بحث أكاديمي اسرائيلي حول "ظاهرة الانتحار" الفلسطينية، ومقارنتها بظاهرة انتحاريي "الكاميكازا" اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، يتوصل الى ان حافز منفذي الهجمات الانتحارية (ضد اسرائيل) او حافز قسم منهم على الاقل، مشابه لحافز طياري الكاميكازا: "الشعور العام لدى الذين تطوعوا لمهة (القنابل البشرية) هو ان الفرصة الوحيدة لتغيير وضع ابناء شعبهم تأتي من خلال عملياتهم التفجيرية، واذا ما تخلوا عن هذه الفرصة فإنهم سيعيشون حتمًا حياةَ ذُلٍّ وخطر دائم، لا تستحق وصفها بالحياة".
في 22 ايار من العام الماضي خرجت عرين احمد، (20 عامًا) من بيت ساحور، قاصدة "ريشون لتسيون" (عيون قاره). كانت ترتدي بنطالا وقميصًا عصريين، وحقيبة ظهر احتوت على عبوة ناسفة وزنها 35 كغم، جاهزة للانفجار حالما تضغط على زر التشغيل. وطبقا للخطة، فقد كان من المفروض ان تنفجر العبوة بعد وقت قصير من انفجار عبوة اخرى، اي بعد توافد اعداد كبيرة من الناس المذعورين الى المكان او الشارع الذي وقع فيه انفجار العبوة الاولى. وبالفعل شاهدت "عرين" عملية التفجير الاولى، لكنها لم تضغط على زر تشغيل عبوتها.
التقارير والاخبار التي نشرت لاحقًا تحدثت عن صديق "عرين" الذي كان قد صرع (برصاص الجيش الاسرائيلي) قبل فترة قصيرة، وهكذا نشأ الانطباع لدى الرأي العام بأن صنيعها ما هو الا محاولة انتحار فاشلة (؟!)... اي ان الفتاه التي فقدت حبيبها قررت الانتحار والانتقام بعملية واحدة، لكنها تراجعت عن نيتها في اللحظة الاخيرة..
عالم النفس الدكتور يسرائيل اورون، المختص في حوادث الانتحار، يستبعد هذا التفسير. ففي بحث سيكولوجي (نفساني) هو الاول من نوعه، نشر حديثاً، واشارت اليه "هآرتس" (22/4) يؤكد د. اورون انه باستثناء النتيجة النهائية – الموت الذي يتسبب به الانسان لنفسه - لا يوجد اي وجه شبه بين الانتحار وبين ما جرت العادة على وصفه بـ "العمليات الانتحارية". كذلك يعتقد د. اورون ان الفرضية السائدة بأن الشاب "الانتحاري"، الذي ينطلق لتنفيذ عملية تفجيرية، مصمم على الموت، هي فرضية خاطئة ومغلوطة، ويقول: "لا اعرف اذا كان بالامكان ترجمة او وصف ذلك بانه عملية عسكرية او من نوع اخر، لكنني متأكد من ان المخربين الذين يخرجون لتنفيذ اعتداء لا ينشدون الموت، بل ينشدون الحياة".
اكتسب "اورون" تخصصه وخبرته في حوادث الانتحار في السنوات التي عمل فيها خبيرًا نفسيًا في سلك الشرطة الاسرائيلية، وخصوصًا في مجال البحث عن المفقودين. في حالات كثيرة، وفي نهاية تحقيق مكثف، اكتشفت جثة المفقود والى جانبها رسالة تشرح دوافع قراره وضع حد لحياته، وقد حافظ اورون على العلاقة التي تنشأ مع اسر المفقودين اثناء التحقيق، بل عمد الى اقامة مجموعات دعم لصالح هذه الاسر. حاليا يعمل "اورون" محاضرًا في معهد علم الاجرام بالجامعة العبرية، ويواصل في الوقت نفسه معالجة موضوع حوادث الانتحار. وفي سياق بحثه النفسي حول هذا الموضوع بحث د . اورون عن نموذج للمقارنة واختار ظاهرة اخرى تتعلق بـ "حرب الانتحاريين" التي مارسها الطيارون اليابانيون (الكاميكازا) في مواجهة الجيش الاميركي خلال الحرب العالمية الثانية. اكتشف اورون انه لم يُنشر اي بحث نفسي في هذا الخصوص، فبادر الى اعداد بحث تمهيدي حول الدوافع النفسية لدى طياري الكاميكازا.
وقد تم البحث بطريقة تحليل نصوص ورسائل تركها انتحاريو الكاميكازا والانتحاريون الفلسطينيون، اضافة الى اقوال ادلى بها من تبقى من هؤلاء على قيد الحياة لأسباب مختلفة. قارن اورون بين النصوص التي تركها طيارو الكاميكازا والنصوص التي تركها الانتحاريون الفلسطينيون، كما قارن هذه النصوص مع رسائل تركها اشخاص عاديون اقدموا على الانتحار. يقول اورون ان بحثه عبارة عن دراسة اولية، لكن الاستنتاج القاطع الذي توصل اليه يقضي بأن "المخربين" الفلسطينيين ، كحال طياري الكاميكازا، مدفوعون بدافع ارادة الحياة وليست رغبة الموت ما يحرك المنتحرين من الناس العاديين.
دوافع مختلفة جوهريًا
التعريف السيكولوجي للانتحار لا يكتفي بحقيقة ان الانسان المنتحر تسبب بالموت لنفسه عمدًا او نتيجة لاهمال. فالعمل – الفعل، يعرف بأنه انتحار فقط اذا انطوى على ثلاثة عناصر: رغبة بالموت، ونية الموت، واستعداد الشخص لقتل نفسه.
يقول اورون ان الفرضية الاساس للبحث - طبقًا لهذا التعريف - كان يجب ان تفضي الى أن منفذي العمليات الانتحارية هم منتحرون بالفعل، غير انه تبين عملياً، ومن خلال تحليل الدوافع النفسية، ان طياري الكاميكازا ومنفذي الهجمات الانتحارية عملوا بدوافع تختلف اختلافاً جوهرياً عن دوافع المنتحرين "العاديين".
فالمسبب الرئيسي للانتحار، كما يقول البحث، هو ألم نفسي لا يستطيع الانسان تحمله. والانسان الذي يقرر الانتحار يضيق علية عالمه لينحصر في هدف واحد ووحيد- وضع حد لحياته. فهو غير قادر على الشعور بالامل او رؤية مستقبل اخر، ولذلك تجده يتصرف مدفوعًا بدوافع انانية محضة.
وفيما يحرص المنتحرون في رسائلهم الاخيرة على وصف عالمهم الداخلي الصعب في محاولة لشرح وتسويغ اختيارهم لطريق الانتحار، نجد ان طياري الكاميكازا اليابانيين يؤكدون في رسائلهم الاخيرة على وصف عملية "قبول الحكم" او "اطاعة الامر"، التي تخلو بصورة شبه تامة من عنصر الاختيار. الانقضاض الانتحاري للطيارين اليابانيين بطائراتهم على السفن وحاملات الطائرات الحربية الاميركية كان وسيلة عسكرية تهدف ضمان اصابة الهدف.
غير ان العامل النفسي كان شديد القوة والاثر ومجديًا اكثر بكثير من الجدوى العسكرية، حيث وجد الاميركيون انفسهم في مواجهة عدوٍّ عجزوا عن فهم سلوكه. وعلى الرغم من ان مهمة طياري الكاميكازا وصفت بأنها تطوعية، الا انه كان واضحاً ان هذا التطوع بمثابة امر لا يمكن رفضه او التردد في تنفيذه.
ويتضح من رسائل كتبها طيارو كاميكازا لعائلاتهم خلال الاسابيع السابقة لانطلاقهم لمهمتهم ان الدافع الذي وجههم لم يكن اختيارًا شخصيًا، وان ارادتهم ورغبتهم في الحياة ربما تعرضت للقمع لكنها لم تقتل في نفوسهم. ويقول د. اورون ان الشخص الذي ينوي الانتحار، ينظر للحياة التي عاشها ولا يتطلع للمستقبل، وهو بالقطع لا يفكر بتكوين اسرة، التي هي رمز لاستمرارية الحياة. واستنادا لتحليل مقابلات تلفزيونية او تسجيلية (مكتوبة) اجريت مع منفذي عمليات ظلوا على قيد الحياة، يستنتج د., اورون بأن غالبية هؤلاء لم يرغبوا بالموت.
"اخترت لأكون شهيدًا" هذا مايقوله محمود شريف في فيلم دو سيتون "شهيد"، وهي صيغة تدل على ان الاختيار والقرار لم يكونا في يده. في مقابلة بثتها محطة القناة الاولى في التلفزيون الاسرائيلي، قال فتى فلسطيني عمره 14 عاماً انه لم يكن يسعى للموت وانما "اردت فقط المشاركة في كفاح شعبي من اجل التحرر الوطني". الفتاة شفاء القدسي، اوضحت في مقابلة تلفزيونية: "هذا ليس انتحارًا، بل عملية استشهادية". د. اورون يتفق مع "شفاء" حول كل ما يتعلق باستخدام كلمة "انتحار"، وقد اختار استخدام اصطلاح بديل وهو "عمليات تفجير ذاتي".
يبقى سؤال البحث، ازاء ذلك كله: ما الذي يدفع، مع كل ذلك، شخصًا يافعًا ومعافى الى قتل نفسه؟
في حالة طياري الكاميكازا كان ذلك هو اليقين بأنه ما من خيار آخر، وانهم الدرع الاخير والامل الاخير لليابان، وانه اذا ما رفضوا التطوع للمهمة فان النتيجة ستكون هزيمة اليابان وموتهم. حافز منفذي الهجمات الانتحارية (ضد اسرائيل) او حافز قسم منهم على الاقل، مشابه لحافز طياري الكاميكازا. الشعور العام لدى الذين تطوعوا لمهة (القنابل البشرية) هو ان الفرصة الوحيدة لتغيير وضع ابناء شعبهم تأتي من خلال عملياتهم التفجيرية، واذا ما تخلوا عن هذه الفرصة فإنهم سيعيشون حتمًا حياةَ ذُلٍّ وخطر دائم، لا تستحق وصفها بالحياة.
يقول البحث ان القادة الذين جندوا طياري الكاميكازا في اليابان ورجال المنظمات الذين يجندون الانتحاريين لتنفيذ العمليات، اعتمدوا على نصوص مستمدة من التقاليد والدين.
غسان استيتي، الذي حاول مرتين تنفيذ عملية انتحارية وتم اعتقاله في حملة "السور الواقي" العسكرية على الاراضي الفلسطينية في نيسان 2002، قال: " مكثت شهراً في المسجد، وتعلمت هناك مغزى واهمية ان يكون المرء شهيدًا. ان الشهادة هي الهدف الاسمى". هذه الاقوال وردت خلال لقاء فريد من نوعه اجراه وزير الدفاع الاسرائيلي في ذلك الوقت، بنيامين بن اليعيزر مع كل من "استيتي" و"عرين احمد" في معتقل المسكوبية بالقدس. وقد جرى توثيق اللقاء في نطاق تقرير نشر في صحيفة "هآرتس" (21/6/2002).
عملية اتوماتيكية
غالبًا ما يجند منفذو العمليات الانتحارية من بين صفوف ناشطي حركتي "حماس" و "الجهاد الاسلامي"، لكن هناك حالات لم يكن فيها المتطوعون من انصار هاتين الحركتين. وينوه البحث الى ان عملية اجتياح جنين ومخيمها ادت الى ظهور العديد من المتطوعين. يقول اورون ان مجندي "الانتحاريين" يعملون بناء على حدس او احساس يبرهن في الكثير من الاحيان على صحته. "ابحثوا عن شبان يعتريهم الحزن" هكذا اوعز احد النشطاء في توجيه لمساعديه.
عرين احمد كانت فتاه حزينة. فقبل حوالي شهر ونصف من تطوعها، قتل صديقها، وهو ناشط في حركة "فتح" يدعى جاد سالم. وردًا على سؤال وزير الدفاع الاسرائيلي لها حول ما جعلها تريد القيام بعملية انتحارية، اجابت عرين قائلة: "هذا شيء شخصي... لقد قتلتم صديقي".
للوهلة الاولى يبدو وكأن الامر يتعلق بفتاه قررت الموت وانها بحثت عن اطار مناسب. غير ان حيثيات عملية تجنيدها تظهر صورة مغايرة كليًا. حيث وصفت عملية تجنيدها بقولها "لدي اصدقاء ناشطون في التنظيم... ذات مساء جلسنا وتحدث بعضهم عن عزمهم القيام بعملية انتقامية. كنت اجلس واصغي للحديث.. فكرت بـ جاد. فجأة قلت لهم: اوتدرون، انا مستعدة لتنفيذ عملية انتحارية! هذا ما حصل، لم افكر بذلك مسبقاً ولو للحظة واحدة" .
بعد اربعة ايام فقط من اعلانها هذا، ارسلت عرين لتفجير نفسها في ريشون لتسيون.. كانت من جهتها تعتقد ان الامر سيحتاج لتحضيرات تستغرق بضعة اسابيع على الاقل.
يقول اورون ان التهيئة تستهدف من ضمن ما تستهدف، تعميق الشعور بالتضامن والتعاطف مع المهمة بما يجعل المرء مستعدًا للتنفيذ على الرغم من انه لا يرغب بالموت، وذلك من منطلق التسليم التام بالامر.
مؤخرًا نشرت مجموعة مقابلات اجراها سجين امني مع منفذي عمليات تم اعتقالهم (تقرير عميرة هيس (يحلقون نحو الجنة) ملحق هآرتس 4/4/2003، وتجدون ترجمته العربية في زاوية "وثائق وتقارير" في "المشهد الاسرائيلي"). ويؤكد هؤلاء المعتقلون في المقابلات على الفريضة الدينية – الاستشهاد – باعتبارها الدافع الابرز والاهم، ومن ثم واجب مقاومة الاحتلال والشعور بعدم قيمة الحياة وفقدان الامل.. ويقول اورون ان حديث المعتقلين الثلاثة يدل على ان نية الموت لم تكن الدافع المحرك لديهم. وعلى سبيل المثال يقول المعتقل "م": "كان جوابي بانه اذا اتيحت لي امكانية القيام بعملية، فلا مانع لدي..". ويقول "اورون" انه وفي مقابل هذا النموذج فان من يريد وضع حد لحياته يبذل كل جهد من اجل تنفيذ خطته، ولا ينتظر من احد ان يقوم بتخطيط عملية الانتحار لحسابه. كما انه هو الذي يختار وسيلة التنفيذ".
كذلك فان حديث "ا"، الذي يقول انه لو اقيمت دولة فلسطينية لما كان ثمة حاجة لتنفيذ عمليات، ولكن "طالما بقي الاحتلال، سيبقى الاستعداد للمقاومة، وبالتالي الاستعداد لاختيار الشهادة"، هذا الحديث يدل على ان هدف هذا الشخص ليس قتل نفسه.
يقول د . اورون ان البحث النفسي حول هذا الموضوع لا يزال في بدايته، وبالتالي لا يمكن استخلاص استنتاجات جازمة في هذا الشأن.