المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 1421

 

قد تكون هي الظاهرة الألفت للنظر في تاريخ اسرائيل.فبحكم الظروف التاريخية لنشأة الدولة اليهودية كدولة اقلوية في محيط اكثري معادٍ، تماهت الدولة مع جيشها وقدمت ابتداء من منتصف القرن نموذجاً فريداً من نوعه لـ"أمة مسلحة" تقوم بالحرب وتدوم بالحرب وتتوسع بالحرب في تجلية مستمرة لجيشها الذي صار واحداً من اقوى جيوش العالم رغم ـ او ربما بفضل ـ الهشاشة العددية للأمة التي عقدت عليه رهانها الوجودي.

 

من هنا كان رفض الخدمة في الجيش الاسرائيلي، اكثر مما في اي جيش آخر في العالم، بمثابة "انتهاك للقدسيات".

ومع ذلك فانه من داخل صفوف هذا الجيش تطورت ظاهرة لم تعرفها سائر جيوش المنطقة المحيطة: رفض الخدمة العسكرية. وهذا ليس فقط لاعتبارات دينية كما في حال بعض الارثوذكس اليهود، بل لاعتبارات ضميرية وسياسية.

فرافضو الخدمة الاسرائيليون ليسوا من الجماعات المسالمة المثالية الرافضة لمبدأ العنف بالذات، بل هم في الاساس مقاتلون أدوا واجبهم العسكري في حرب اسرائيل "الدفاعية" لكنهم يرفضون اداءه في الاراضي المحتلة حصراً لأن الحرب تكف، في هذه الحال، عن ان تكون دفاعية لتتحول الى حرب من نمط استعماري، وضرورية لا لوجود اسرائيل، بل لمستوطناتها التوسعية.

فاسرائيل على مدى العشرين سنة الاولى من وجودها، لم تعرف سوى حالتين اثنتين من حالات الاحتجاج الضميري على اداء الخدمة العسكرية، وذلك عندما امتنع اثنان من اعضاء الفرع الاسرائيلي لأممية مقاومي الحرب، وهما توما شيك وأهرون أفياد، عن اداء خدمة العلم عام 1958، فصدر قرار عن السلطات العسكرية المختصة بتحويلها الى "خدمة مدنية" في احد الكيبوتزات بعد مضاعفة مدتها من سنتين الى اربع سنوات.

هذه الحالة اليتيمة من حالات الاحتجاج الضميري كانت مرشحة لأن تتكرر عندما تحولت اسرائيل، غداة حرب 1967 الى دولة تحوز "أراضي محتلة"، ليس فقط في سيناء المصرية والجولان السوري شبه الخاويين من السكان، بل ايضاً واساساً في الضفة الغربية وقطاع غزة بكثافتهما السكانية المليونية.

ففي 1970، وللمرة الاولى في تاريخ اسرائيل، وجهت مجموعة من الطلبة الثانويين رسالة الى رئيسة الوزراء في حينه، غولدا مائير، يعلمونها فيها برفضهم اداء الخدمة العسكرية في الاراضي المحتلة عندما سيستدعــون اليها مع بلــوغهم الثامنة عشــرة مــن العمر.

وقد كان حافز هؤلاء الطلــبة سياسيــاً في المقام الاول. فقد كانت حكومة غولدا مائير قد رفضت يومئذ مشروعاً للسلام تقدمت به الحكومة المصرية غداة تسلّم الرئيس السادات مقاليد السلطة في تشرين الاول (اكتوبر) 1970.

وقد تكررت بعد ذلك الرسائل الجماعية للطلبة الثانويين كشكل من اشكال الاحتجاج السياسي. وكانت اشهرها واكثرها ضجيجاً الرسالة التي وجهتها مجموعة من 27 طالباً الى وزير الدفاع في حينه، عازر وايزمان، عام 1979، وكان من جرائها استدعاء اربعة من اولئك الطلبة للمثول امام محكمة عسكرية قضت عليهم بالحبس لمدة خمسة وثلاثين يوماً قابلة للتجديد في كل مرة يتكرر فيها رفضهم للخدمة.

وكانت حرب اجتياح لبنان عام 1982 كمناسبة لتطور غير مسبوق اليه في هذا المجال. فحرب لبنان، التي كانت اول حرب تقررها حكومة ليكودية، لم تكن موضع اجماع لدى المواطنين الاسرائيليين.

وفي ظلها بلغت حركة "السلام الآن" ذروتها. وفي ركاب هذه الحركة كانت قد رأت النور منظمة رسمية للمعترضين الضميريين على اداء خدمة العلم في الاراضي المحتلة باسم "يش غفول"، اي "هناك حد". وقد وجهت هذه الحركة نداء علنياً الى وزير الدفاع الاسرائيلي لاعفاء جنود الاحتياط من الخدمة في لبنان. وسرعان ما تحول هذا النداء الى عريضة جماعية مفتوحة وقع عليها خلال العام الاول 1470 من الاحتياطيين ثم ارتفع هذا العدد خلال العامين التاليين الى 2500.

وقد قُدم 170 منهم الى محكمة عسكرية وصدرت عليهم احكام فعلية بالحبس في جو من التعتيم الاعلامي. لكن رئيس هيئة الاركان الجنرال موشي ليفي، اضطر الى الاعتراف عام 1986 بأن تزايد عدد الرافضين من الاحتياطيين للخدمة العسكرية في لبنان كان واحداً من الاسباب التي عجلت باستخدام قرار بالانسحاب الجزئي.

ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الاولى عام 1987 وهي الانتفاضة التي اخذت شكل مواجهة يومية بين قوات "تساحال" وبين مدنيين فلسطينيين عزل من السلاح، غالبيتهم من النساء والاطفال، تزايد على نحو ملحوظ عدد الرافضين من الجنود الاسرائيليين الخدمة في الاراضي المحتلة.

وعلى امتداد السنوات الست الفاصلة بين الانتفاضة الاولى وتوقيع اتفاقات اوسلو، حوكم وصدرت احكام السجن على 190 ضابطاً وجندياً رافضاً اكثرهم من الاحتياط، ورتبهم من ذوي الرتب العالية ومن خريجي الجامعات.

ولئن يكن عدد الرافضين قد تقلص على نحو ملحوظ في فترة السنوات السبع الفاصلة بين توقيع الاتفاقات في ايلول (سبتمبر) 1993 وبين اندلاع الانتفاضة الثانية في الشهر نفسه من العام 2000، فلم يحاكم امام المحاكم الحربية سوى 20 رافضاً فقط، فإن اعدادهم عادت الى الارتفاع عقب اندلاع الانتفاضة الثانية.

فبين ايلول 2000 وحزيران (يونيو) 2002، بلع عدد الرافضين اكثر من 2000، وقدم الى المحاكمة منهم 189 صدرت عليهم احكام بالحبس الفعلي. وقد ترافقت موجة الرفض الجديدة هذه مع مبادرتين كان لهما وقعهما في الاعلام الاسرائيلي والدولي، واحدة تمثلت في "رسالة تلاميذ البكالوريا" وثانية في "شجاعة الرفض".

فقد شكلت الرسالة العلنية التي وقعها 62 طالباً في السنة الاخيرة من المرحلة الثانوية ووجهوها الى رئيس الوزراء شارون في 19 آب (اغسطس) 2001، علامة فارقة في تطور ظاهرة الرفض وفي تعميق صداها الاعلامي. وقد شارك في توقيعها، وللمرة الاولى، عدد من المرشحات للتجنيد من الطالبات.

ودمغت الرسالة بعنف السياسة التي تتبعها الحكومة الاسرائيلية في الاراضي المحتلة بأنها "عنصرية"، ووصفت الاعمال التي ينفذها الجيش الاسرائيلي من "اعتقالات ومصادرات وهدم للبيوت وتصفيات جسدية وعمليات تعذيب" بأنها "جرائم" تقترفها الدولة الاسرائيلية في انتهاك مباشر للمواثيق الدولية الموقّع عليها من قبلها، لا سيما ما يتعلق منها بحقوق الانسان. وفضلاً عن لاشرعية هذه الاعمال ـ اضافت الرسالة ـ فانها تقف عاجزة عن بلوغ هدفها المعلن، وهو تحقيق الأمن الشخصي للاسرائيليين. فليس لمثل هذا الامن سوى طريق واحد، وهو توقيع اتفاقية سلام عادلة بين الحكومة الاسرائيلية والشعب الفلسطيني.

ولئن يكن الرأي العــام الاسرائيلي لم يــتعاطف كثــيــــراً مع رسالة الــطلبة بــسبب نزعتــها "اللاوطــنية" ولأنها صــادرة اصلاً عن طلاب لم يرتدوا قط البزة العسكريـــــة، فغير ذلك كان وقع العريضة التي وقعها 52 ضابطاً وجندياً من الاحتياطيين والعاملين والتي نشرت في صحيفة "هآرتس" في 25 كانون الثاني (يناير) 2002 تحت عنوان "شجاعة الرفض".

فالموقعون الذين انضم اليهم لاحقاً نحو من 500 ضابط وجندي آخر، قد عرّفوا عن انفسهم في مطلع العريضة بأنهم من "الاحتياطيين والمقاتلين في جيش الدفاع الاسرائيلي" وبأنهم قد تربوا على مبادئ الصهيونية وحاربوا في الصفوف الاولى دفاعاً عن دولة اسرائيل وحق شعبها في الوجود الآمن.

لكنهم لاحظوا انهم منذ ان استُدعوا للخدمة في الاراضي المحتلة فان جميع الاوامر التي تلقوها لم يكن لها من صلة بالوجود والامن القومي لاسرائيل، بل كان مدارها كلها على تأييد الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية.

و"الحال ان هذه الاوامر ـ قال الرافضون في عريضتهم ـ قد أشعرتنا بمدى تدميرها للقيم التي نشأنا عليها في هذا البلد، وجعلتنا ندرك ان ثمن ذلك الاحتلال خسارة انسانية جيش الدفاع الاسرائيلي وفساد وانحلال المجتمع الاسرائيلي بأسره.

ولهذا نعلن اننا لن نواصل حرب المستوطنات هذه، ولن نواصل القتال بعيداً عن حدود 1967 بهدف تشريد وتجويع واذلال شعب بكامله. وفي الوقت الذي نعلن فيه عزمنا على مواصلة الخدمة في قوات تساحال في اية مهمة يستوجبها الدفاع عن اسرائيل، فإننا نعلن بالعزم نفسه ان مهمات الاحتلال والقمع لا تخدم هذا الهدف واننا بالتالي لن نشارك فيها".

وقد حظيت العريضة بتأييد شخصيات اسرائيلية مرموقة، منها ميكائيل بن يائير الذي كان شغل منصب المدعي العام للدولة في عهد رابين وبيريز.

وقد قال في مقال نشره في "هآرتس" في 3 آذار (مارس) 2002: "ان رغبتنا الحارة في الاحتفاظ بالاراضي المحتلة قد جعلتنا نطوّر نظامين قضائيين، واحد برسم اسرائيل، تقدمي وليبرالي، وآخر برسم الاراضي المحتلة، قاسٍ ومجحف. وفي الواقع فان ما أقمناه في الاراضي المحتلة هو نظام أبارتيد".

اما التأييد الثاني فجاء من الفنانة يافا ياركوني، التي تعد "ام كلثوم اسرائيل" والتي تلقّب بـ"مطربة الحروب". ففي تصريح أدلت به لمحطة الاذاعة العسكرية في 14 نيسان (ابريل) 2002 صدمت مستعميها عندها شبّهت الفلسطينيين باليهود اثناء الحرب العالمية الثانية وعبّرت عن تأييدها لرافضي الخدمة الاسرائيليين بقولها: "ان ما نفعله في الاراضي المحتلة منذ 1967 هو وراء انتفاضتهم. واني لأفهمهم. فلو فعل احد بنا ما نفعله بهم، لجاء رد فعلنا مماثلاً تماماً". وقد تسبب تصريحها هذا في الغاء حفلتها التي كانت مقررة ليوم الاستقلال.

بديهي ان رافضي الخدمة لا يشكلون عددياً الا كمّاً مهملاً: الفاً او الفين من اصل جيش يضم نصف مليون من مقاتلين واحتياطيين. لكن موقفهم الرافض للخدمة في الاراضي المحتلة مثّل نوعاً من زلزال. وصحيح ان هزّات هذا الزلزال ادنى من ان يحسب لها حساب وفق ما يمكن ان يكون مقياس ريختر للهزّات الاجتماعية لكن خطورتها تكمن في تواصلها وفي ما ترسمه من علاقات استفهام حول مستقبل الديموقراطية في اسرائيل، وحول هوية الدولة بالذات: أهي دولة اسرائيلية تكتفي بحدودها لعام 1967 ام دولة يهودية تريد ضم الاراضي المحتلة ـ واكثر منها بعد ـ لتتطابق حدودها مع حدود فلسطين الميثولوجية؟

 

الحياة 2003/06/08

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, اوسلو, هآرتس, دولة اسرائيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات