حين يكون الإنسان مجرّد غبار....
صدر عن "مدار" العدد الجديد من "أوراق إسرائيلية" (15) خصص لموضوع حقوق الانسان في اسرائيل، كما بدا في التقارير الصحفية التي كتبها الصحفي د. يوسف الغازي في صحيفة "هآرتس" في الفترة الأخيرة.
كتب انطون شلحت تقديما للعد جاء فيه ان سلسلة التقارير الصحفية، التي خصص لها هذا العدد من "أوراق إسرائيلية"، تقدم جوانب متوارية من إنتهاكات حقوق الانسان في إسرائيل، يمكن القول إنها جوانب مسكوت عنها أو على الأقل لا تحظى، على نطاق واسع، باهتمام يقارب ذلك الذي تحظى به ما تقترفه إسرائيل من إنتهاكات لحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ 1967.
وتكمن أهمية هذه التقارير، وهي بقلم صحافي متمرسّ ومناضل من أنصار السلام وحقوق الإنسان، في أنها مكتوبة بلغة تشخيص صافية ومعبرة في الآن نفسه. كما أنها متسلسلة بأسلوب يعكس معاناة الضحية في ناحية واحدة، ويعكس في أخرى ما يعتبر عموماً "بروداً" لدى المؤسسة الرسمية أو الناطقين بلسانها، على إختلافهم. وهو "برود" سرعان ما يحيل الى بلادة حسّ وتصامم مفرطين في غلوائهما، الى جهة اعتبار الانسان مجرّد غبار بشري.
يعرض لنا الكاتب، يوسف الغازي، عشرات القصص ذات الدلالة، وهي بالأساس قصص عن الشرائح الإجتماعية الضعيفة والعمال الأجانب وغيرهم من الفئات المهمشة. وبطبيعة الحال ثمة حيز واسع لقصص الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، الذين تقصيهم "الدولة اليهودية" ، لمجرد كونها كذلك، من حقوق المواطنة بعد ان استباحت وطنهم، دون اي إعتبار لكون بعضهم يؤدي الخدمة في الجيش (كما في حالة العرب البدو في منطقة النقب، على سبيل المثال).
ولئن كانت لغة التشخيص المجردة عادة ما تعفي من الحاجة الى عديد التفاصيل، فانه لا بُدّ من تنويه سريع بقضيتين من جملة القضايا التي تطرحها هذه التقارير :
(*) الأولى - قضية لم الشمل. فهذه القضية الحادة منذ 1948 أخذت مدى غير مسبوق في حدته في الفترة القليلة السابقة، وتحديداً منذ تفجر إنتفاضة أيلول 2000. وبرز، من بين حملة لواء تسعيرها وجعلها "قضية قومية"، وزير الداخلية الاسرائيلي السابق إيلي يشاي، زعيم حزب "شاس" الديني- الطائفي المتطرف. ولعل ما يهم فيها جوهر المسوغات الواقفة خلفها والمتمثلة أساساً في أمرين متصلين : الأول الحؤول دون ما تعتبره إسرائيل "تطبيقاً زاحفاً لحق العودة الفلسطيني"، والثاني الحفاظ على ا ستمرار "الطابع اليهودي" لدولة إسرائيل الصهيونية. ويرتبط هذان الأمران بمجموعة من تطورات إسرائيلية داخلية، سياسية وأيديولوجية، سبق لنا أن توقفنا عند مدلولاتها في أعداد سابقة من "أوراق إسرائيلية"، بل ينبغي رؤية حضورها، بكيفية ما، في الأعداد كافة.
(*) الثانية - قضية القرى العربية غير المعترف بها. صحيح أن الكاتب يعرضها من زاوية مقاربة السياسة الاسرائيلية الرسمية الصارمة (صارمة فقط؟) إزاء "ظاهرة" بناء بيوت غير مرخصة، والتي تتراكض من عملية هدم إلى أخرى على مدار الساعة، غير أن جملة واحدة يوردها على لسان أحد أهالي هذه القرى ومؤداها أنه "إذا كانت القرية ذاتها غير معترف بها أصلاً، فكيف يمكن أن يكون البناء فيها قانونياً؟" تختزل المسافة الى غاية وعي الطابع البنيوي لسياسة التمييز العنصري الاسرائيلية تجاه أهل البلاد الأصليين. والحقيقة أنه منذ تنامي مظاهر عولمة قضايا الموطنين العرب في إسرائيل، تحت وطأة سياسة حكوماتها المتعاقبة، فان مسألة القرى العربية غير المعترف بها تسترعي إهتمام المزيد من أوساط الرأي العام ومنظمات حقوق الإنسان على الحلبة الدولية، ما يعني أنها مرشحة لأن تستأثر بإضافات أخرى لحملة تسليط الأضواء عليها.
المعنى من تنويهنا بهاتين القضيتين، دون سواهما من قضايا ليست أدنى من حيث أهميتها، قد يتأتى عن مجرّد الاستنتاج في ضوء ذلك بأن الطابع العنصري لاسرائيل، بين نشوئها وصيرورتها الراهنة، يظل السبب الأرأس لكل تلك الإنتهاكات ولفصول أخرى منها في المستقبل. أكثر من ذلك ليس مبالغة القول إنه مع الإصرار الرسمي والشعبي على تأبيد هذا الطابع، الذي يتخذ منحى تصعيدياً في الآونة الأخيرة، فان إنتهاكات حقوق الإنسان التي نعثر على صداها في تقارير الغازي هي تحصيل حاصل ليس أكثر.
أخيراً، ليس مقدوراً على كل من يخوض غمار الكتابة في هذا الشأن أن لا يستدعي حديث حقوق الإنسان في إسرائيل حديثاً موازياً ومكملاً عن إنتهاكات حقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ 1967. غير أن الغازي يتناول هذه الإنتهاكات من وجهة نظر واحدة ووحيدة، لكنها شديدة الأهمية، تتضمن كشفاً لأداء أعلى هيئة في السلطة القضائية الاسرائيلية وهي "محكمة العدل العليا".
ومن خلال قصة واحدة يظهر كيف أن هذه المحكمة لا تنفك تستثني من "أحكامها العادلة" تلك المناطق المحتلة، لأنها ما زالت ترهن نفسها في كل ما هو مختص بهذه المناطق، وبصورة مسبقة الإختيار، بسياسة وقرارات المؤسسات الأمنية وقيادة الجيش. وفي الإمكان، طبعاً، القياس على هذه القصة لإدراك فحوى وجوهر "أسمى عدل" يصدر فعلاً عن إسرائيل في منأى عن موهوم "الدمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
ولا مهرب من ملاحظة أن الإرتهان المذكور غير منحصر في المسار إياه فقط، بل ينسحب أيضاً على أداء هذه المحكمة في القضايا الخاصة بالمواطنين العرب في إسرائيل والتي تصنف ضمن مسائل مرتبطة بالأمن القومي. وخير دليل قريب على هذا هو القرار، الصادر في صيف 2003 الحالي، والذي رفض استئناف أهل قرية إقرث المهجرة في الجليل من أجل العودة الى أراضيهم التي تم ترحيلهم عنها عنوة. وقد صدق أحد الباحثين الجامعيين الاسرائيليين الذي رأى أن القرار يعبّر عن مماشاة مع الموقف السياسي الثابت للحكومة، إلى جهة إعتبار العودة كابوساً إسرائيلياً، أولاً ودائماً. فان مجرّد التفكير بها لا بدّ أن يطرح قضية الطرد برمتها والحاجة الى تفكير آخر بمصير مئات الآلاف من البشر الذين تم حيالهم تشييد أسطورة مركبة من التنكر لأية مسؤولية عنهم. وعليه فمن الأفضل جعل قضية إقرث فزّاعة تزيد المخاوف من كابوس العودة وتعزز المسوغ الذي يعيق إحلال أية سيرورة مصالحة، باعتبار أن سابقة العودة تستهدف عملياً "إبادة دولة إسرائيل" أو "تدمير طابعها اليهودي".
وبمقدار ما إن هذا القرار يميط القناع عن الجوهر الحقيقي لهذه المحكمة وماهية "عدالتها" فانه يعيد إنتهاكات حقوق الانسان والمواطن في إسرائيل الى منبعها الأصلي الذي ذكرناه في سياق سالف.