المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يذكر الجميع أنه في أوج النقاش حول تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة، تعاظم اللغط في الأوساط الرسمية حول مشروع قديم- جديد يطلق عليه مجازا اسم "خطة تطوير النقب والجليل".

وسعيا وراء الإيجاز فإننا سنطلق على هذا المشروع اسما مختصرا هو "خطة التهوير". ومرد هذه التسمية إلى الجمع اللفظي بين باطن الخطة وجوهرها (ألا وهو التهويد) وبين ظاهرها (ألا وهو التطوير). ونظن أن سبب التزامن بين إطلاق العنان لخطة "التهوير" وبين خطة الانفصال هو النية في تقديم تعويض أيديولوجي للمستوطنين الذين سحبوا من غزة، بالإضافة إلى التعويضات المادية السخية التي أغدقت عليهم، يتمثل في تحديد هدف أو قل فريسة جديدة لممارسات الاستيطان وسلب الأراضي والتنكيل بالعرب لهؤلاء المتعطشين لهذه الممارسات.

وسنسعى في هذه المقالة إلى استعراض أبعاد خطة "التهوير" وتحليلها والحكم عليها من خلال الأجزاء التي تم الإعلان عنها وشُرع بتنفيذها. وسنعتمد للوصول إلى بلورة موقف واضح من الخطة على منهج مدني صرف يعتمد معايير المواطنة الكلاسيكية كأساس لتقييمها، فالحكم على الخطة من منطلق قومي- وطني واضح وجلي ّ ولا يحتاج إلى فصول ومقالات قطعا.

هل يجوز للدولة توزيع السكان على هواها؟

ونبدأ بطرح التساؤل: هل يحق لدولة ما التحكم بالتوزيع السكاني في أرجائها، وتشجيع انتقال مجموعات من المواطنين إلى بقاع ومناطق تقوم بتحديدها هي كما ترى مناسبا؟ أم أن على الدولة أن تترك المجال مفتوحا أمام المواطنين لاختيار مناطق سكناهم بحرية ؟

والأجوبة على هذه التساؤلات معقدة أحيانا وتحمل أوجهاً عدة. فأحيانا هناك عوامل موضوعية ترجح قبول تدخل الدولة في نمط توزيع السكان فيها، كأن ترغب في النهوض بمنطقة معينة بواسطة رفدها بالموارد البشرية، أو دعم قطاع بعينه في المجتمع، مثل القطاع الريفي- الزراعي، بترغيب السكان بالالتحاق به، أو لتخفيف الكثافة السكانية في المدن الكبرى المكتظة بالسكان وتكابد الاختناقات المرورية.

ومن الجهة الأخرى، هناك حالات تستدعي الحذر في مجرد التفكير بإعادة توزيع السكان في الدولة، كأن يكون القصد من وراء تعويم السكان ضربا من ضروب الترانسفير المبطن الذي توجهه سياسة ومآرب عنصرية ضد مجموعة عرقية معينة، أو بنية طمس معالم منطقة ما وتجريدها من هويتها الأصلية باستجلاب مجموعات غريبة إليها.

وخلاصة القول هي أن الهدف من وراء مشاريع توزيع السكان هو العامل الذي يحدد شرعيتها وجوازها. فلا بد أن يكون الهدف عادلا ومنطقيا ولا يتسم بالعنصرية والتمييز. وعموما، فلا بد من توفر بعض الشروط الأساسية في أي مشروع يهدف إلى إعادة توزيع السكان في بلد ما. وهذه الشروط هي:

  1. توخي المساواة التامة في الممارسة، بمعنى ألا ينحصر تشجيع انتقال السكان بفئة أو مجموعة من المواطنين، وإلا صار الأمر انتقائيا ويتسم بالعنصرية المقيتة ويستوجب حينها الرفض والاستنكار.
    2. أن لا يكون استجلاب السكان الجدد إلى منطقة معينة على حساب أهلها وسكانها الأصليين. أي أن المقيمين أصلا في المنطقة أولى بها وبمقدراتها من الذين يُستدرجون إليها لاحقا طمعا بالهبات وجني الأرباح.
  2. أن تتوفر في المنطقة المعنية الموارد الطبيعية والثروات الاقتصادية التي تكفي لإعالة سكانها الأصليين أولا، ومن ثم الوافدين إليها.

بعد هذه المقدمة المستفيضة ننتقل لتحليل مشروع التهوير والحكم عليه وفق الشروط والمعايير التي حددت أعلاه. وأول ما نسجله على المشروع رداءة الهدف الذي يسعى لتحقيقه، ألا وهو محاولة قلب التركيبة الديمغرافية السائدة في الجليل والنقب لجهة فرض أغلبية عددية يهودية فيهما. ونطلق على هذه المحاولة اسم "الهندسة الديمغرافية التطبيقية" التي تكاد تكون إسرائيل تنفرد بها دون دول العالم قاطبة. وإن ننسى التصريحات العنصرية الصادرة عن القيادات السياسية في إسرائيل على مر العقود، فإننا لا ننسى التصريحات التي تعتبر العرب آفة ديمغرافية وقنبلة موقوتة وخطرا إستراتيجيا على مستقبل الدولة عامة وبعض مناطقها خاصة.

ومما يثير الشكوك حول النوايا الحقيقية للخطة وأهدافها تكليف الحكومة لكل من سلطة تطوير الجليل وسلطة تطوير النقب بتولي تنفيذها كل في منطقتها. وهاتان السلطتان تعملان جهارا كأدوات تهويد ولا توليان قضايا البلدات العربية واحتياجاتها أي قدر من الاهتمام والمتابعة. وليس أدل على حقيقة وطبيعة سلطة تطوير الجليل من أن رئيسها هو رئيس بلدية مستوطنة "كتسرين" القائمة على أراضي هضبة الجولان السورية المحتلة، وأن اجتماعات المجلس العام للسلطة غالبا ما تعقد في "كتسرين". وتستدعي هذه الحقائق المقاطعة شبه التامة للسلطة ونشاطاتها من قبل رؤساء السلطات المحلية العربية.

أول الغيث قطر

لغاية الآن، وفي إطار خطة التهوير، باشرت الحكومة بتنفيذ مجموعة من المشاريع تهدف إلى ترسيخ وتعزيز دور ومكانة المدن والمستوطنات اليهودية في الجليل والنقب. ومن بين هذه المشاريع نذكر ما يلي:

  1. الإعلان عن قرار الحكومة بإقامة جامعة جديدة في مدينة كرميئيل وتجنيد مبلغ مئة مليون دولار لهذا الغرض من مصادر خارجية. وفي هذا القرار تجاهل سافر للمطلب القديم والمتجدد بإقامة جامعة للواء الشمال في أكبر مدنه، ألا وهي الناصرة.
  2. الشروع بتوسيع أكثر من مئة مستوطنة جماهيرية يهودية في الجليل وعرض آلاف قسائم البناء فيها للبيع للعائلات اليهودية بأسعار بخسة. ويذكر أن المستوطنات الجماهيرية اليهودية موصدة تماما أمام العرب. لا بل إن العرب الذين ما زالوا يملكون بعض الأرض ضمن مسطحات المستوطنات يـُمنعون من البناء عليها بحجج عنصرية واهية.
  3. عرض ألفين وخمسمائة فرصة عمل جديدة على العائلات اليهودية التي تختار الهجرة إلى الجليل، وذلك لضمان المسكن والعمل للراغبين في الاستيطان، بينما تعاني غالبية البلدات العربية من البطالة المستشرية فيها.
  4. أقرت وزارة الإسكان منح هبات إسكان سخية للعائلات التي تنوي شراء شقق سكنية في قائمة من المدن والبلدات في النقب والجليل. ولا تشمل هذه القائمة بلدات عربية سوى الناصرة التي تكاد تخلو من الشقق السكنية الجاهزة للبيع.
  5. إقرار المخطط القطري "تاما 35" الذي يوفر الإطار التخطيطي الملائم لإقامة التجمعات السكنية والمناطق الصناعية الجديدة في الجليل والنقب.
  6. المصادقة على مخططات حكومية لاختطاط حوالي عشر مستوطنات يهودية جديدة في النقب والجليل.
    7. تكثيف حملة هدم البيوت في القرى العربية غير المعترف بها في النقب وتشريد سكانها، تمهيداً لتهجير هذه القرى برمتها ولإفساح المجال أمام اختطاط المزيد من البلدات اليهودية ومستوطنات الأفراد.
  7. وضع اللمسات الأخيرة على أضخم صفقة أراض في تاريخ إسرائيل تقضي بأن تنقل الدولة ملكية مئات آلاف الدونمات من أراضيها في النقب والجليل بالتحديد لصالح "الكيرن كاييمت".

ويذكر أن "الكيرن كاييمت" تجاهر صباح مساء بأنها ترفض بيع أو تأجير أو تخصيص أراضيها لمصلحة العرب وتقتصر ذلك على اليهود دون غيرهم.

وتعتبر هذه القائمة غيضاً من فيض المشاريع والاستثمارات التي تنوي الحكومة تنفيذها في النقب والجليل ضمن مشروع التهوير. حتى أن أقطاب حكومة أريئيل شارون، وشمعون بيريس على رأسهم، تمكنوا من إقناع أميركا بتوفير الدعم والتمويل للخطة على اعتبار أنها تأتي في أطار خطة الانفصال عن غزة وستسهم في دفع عملية السلام في المنطقة برمتها.

ولا حاجة للاجتهاد لكشف حقيقة أن هذه المشاريع لا تعنى باحتياجات البلدات العربية قطعا، ولا تتوخى المساواة بين العرب واليهود بتاتا. بل إنها كلها، وبدون استثناء، تسخر موارد وثروات النقب والجليل لصالح اليهود الذين ينوون الهجرة والاستيطان فيهما، وتحرم البلدات العربية من حقها الطبيعي فيها، وستؤدي إلى تعميق الهوة بين مستوى معيشة أبناء الشعبين في البلاد.

وكنا نتوخى، وكما يبدو عبثا، أن تتضمن خطة التهوير معالجة ولو رمزية للتمييز المزمن اللاحق بالبلدات العربية في مجالات الحياة المختلفة. فما زالت البلدات العربية في الجليل مثلا، محاصرة ضمن مناطق نفوذ لا تتعدى مساحتها 12% من مساحة الجليل. ويضطر المواطن العربي إلى الانحسار في ما يقل عن 40% من المساحة المعدة للبناء والتطوير التي ينعم بها المواطن اليهودي. ويضطر العرب أن يكتفوا بما يقل عن 2% فقط من المساحة المعدة للصناعة بالمقارنة مع المساحة التي ينعم بها اليهود في بلداتهم لنفس الغرض. ولا حاجة للاسترسال في وصف مستوى الخدمات البلدية والصحية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المتردية في البلدات العربية إذا ما هي قورنت بالبلدات اليهودية.

مهمات وتحديات

إن محاولات الحكومة وأذرع الاستيطان المختلفة تمرير خطة التهوير دون رد مسؤول وحازم من قبل السلطات المحلية والفعاليات السياسية والهيئات التمثيلية العربية سيكون ضربا من ضروب التقاعس واليأس. فلا بد من وضع مهمة التصدي للخطة وإفشالها على رأس سلم أولويات النضال الوطني والاقتصادي والاجتماعي للحركات السياسية والقيادات العربية. ولا ينبغي أن نغفل الدور المشؤوم لحزب "العمل" ووزرائه كعرابين وربابنة لخطة التهوير حتى عندما يأتون للبلدات العربية طمعا في الأصوات والتأييد الانتخابي.

__________________________________

(*) الكاتب مدير "المركز العربي للتخطيط البديل"

المصطلحات المستخدمة:

تهويد, كرميئيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات