صدر حديثًا عن منشورات "مدار" العدد رقم 19 من سلسلة "أوراق إسرائيلية" بعنوان ( مداخلات يمينية، في نقد الإنتقاديين وعن "فوبيا" العرب). ويضم ثلاث مداخلات في المحورين السالفين: الأولى بقلم البروفيسور يوءاف غلبر " نحو تغيير وجه المجتمع الاسرائيلي" والثانية بقلم أليك إفشتاين " أفول علم الاجتماع الاسرائيلي" والثالثة بقلم البروفيسور دان شيفتن "الهوية الجديدة لأعضاء الكنيست العرب". وقد ترجمها عن العبرية سعيد عياش.
وكتب أنطوان شلحت مقدمة للمداخلات الثلاث بعنوان "إستحضار الأساطير المؤسسة"، جاء فيها:
تشكل المداخلات اليمينية الثلاث في هذا العدد من "أوراق إسرائيلية" تمثيلاً لمساهمات لا تنفك تتواتر في هذا المضمار, وقد إنبجست مثل السيل العرمرم بالتآين مع إندلاع إنتفاضة القدس والأفصى في سبتمبر (أيلول) 2000, حيث شعر أصحاب هذه المداخلات في ظل ما حدث بأن الفرصة قد واتتهم مجدّداً ل "ردّ الإعتبار" الى بعض المسلّمات الصهيونية الصنميّة. والمقصود, تحديداً, تلك المسلّمات, التي كان يفترض بـ "عملية السلام" الاسرائيلية- الفلسطينية, من باب الاحتمالية, أن تفضي الى أفولها.
ومع أن المنطوق الرئيسي لمداخلتي يوءاف غلبر وأليك أفشتاين يتراءى بكونه "سجالاً" مع مجموعة الأفكار والمفاهيم التي طرحها التيار الإنتقادي في الجامعات ومعاهد البحث الاسرائيلية المختلفة, والمتمثل تخصيصاً في جماعتي "المؤرخين الجدد" و"علماء الاجتماع الإنتقاديين", فإن جوهرهما الحقيقي هو الهجوم المنفلت العقال على طربق التسوية السياسية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي, من خلال إظهار أن الطرف الفلسطيني بمفرده, وعلى نحو عامد, يتحمل أوزار إخفاق هذا الطريق حتى بلوغه الى منتهاه, الذي يعتبر كلاهما أن الإنتفاضة دالة بليغة عليه.
أما مداخلة دان شيفتن فإنها تندرج في عداد "الإجتهادات" الأكاديمية المنكبّة على بحث "مظاهر التطرف القومي" لدى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل ولدى قياداتهم المنتخبة. وهي, والحقّ يقال, "إجتهادات" من الصعب حصرها في الآونة الأخيرة, غير أنها تتوازى مع مثيل مداخلتي "غلبر" وأفشتاين" وتتغيَّا, في العمق, الهدف السالف نفسه- نيل مأرب من "عملية السلام" بين الشعبين.
ويظل من المثير ملاحظة أنه بينما كان التعاطي مع مختلف تيارات نقد الصهيونية يتم في السابق على طريقة "القتل بالإهمال", فان التعاطي الراهن, وفقما تعكس ذلك المداخلات الثلاث, يستثمر أسلوباً تحايلياً يحاول تضخيم التأثيرات التقويضية المترتبة على أداء تلك التيارات, لا لأن تلك التأثيرات قد نفذت فعلاً إلى الواقع الإسرائيلي, وإنما أساساً في سبيل تزيين طريق التمسك بمفاهيم قديمة عفا عليها الزمان وبات يعتريها الصدأ.
في هذا الإطار يبدو "غلبر" مستأنفاً صارماً على إتجاه الخصخصة, الذي يشقّ عصا الطاعة على ما يعرف باسم "الروح الصهيونية" في "الأمن القومي الاسرائيلي". وهو الإتجاه الذي يضع توجهات الأفراد في تضاد تام مع توجه (أو إتجاه) الجماعة. وفي حالة "الأمن القومي الاسرائيلي" فإن "الأمن الفردي" لا بدّ أن يكون, في قراءته, على حساب "الأمن القومي الجماعي" الذي "يعتبر حيوياً لإحباط التهديدات الحقيقية التي تشكل خطراً على وجود الأمة الاسرائيلية في حدّ ذاته وعلى مصالح الأمة وسيادتها". ويمضي على هذا المنوال ليصل إلى إستئناف أشدّ وأدهى يتواجه مع خصخصة "الضحية وثكل الابناء" التي يرى أنها تحولت "الى مصدر وحافز للتوتر السياسي والاجتماعي" على خلفية بعض النشاطات السياسية التي شاركت وتشارك فيها أمهات إسرائيليات.
وبدهي أن تنجم عن إستئنافات كهذه دلالات داخلية تؤثر على الموقف العام من نظام الحكم. وفي نموذج "غلبر" فإنّ مثل هذا الأمر يسفر عن تبني موقف مناهض لـ "سلطة القانون" بمسوّغ أنها حلّت مكان "السلطة بواسطة القانون", وهو ما ينبغي أن يكون في رأيه. ولا تتوقف المسألة عند هذا الحدّ, بل إن "غلبر" لا يضنُّ بسهام هجومه على الجهاز القضائي الإسرائيلي معتبراً أن لهذا الجهاز "سلطة زائدة" أو "صلاحيات مفرطة" (كذا!). وهو يؤكد أنه "مع كل الاحترام والتقدير للقانون والساهرين عليه, ولدورهم الحيوي الجليل في أي مجتمع متنوّر, فإن هؤلاء ليسوا مخولين وليس باستطاعتهم تقديم إجابات أو حلول ملائمة لكل المسائل المختلف عليها". ويصل الى بيت القصيد بقوله إن "المشكلات الدينية والأيديولوجية والتاريخية والعسكرية التنفيذية والطبية وحتى السياسية ليس لها ولا يمكن وليس بالضرورة أن يكون لها جواب أو حل قضائي".
في واقع الأمر لا يواري "غلبر" أن دافعه لدحض "الأساطير الجديدة", التي يقول إنها أساطير السلام والدمقراطية وسلطة القانون والنجاح, هو إعادة الألق للأساطير القديمة, بكلمات أخرى الأساطير المؤسسة لاسرائيل, والتي كان من تحصيلاتها مسلّمة تقول إن جعل السلام قيمة عليا إنما يعرض الدمقراطية والدولة الدمقراطية للخطر, لأن "العالم الذي تريد إسرائيل الإنتماء إليه لم يصل الى وضعه الراهن عن طريق السجود لآلهة السلام"!. وبوضعنا هذه الأقوال في سياقها الاسرائيلي فإن الاستنتاج المطلوب هو أن التغيير في وجه المجتمع الاسرائيلي, الذي ينحو نحوه, والذي جعله عنواناً عريضاً لمداخلته, هو التغيير الذي يفضي الى الإنكفاء عن طريق "عملية السلام", كما لو أن هذا المجتمع قطع شوطاً بعيداً في هذا الطريق.
غير بعيد عما يقوله "غلبر", نطالع في مداخلة "أفشتاين" لائحة إتهام قاسية بحق التيارات النقدية في علم الاجتماع الاسرائيلي, التي لم تبدأ بتيار "علماء الإجتماع الإنتقاديين", كما هو معروف. ولعل أكثر ما يبهظ الكاتب هو ما يطلق عليه وضع النقد "في خدمة أيديولوجيا راديكالية", ما يحوله "بالتأكيد الى أداة سلبية". مع ذلك فإن هذا البهظان لا يردعه عن الدعوة شبه الصريحة الى وضع علم الإجتماع الاسرائيلي برمته في خدمة الأيديولوجيا الصهيونية. وهو يقنّع دعوته بالإشارة الى جملة من الامكانيات البحثية المتاحة لعلماء الإجتماع الاسرائيليين, مستعرضاً "قائمة طويلة" من المواضيع والقضايا "الجديرة بالبحث من وجهة نظر سوسيولوجية". ولدى قراءة تلك القائمة وربطها بسائر أجزاء المداخلة يتبين, بسهولة ويسر, أن "أفشتاين" يزجر علماء الاجتماع الإسرائيليين عن تناول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من وجهة نظر سوسيولوجية لا تدور في فلك "الإجماع القومي الصهيوني".
بانتقالنا الى مداخلة دان شيفتن نصادف نموذجاً من المقالات البحثية الإسرائيلية التي تعتبر المواطن العربي داخل إسرائيل, في إطلاقية تامة, "متهماً" بانتمائه الفلسطيني حتى يثبت براءته منه, وذلك من خلال تتبع أداء ومواقف أعضاء الكنيست العرب إزاء موضوعي المواطنة والهوية القومية.
ومن غير الصعب ملاحظة أن ما يثير كرب "شيفتن" هو الإعتراض على مبدأ كون إسرائيل "دولة يهودية", دون أن يرى فيه عائقاً أمام "معالجة مسألة المساواة المدنية بصورة ملائمة". إن العائق أمام ذلك, في قراءته, أن "المسألة القومية تحتل الصدارة, والزعامة الوطنية العربية والجمهور الذي إنتخبها يتبنيان مطالب قومية راديكالية لا تستطيع الأغلبية اليهودية الإستجابة لها".
"معطيات الساحة الداخلية في إسرائيل وعلاقات هذه الأخيرة مع العالم العربي المحيط بها لا يبعثان على الأمل بقرب التوصل الى تسوية"- هذه هي الخلاصة التي يتوصل إليها "شيفتن", ملوّحاً بها في وجه المواطنين العرب أكثر مما في وجه المؤسسة الإسرائيلية, التي تجد في مثل هذه المداخلات مزيداً من القرائن الدالة على "ردكلة" الفلسطينيين في إسرائيل, تسعف جهودها المنصرفة الى الحفاظ على "الطابع اليهودي" للدولة من خلال تصعيد الهوس الدمغرافي و"فوبيا" العرب الى حافة الأيديولوجيا.
*****
ما تقوله هذه المداخلات, مجتمعة وكلا على حدة, قد لا يبدو جديداً كل الجدة للذي يتعقّب, بأناة ودأب, مستجدات الواقع الإسرائيلي. الجديد فيها يكمن ربما في توقيتها وأيضاً في محاولتها المستميتة أن تجيّش الوقائع الراهنة من أجل جعل أفكارها القديمة - المتجددة تتقدم الى الصدارة, من مأزقها الذي دفعتها إليه طريق التسوية السياسية.
وإذ نقدمها الى القارئ العربي فلكي نعّرضه الى جانب من المحاور التي يتمفصل عليها الآن السجال في إسرائيل بين النخب الأكاديمية. وهو سجال يندّ بدوره عن العوامل الباطنية التي تسهم, بقدر ما, في تحديد الأجندة الإسرائيلية العامة حيال مسائل هامة ترتبط بالصراع واحتمالاته القادمة. وقد آثرنا أن نطلق عليها توصيف "مداخلات يمينية" على رغم أن الإصطفاف بين اليمين واليسار في إسرائيل يكاد أن يكون إصطفافًا حصريًا, في صلبه أن بعض أطياف هذا اليسار يفارق الجوهر الحقيقي لليسار خارج تخوم الممارسة الإسرائيلية.