين الصهيونية وبين اليهود العرب تميز منذ بدايته ( أو منذ نقطة الصفر، إذا ما استقرضنا اصطلاحاته) بتداخل المنطقين القومي والكولونيالي فيه. ومن أجل شمل اليهود العرب في "المشروع القومي" ( على المقاس الصهيوني الحصري) كان على هؤلاء المرور في سيرورة إلغاء لعروبتهم أو حسب تسمية المؤلف كان عليهم التعرّض لعملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته".
صحيح أن هذا الالغاء أو التطهير جرى تبريره، من طرف الصهاينة أنفسهم، بأحاديث عن العصرنة والتقدم (بالنسبة لهؤلاء اليهود)، لكن الذي هدّد القومية الصهيونية لم يكن "تخلف" أو "تقاليد" اليهود العرب وانما عروبتهم المشدّد عليها من قبلهم هم أنفسهم، يقول شنهاف. الماضي العربي ليهود الشرق هدد بأن يمسّ وحدة صف الأمة الاسرائيلية المتجانسة ظاهريًا وأن يموّه الخط الفاصل الضروري (سياسيًا) بين اليهود والعرب. وفي هذا الشأن ردّد بن غوريون (دافيد) المقولة التالية: "نحن لا نريد بأن يكون الاسرائيليون عربًا. يتوجب علينا أن نكافح روح المشرق الذي يخرب أفراذًا ومجتمعات".
لكن بالعودة الى منظمة "ووجاك" (المنظمة العالمية لليهود المولودين في الأقطار العربية)، التي سبق ذكرها، ينبغي الاشارة الى ما يلي:
· تأسست هذه المنظمة في سنة 1975 وظلت ناشطة حتى 1999. وقد بادر الى تأسيسها "الزعيم" اليهودي العراقي مردخاي بن بورات، وهو عضو كنيست ووزير اسرائيلي سابق من حزب "مباي" ولاحقًا من حزب "رافي"، سوية مع "شخصيات جماهيرية" من "وزنه" من يهود المغرب وتونس وسوريا والعراق. وقد ترأس بن بورات هذه المنظمة الى جانب المليونير اليهودي العراقي ليئون تمان من لندن.
· حصلت المنظمة على دعم مباشر، مادي ومعنوي، من وزارة الخارجية الاسرائيلية ومن الوكالة اليهودية. وكانت تستدعي، بين الفينة والأخرى، العديد من السياسيين والباحثين الأكاديميين ذوي الأصول العربية لحضور جلسات هيئتها الإدارية والإسهام في رسم وبلورة سياستها.
· أقامت المنظمة، خلال سنوات نشاطها، فروعا لها في نيويورك ولندن وروما وزيوريخ، كما عقدت مؤتمرات دولية في باريس (1975) ولندن (1982) وواشنطن (1987). وعقدت أربعة مؤتمرات في اسرائيل.
· توقف عمل المنظمة في 1999، كما ذكرنا، بسبب توقف أموال الدعم من طرف وزارة الخارجية الاسرائيلية والوكالة اليهودية، وهذه كانت الحجة المعلنة لكن شنهاف يلمح الى أن ايقاف عمل المنظمة جاء بعد أن استنفدت "الدور المرسوم لها".
· يؤكد شنهاف أن منظمة "ووجاك" تمتعت بقدر عال من الوعي لمسألة التوثيق. وفي إطار ذلك فقد تم تسجيل كل المؤتمرات التي عقدتها ومن ثم تم إصدار وقائعها في كتب. كما تم تلخيص لقاءات الهيئة الادارية كتابيًا. وأصدرت المنظمة مئات الوثائق المتعلقة بنشاطها، من رسائل وكراريس وكتب ومقالات. وتم كل ذلك باللغة العبرية طبعًا، لكن كانت هناك نصوص كثيرة باللغتين الانجليزية والفرنسية ايضًا. وقد احتفظ بجميع هذه المواد في مكاتب المنظمة في تل أبيب. ولكن في بداية 1998 بدأ العمل في نقلها الى الأرشيف الصهيوني المركزي. وقد اطلع المؤلف على جميع هذه المواد في الأرشيف الصهيوني، بدءًا من اذار/ مارس 1998، ويبدو أنه كان أول باحث يطلع على الأرشيف لغرض البحث، ومن هنا أهمية خلاصاته بالنسبة لتأثير هذه المنظمة.
في تقطيره لعمل هذه المنظمة، على المستوى السياسي العام الذي يرتبط بكيفية ما مع كينونة اسرائيل الراهنة كما يرتبط مع صراعها ضد العالم العربي وضد الفلسطينيين على وجه الخصوص، يشير شنهاف الى أن إنجاز "ووجاك" الأبرز خلال سنوات عملها المذكورة يتمثل في أنها "صاغت ثلاث نظريات سياسية كبيرة" (من حيث كونها عظيمة الأهمية بالنسبة لاسرائيل وأيديولوجيتها الصهيونية):
النظرية الأولى ادعت بأقدمية الكيان اليهودي، قوميةً ودينًا، في الشرق الأوسط.
النظرية الثانية أكدت أن تبادلا سكانيا بين لاجئين عرب ولاجئين يهود في الشرق الأوسط قد حصل فعلا.
النظرية الثالثة أقرّت بأنه في أعقاب تبادل السكان المذكور يمكن الادعاء، في الوقت الراهن، بشأن الموازنة (أو التعويض) في الأملاك بين اللاجئين العرب واليهود.
عن هذه النظريات الثلاث يكتب شنهاف قائلا: "هذه النظريات، التي تمت صياغتها في أواسط السبعينيات، أخذت مفعولا مضاعفا في أعقاب اتفاق السلام مع مصر وبدء النقاش حول اللاجئين الفلسطينيين . فعلى أساسها، وهذا ما اعتقده أعضاء ادارة المنظمة، في مقدرة دولة اسرائيل أن تدعي الحقوق الشرعية لليهود في أرض اسرائيل (أقدمية الكيان اليهودي) وأن ترفض المطلب الفلسطيني بحق العودة (تبادل السكان تمّ حقًا) وكذلك أن ترفض المطلب بالتعويض عن الأملاك الفلسطينية التي صادرها القيم العام لدولة اسرائيل (موازنة الأملاك)". وعلى هذا الأساس فان عضو ادارة المنظمة، د. جاك برانس، وازى بين تأسيس منظمته وبين نشاط منظمة التحرير الفلسطينية، بقوله: "نحن الجواب الوحيد (في اسرائيل) على م.ت.ف، على حق العودة.. من أجل ذلك نحن موجودون".
غير أن نشاط "ووجاك" تركز، بصورة رئيسة، في تخيّل الماضي وفي محاولة استعمال هذا الماضي المتخيّل من أجل احلال القومية اليهودية في الشرق الأوسط وبلورتها. ولذا كان من الطبيعي أن تعمل المنظمة في ميدان تشييد الذاكرة، أولا وقبل أي شيء.
ومع أن شنهاف يرى الى خطورة ما ترتب ويترتب الآن على النظريات الثلاث المذكورة، في الشأن السياسي العام، فانه يؤكد أن تلك النظريات انطوت في الوقت ذاته على دلالات مضادة بالنسبة لمشروع بناء الذاكرة وسياسة الهويات. ويوضح هذه الدلالات المضادة على الوجه التالي:
1. نظرية أقدمية الكيان اليهودي، قومية ودينًا، في الشرق الأوسط كان لا بدّ أن تنطوي على مركب هام هو "رابطة يهود الدول العربية مع أرض اسرائيل". وتنسحب هذه الرابطة أيضًا على الفترة التي تدعي الصهيونية بانقطاع الصلة فيها بين الشتات وبين البلاد، ما يعني أن هذه النظرية تقسّم، في المحصلة، وربما دون قصد مسبق منها، الوحدة الاثنو- قومية اليهودية حسبما تروّج لها الصهيونية، ناهيك عن أنها تعرض ماضيا لليهود العرب مختلفًا عن ماضي اليهود الأوروبيين. وفي رأي شنهاف فان هذه النظرية تجعل اليهود العرب مختلفين مع الأيديولوجيا الصهيونية في ثلاثة مواضيع أساسية هي: النظرة إلى الاقليم والموقف من التاريخ ومن الهوية.
2. نظرية تبادل السكان في الشرق الأوسط تم اللجوء اليها، من طرف "ووجاك"، أساسًا، من أجل تقويض ادعاء حق العودة من طرف الحركة الوطنية الفلسطينية. وإن تبنّي هذه النظرية استوجب من "ووجاك"، برأي المؤلف، أن تصيغ موقفا في مسألتين تاريخيتين شديدتي التعقيد: الأولى- مسألة ماهية العلاقات بين اليهود والمسلمين في الدول العربية على مرّ التاريخ طبعًا، والثانية- مسألة تعريف مكانة اليهود في الدول العربية، في إطار طرح التساؤلين التاليين:هل هم لاجئون- مطرودون؟ أم أنهم صهاينة أصحاب وعي كافحوا من أجل الهجرة الى أرض اسرائيل؟.
ومع أن المسألتين تتداخلان، مبنى ومعنى، إلا أنه ثمة أهمية خاصة للمسألة الثانية، حيث أن تعريف هؤلاء اليهود العرب بأنهم لاجئون- مطرودون، يتناقض مباشرة مع نظرية أقدمية الكيان اليهودي، التي سبق ذكرها، إذ أن هذه الأخيرة تستدعي أن تشرح بإسهاب كيف عاش اليهود بهدوء تحت حماية الاسلام والعرب طوال الاف السنوات، في حين أن التمسك بنظرية اليهود اللاجئين يؤكد هشاشة وجودهم في الدول العربية. فضلا من ذلك فان نظرية اللاجئين تتناقض مع كون هجرة هؤلاء الى أرض اسرائيل تحمل دوافع صهيونية أيديولوجية. ويشير شنهاف الى أن بن بورات حاول أن يجسر على جميع هذه التناقضات بقوله: لكل يهودي ثمة توق للقدوم الى اسرائيل، وهو يقول ذلك في كل مكان، حتى في الاتحاد السوفييتي. تحت أي ضغط يقول اليهودي: السنة القادمة في القدس. غير أن الملاحقات في الدول العربية زادت هذا التوق، الى درجة انهم لم يمنحوه، لليهودي، امكانية البقاء في بلاده.
3. أما بالنسبة لنظرية "موازنة الأملاك" فان شنهاف يعتقد بأن التحدي الأكبر لها جاء من طرف أعضاء غير اسرائيليين في "ووجاك". وبين هؤلاء يشير إلى ثلاثة بارزين أكدوا أن ليس لاسرائيل الحق في استعمال الأملاك اليهودية في الدول العربية لأغراضها السياسية من خلال طمس الحقيقة أن جزءًا من أصحاب هذه الأملاك ليسوا مواطنين في اسرائيل.
نجد إذا أن شنهاف لجأ إلى الفكر الما بعد حداثي لكي يقوّض رواية الهستوريوغرافيا الصهيونية الرسمية من خلال قصة اليهود العرب، ولكي يكفر بالحقيقة التاريخية المطلقة حول الأمة اليهودية والذي يعتبر هو نفسه من أبرز المستأنفين عليها، كما يوضح هو نفسه في سياق آخر. غير أن شنهاف لم يقدم روايته التي تتناقض مع الرواية الرسمية ومع تفريعاتها وتخريجاتها المختلفة في المواضيع التي يتطرق إليها في فصول الكتاب كافتها فحسب، بل إنه أيضًا حاول أن يتلمس الثغرات التي لم تنجح الرواية الرسمية في أن تسدّها بالكامل. جديده في هذا الكتاب، وهو ليس الأول الذي يحاول أن يخوض في سؤال الهوية الاسرائيلية من زاوية "سياسات الهوية" وارتباطها تحديدًا باليهود العرب أو الشرقيين، فقد سبقه إلى هذا الموضوع باحثون آخرون بعضهم اتكأ أيضًا على أفكار ما بعد الكولونيالية، ربما يكمن في أنه يبذل جهدًا مركّزًا لتبيان كيف "انقلب مفعول السحر على الساحر"، إذا جاز التعبير. بكلمات أخرى: كيف أدت المحاولات المختلفة، الصهيونية القالب والمحتوى، الرامية إلى بناء هوية إسرائيلية لليهود العرب من خلال قمع هويتهم العربية، إلى التمسك أكثر فأكثر بهذه الهوية وإلى تحديد مسألة التمييز الطائفي في إسرائيل، التي تحيل بدورها على بذور التناقض في الصهيونية، فكرًا وممارسة.
أما من ناحية الوثائق التاريخية فإن كتاب شنهاف هذا يقدم لنا، للمرة الأولى، بحثًا معمقًا حول عمل ونشاط منظمة "WOJAC" التي أدت دورًا شديد الخصوصية في بناء "الأساطير المؤسسة لاسرائيل"، خاصة تلك التي ما زالت تتفاعل إلى الآن ارتباطًا بالنزاع الاسرائيلي- الفلسطيني. ولو كان إسهام الكتاب منحصرًا في هذا الجانب فقط لكفاه ذلك من أجل اعتباره وثيقة إجتماعية تاريخية هامة حول الكيان الاسرائيلي الصهيوني، الذي كلما غاص البحث في ماضيه تكشفت أمامه المزيد من "الحقائق السوداء" الملازمة لنشوئه.