المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 1377

أتاريخ آخر لفلسطين؟ أليس هناك ما يكفي من كتب تسرد هذا التاريخ أو تتطرق الى وجه أو آخر من وجوهه المتعددة؟

هناك, من دون شك, كمّ محترم من هذه الكتب, لكن, وعلى ما يُستخلص من هذا الكتاب بالذات, ليس ما يكفي لجهة النوع, خاصة وأن كفاية الكم هذه تدعو الى النظر في ما كُتب, وبمعزل عما إذا كان ثمة متسع لتأريخ جديد لفلسطين الحديثة. والحق أن كتاب المؤرخ الاسرائيلي إيلان بابِّه(*) هذا ليس محض سرد لوقائع الماضي الفلسطيني على مدى قرن ونصف القرن, وإنما أيضاً امتحان نظري للكثير مما كُتب حول هذا الماضي, عربي المصدر كان أم عبرياً, أم غربياً منحازاً الى صف الاسرائيليين أو الفلسطينيين.

 

وتوزّع التاريخ المعني ما بين سردين متناقضين, يدل على أن كلاً من هذين السردين إنما ينطلق من موقع السياسة القومية للشعب الذي ينطق بإسمه أو على الأقل يتقبل فرضياته ويصادق على مسلماته, وهذا ما يترك مجال تاريخ "التابع" مهجوراً - و"التابع", هنا, تبعاً لمدرسة في كتابة التاريخ والتدوين تنتمي الى ما يعرف بحقل "ما بعد الكولونيالية", وقد اشتهرت في الهند على وجه خاص. والمقصود المجتمعات أو الجماعات المهمّشة وغير الممثَّلة, سواء تمثيلاً ذاتياً او بالواسطة. وعلى رغم أنها غالباً ما تكون ضحية الحوادث الكبرى للتاريخ, إلا أنها نادراً ما تُسرد أخبارها, وفي أحسن الأحوال يُصار الى إلحاقها بكيان قومي شامل تتزعمه النخبة البورجوازية الأصول. وإذ يكتب بابِّه تاريخ فلسطين من خلال الجماعات المهمّشة على مدى التاريخ الفلسطيني الاسرائيلي المشترك, فإنه لا يعرض عن الروايتين القوميتين, الاسرائيلية والفلسطينية, وإنما يتجاوز سرد ما يُعرف بـ"المؤرخين الجدد", وهي الطائفة التي يُنسب إليها بإعتباره أحد روّادها الى جانب بني موريس وآفي شلايم وآخرين.

لكن خلافاً للمذكورين, فإن بابِّه لا يكتفي بالإعتماد على المعطيات والوثائق الجديدة بما يتيح له اعادة كتابة التاريخ الفلسطيني على نحو يناقض الرواية الرسمية الاسرائيلية, وإنما الى ذلك يقدم منهجيّة تأريخ تخالف أساساً مقومات كتابة التاريخ الوضعيّة برمتها, وتحديداً من حيث تشديدها على دور المعطيات والوثائق, طالما أن هذه إنما تصدر عن المؤسسة السياسية نفسها أوالنخبة القومية. فمنهجية "تأريخ التابع" التي يتوسلها بابِّه, وبما هي محاولة لدفع الجماعات المقهورة والمهمّشة الى واجهة السرد بإعتبارها "بطلة", حتى وإن بطلة ضحية, يُملي عدم الوقوف عند الوثائق والمعطيات وأشكال السرد التي تصدر عن المؤسسة أو النخبة القومية من دون نقد أو تفكيك لبنائها.

ومن الواضح أن المؤلف متمكن من هذه المنهجية بالذات, لذلك فإنه, وبمهارة تلقائية, يعمد الى تجنب الوثائق وأشكال السرد المتواضع والتي تحوّل السرد الى سِـيَر شخصيات, زعماء وقادة, أو تجسيد لخلاصة أيديولوجيات قومية, أو لمغامرات عسكرية, الى ما هنالك من عناصر غالباً ما تطغى على سرد التاريخ القومي, إسرائيلياً كان أم فلسطينياً. صحيح أن تاريخ فلسطين هو, على العموم, تاريخ عداوة شعبين وصراعهما على أرض واحدة, وأن مثل هذا التاريخ لا بد وأن يقع في ظل سِـيَر الشخصيات وحوافزها الأيديولوجية, فضلاً عن أخبار الحروب والمعارك, بيد أن المؤلف يبيّن أن تاريخ العداوة هذا ما هو في الحقيقة إلاّ نتيجة السياسة القومية التي اتبعها زعماء الحركة الصهيونية, ولاحقاً إسرائيل, من جهة, والأعيان والوجهاء الذين تولوا قيادة الشعب الفلسطيني حتى وقوع حرب 1948, من جهة أخرى. وإزاء حقيقة كهذه تظهر براعة بابِّه في المنهجية التأريخية التي يتوسل لكي يمتحن, وعلى وجه عمليّ, ما كُتب من تاريخ للماضي الفلسطيني والاسرائيلي المشترك وأمسى المرجعية التاريخية في الميدانين الأكاديمي والعام.

لا يهمل بابِّه الحروب التي وقعت بين العرب واليهود, ولاحقاً بين الدول العربية واسرائيل, غير أنه يدرجها في سياق يبيّن أثرها على الجماعات التي يؤرخ لها إدراجاً لا يصغّرها ولا يصادر دورها وفعلها. فالحرب في السرد الذي يسوقه المؤلف ليست بمثابة تطبيق ناجح, او فاشل, لسياسة عداوة ينتهجها قائد أو مؤسسة أو نخبة قومية, وإنما عنصر مؤثر على وجه خطير, بل مأسوي, في حياة الجماعات الموسومة بالتابع, وتحديداً في التاريخ المعني, الفلاحين وسكان المدن الفلسطينيين. لذا نجده يفرد لحرب عام 1948 عدداً أوفر من الصفحات التي يفردها لأية من الحروب اللاحقة. فهذه الحرب أفضت الى إعادة تشكيل للمجتمع الفلسطيني على صورة جذرية, ومأسوية, لم تحدث في الحروب التي جرت من قبل أو من بعد. ومن خلال إتباع مثل هذه المنهجية يبدو المؤلف كأنه يقاوم سياستين, الأولى سياسة تحويل الجماعات المهمّشة, وغير الممثَّلة, من فلاحين وعمال وفقراء ونساء وأطفال الى محض مكونات صامتة للكيان القومي, المفترض غالباً على صورة تجريدية, والثانية سياسة كتابة التاريخ بما هي مصادقة على الفرضيات والمزاعم القومية التي تحوّل جماعات بأكملها الى محض أشباح وأصداء لصور وأصوات القيادات السياسية وتمثيل لأيديولوجية النخبة.

غنيّ عن القول إن بابِّه وإن قدم تاريخاً مشتركاً لفلسطين, فإنه لا يقصد التوفيق ما بين السردين القوميين لماضي الشعبين. فهو يعلن إنحيازه الى صف الفلسطينيين منذ البداية, وليس من منطلق أخلاقي وسياسي فحسب, وإنما, وكما ينبغي أن يكون واضحاً الآن, من حقيقة أن أغلبية الجماعات المقهورة, المهمّشة وغير الممَثَّلة إنما هي فلسطينية. فالجماعات الاسرائيلية من هذا القبيل تقتصر على اليهود القادمين من الدول العربية, وهم شأنهم شأن الجماعات الفلسطينية, ضحايا المؤسسة الاسرائيلية. ولا يبرر المؤلف انحيازه هذا من خلال الحقائق والمعطيات, أي ما حلّ بقطاعات واسعة من المجتمع الاسرائيلي بفعل الاستيطان الصهيوني, المنظم والمتواصل, وانما من خلال التعقب التاريخي لحياة الفلسطينيين خاصة خلال القرن العشرين. وهنا أيضاً يبرهن بابِّه على براعته كمؤرخ. فهو في تعقبه تاريخ الفلسطينيين على وجه يعكس صورة واقعهم الاجتماعي والاقتصادي, لا يفرط بحقيقة أنهم كيان تاريخي متعدد ومتجانس. فلا يكتفي برصد المجتمع الفلسطيني ككل من خلال إبراز التفاوت الذي عرفه ما بين حقبة وأخرى فقط, وإنما التفاوت الذي شهدته كل جماعة فلسطينية والتمايز بينها وبين جماعة اخرى. وبفضل تعقّب تاريخي كهذا يراعي التفاوت الحاصل على مستوى الزمان والمكان, لا يعود الشعب الفلسطيني محض كيان واحد متصل, كتلة بطولة وصمود أو ركام بؤس يثير الرثاء, وإنما يظهر على حقيقة توزعه وتجانسه, خاصة في الحقبة ما قبل حرب 1948, أو تفتته وتشتته ما بين اسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسورية والأردن, وبما يُظهر كل شطر منه من واقع سياسي واجتماعي مختلف عن غيره وعما كان عليه هو نفسه. على رغم ضيق مجال الكتاب إلاّ أن بابِّه لا يتوانى عن دراسة كل مجتمع على حدة مبيناً, وإن بشكل مقتضب, التفاوت ما بين فئاته وطبقاته المختلفة وما حلّ بها أو طرأ عليها من تحولات اقتصادية وثقافية: مثلاً, المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة ما قبل الاحتلال الاسرائيلي وبعده, أو ما بعد الانتفاضة الأولى وتوقيع اتفاقية أوسلو إلخ...

لقد استخدم بابِّه هذه المنهجية النقدية في كتابة التاريخ وخلص الى تقديم صورة حيوية نادرة للمجتمع الفلسطيني على مدى قرن ونصف القرن بما يدل على أنه مجتمع فعليّ وليس مجرد كيان خرافي لقصائد الشعراء (خاصة الشعراء الفلسطينيين) ولا طوابير من البشر يُصار الى إدراجها على صورة بيانات واحصائيات. وفي هذا كان يتوافق مع السياسة التي ينادي بها: أن تكون فلسطين دولة واحدة للشعبين الفلسطيني والاسرائيلي. ولا شك بأن الجهد الذي يقدمه هنا هو مساهمة خلاّقة في سبيل تفاهم يفضي الى تحقيق مثل هذا الغرض. ولنأمل صدور مساهمات أخرى, ليس من إيلان بابِّه فقط وإنما أيضاً من مؤرخين وكتّاب وسياسيين ونشطاء في حركة السلام, عرباً واسرائيليين معاً.

 

(*) صدر حديثًا عن منشورات جامعة كمبريدج البريطانية ( بالانجليزية)، 334 صفحة.

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات