الرحلة من تل أبيب الى نابلس تمر، ليلاً، في القدس، وتشمل نهاية اسبوع من التدريبات في بيت ساحور، وعبور حاجز حوارة المقام عند مدخل نابلس وفي النهاية ايضاً زيارة الى قرية يانون. قرب باب الأسباط في القدس هنالك نُزُل رخيص بشكل مميز، يشكل معسكرًا مؤقتاً لانطلاق ناشطي الحركة. كما يتجمع هناك ايضًا صحفيون أجانب في طريقهم الى المناطق (الفلسطينية)، ناشطون جدد وصلوا للتوّ من المطار أو من الاردن، وكذلك ناشطون قدامى يستريحون، قليلاً، من ضغط النشاط الخطر في المناطق (الفلسطينية).
تعرفت على (م) من نابلس في "نفيه شالوم" الشهر الماضي، خلال لقاء بين اسرائيليين وفلسطينيين. بدا أن غالبية الاسرائيليين الذين حضروا الى ذلك اللقاء جاءوا بدافع الفضول. الفلسطينيون، بالمقابل - وكانوا، بغالبيتهم، طلابًا جامعيين من نابلس - خرجوا في السابعة صباحاً لكي يستطيعوا الوصول بعد الظهر: ساروا مشيًا على الأقدام ساعات طيلة، معرّضين أنفسهم للاعتقال، فقط لكي يرووا للاسرائيليين قصص احتلالهم، انطلاقًا من ايمانهم الساذج بأن من يسمع لن يستطيع الصمت أكثر.
غداة ذلك اليوم، دَهس جندي من الجيش الاسرائيلي، بجرافة امريكية، الطالبة الجامعية الأمريكية ريتشل كوري، ابنة الـ 23 عاما، التي نشطت في اطار حركة التضامن الدولية (ISM). تحاول هذه الحركة، منذ سنين، مساعدة الفلسطينيين في المناطق (الفلسطينية) بأسلوب نشاط مباشر، غير عنيف. فور سماعي في الاذاعة نبأ مقتل كوري، ابنة جيلي، التي حاولت منع هدم البيت في رفح، دخلت الى موقع الحركة على شبكة الانترنت وبدأت رحلتي الى نابلس. انها رحلة شخصية كصديق لـ (م)، لا كصحفي.
الرحلة من تل أبيب الى نابلس تمر، ليلاً، في القدس، وتشمل نهاية اسبوع من التدريبات في بيت ساحور، وعبور حاجز حوارة المقام عند مدخل نابلس وفي النهاية ايضاً زيارة الى قرية يانون. قرب باب الأسباط في القدس هنالك نُزُل رخيص بشكل مميز، يشكل معسكرًا مؤقتاً لانطلاق ناشطي الحركة. كما يتجمع هناك ايضًا صحفيون أجانب في طريقهم الى المناطق (الفلسطينية)، ناشطون جدد وصلوا للتوّ من المطار أو من الاردن، وكذلك ناشطون قدامى يستريحون، قليلاً، من ضغط النشاط الخطر في المناطق (الفلسطينية).
في الصباح تتكوم على الشرفة عشرات علب البيرة الفارغة. في المناطق محظور على الناشطين شرب الكحول، احتراماً لمشاعر المسلمين، فيستغلون الاستراحة لاستذكار عاداتهم في الشرب.
متى يُسمح بالتراجع
بسبب الحواجز التي تملأ الطرق يجب السفر بثلاث سيارات اجرة مختلفة للوصول الى الفندق في بيت ساحور، والذي تقام فيه دورة تأهيل اسبوعية للناشطين الجدد. على الجدران في الشوارع ملصقات عن شهيدة جديدة: كريستين سعادة، ابنة الـ 10 سنوات، التي قتلت قبل بدء دورتنا التأهيلية بيوم واحد، بينما كانت مسافرة مع والديها في مركز بيت لحم. سارت خلف سيارتهم سيارة فيها اثنان من ناشطي "حماس"، ومن خلفهم "مستعربون" من جنود حرس الحدود كانوا يتعقبونهما فأطلقوا عليهما الرصاص واردوهما قتيلين. من الرصاص قتلت ايضًا الطفلة كريستين.
في الطريق الى الفندق يذكروننا بضرورة تعديل ساعاتنا اليدوية: السلطة الفلسطينية لم تعلن الانتقال بعد الى التوقيت الصيفي، وفي المناطق، كما في القدس الشرقية ايضًا، يسيرون حسب التوقيت الفلسطيني. المتطوعون الأجانب لا يفهمون لماذا هذا الفرق بساعة واحدة في التوقيت بين اجزاء مختلفة من بلاد صغيرة جداً كهذه. ويوضح سائق سيارة الأجرة ان "حقيقة انتقال الحكومة الاسرائيلية الى التوقيت الصيفي لا ينبغي ان تكون ملزمة لفلسطين ايضاً".
الدورة التي يفترض ان تؤهّل المتطوعين للبقاء فترة طويلة في المناطق تستغرق يومين، يفتتحان بجولة تعارف قصيرة وبمحاولة لوضع اهداف فردية. المتطوعة الأكبر سنا هي جين، ابنة الـ 76 عاما من كندا، التي تنشط ضد السلاح النووي منذ العام 1949 (جميع المتطوعين طلبوا عدم نشر اسمائهم الكاملة، ليوفروا على انفسهم مضايقات شرطة الحدود الاسرائيلية). انها تدرك انه حتى الجندي الأكثر بلادة لا يقوى على الصمود امام مشهد الجدة الطيبة.
اليسون، ابنة الـ 36 عامًا من لندن، تعمل في شركة للحواسيب. جاءت الى هنا لثلاثة اشهر مزودة بكاميرات تصوير وحاسوب محمول، لإرسال تقارير الى الصحافة البريطانية. يانيس، ابن 24 عاما، خرج الى عطلة لثلاثة اسابيع من مصنع لانتاج الشبابيك يعمل فيه في السويد، من اجل الانضمام الى مجموعة الناشطين السويديين في المناطق (الفلسطينية).
جون، عالم اجتماعي من كندا في الـ 50 من العمر، لم يستجب لمناشدة زوجته وبناته اليه البقاء في البيت، بل حضر الى هنا ليكون "حاضرًا في قلب النضال ضد الاستعمار". (هـ) جندي مارينز سابق، وطيار في احدى شركات الطيران الآن، جاء من مدينة اولمبيا في ولاية واشنطن، مدينة ريتشل كوري. ارادت صديقته الانخراط في نشاط الحركة في المناطق لكنه بذل جهدًا كبيرًا ليقنعها بالعدول عن ذلك، خوفًا منه على حياتها. وحين استجابت له، شعر بالحاجة الى الحضور بدلاً عنها.
جنود اسرائيليون كثيرون تعودوا على حضور هؤلاء الناشطين الاجانب في أزقة مخيمات اللاجئين، وفي شوارع المدن وعند الحواجز. حكومة اسرائيل تحاول تصعيب مهمة الدخول عليهم، يتم توقيف العديد منهم للتحقيق، بل ان العشرات منهم ايضاً طُرِدوا. الناشطون يتعلمون من التجربة، يأتون فرادى، بل يجهزون مسبقًا قصصاً للتغطية: اسماء، وعناوين، وتفاصيل حول الهددف من زيارتهم البلاد. اليهود من بينهم يروون عن اقرباء لهم حضروا لزيارتهم (عيد الفصح العبري يشكل ذريعة ممتازة للزيارات العائلية) بينما يصر الآخرون على ان هذه الفترة، رغم كل شيء، ملائمة جدًا لقضاء عطلة في ايلات.
بعد جولة التعارف يبدأ الجميع بترديد "مصطلحات اساسية حول فلسطين"، ذلك ان طروحات (ISM) السياسية لا تعترف بـ "الجدار الفاصل" او "الجدار الأمني"، وانما فقط بـ "جدار الأبرتهايد". بدلا من "جيش الدفاع الاسرائيلي" يجب القول "جيش الاحتلال" او "الجيش الاسرائيلي" فقط، و"الشهيد"، كما هو متعارف عليه في المجتمع الفلسطيني، هو كل من قتل بسبب الاحتلال. بعد ذلك يتعلمون عن تاريخ المنطقة (مائة عام في ساعة واحدة)، نظرية المقاومة بدون عنف (على طريقة المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ)، والثقافة الفلسطينية (اذا كنت رجلا فلا تصافح امرأة، وان كنت مثليّ الجنس فلا تكشف ذلك)، القوانين في المناطق (ملامسة جندي هي سبب كاف للاعتقال) والعمل مع وسائل الاعلام.
مواضيع التعليم كلها تتخللها تمرينات بالمحاكاة، أديت خلالها أدوار جندي في الحاجز، وسيدة فلسطينية حامل، وصحفي معاد وناشط دولي في منزل مهدد بالهدم. التوجيه الأكثر أهمية: لا تركض؛ إن هاجموك فمن الأفضل ان تنبطح، لأن الهرب يجعلك هدفًا متحركًا - مطلوبًا خطيرًا. من المهم الانسحاب والتراجع في ثلاث حالات فقط: "عند نشوب مواجهة بالرصاص بين الجيش وقوى فلسطينية مسلحة، وعندما يطلب منك السكان المحليون المغادرة، وعندما يوحي اليك ربك بأن ثمة خطرًا عليك".
الفلسطينيون يعانون أكثر
المرشدة في الدورة هي ستارهوك، ناشطة سلام ونسوية قديمة، اصدرت ستة كتب تدمج بين الارشاد الروحي والحث على الفاعلية الاجتماعية. "نشأت في عائلة يهودية صهيونية وقضيت صيف سن الرابعة عشرة بتعلم اللغة العبرية في اسرائيل"، تقول ستارهوك، ابنة الـ 51 عامًا من سان فرانسيسكو. "بعد ان بلغت سن الرشد بدأت ادرك ان اسرائيل تختلف عمّا تعلمت. لقد آلمني كثيرًا اكتشاف ان الحلم الكبير ليس حقيقياً. لديّ شعور بأن الاسرائيليين يعتبرون حياة اليهود اكثر اهمية وشأناً، وانا اشعر بأنني، في نشاطي هذا هنا، ارفع ثمن الدم واقلل من مستوى العنف. وهكذا، كما اومن، يسهم تواجدي هنا في الدفاع عن امن اقاربي في داخل اسرائيل".
يبدو لي ان بعض الناشطين يعتبرون السفر الى المناطق (الفلسطينية) عطلة تحدّ في الديار المقدسة.
"أنا أعلم اننا محظوظون بالتواجد هنا دون ان نعرّض انفسنا الى خطر جدي وحقيقي. كان هذا واضحاً حتى مقتل ريتشل كوري، على الأقل. لكن من الصعب وصف النشاط هنا بأنه عطلة. هناك ايام متتالية نقضيها من غير نوم، حيث نقوم في ساعات النهار بمساعدة السكان على كسر الاغلاق ومرافقة الاولاد الى المدارس، بينما نقضي الليل بالسفر في سيارات الاسعاف. مرت ايام كنت اقول في نهايتها: كفى، اريد العودة الى البيت. كنت شاهدة على الكثير جدًا من العنف. انها ليست عطلة حقيقية، لكنها فرصة كبيرة وثمينة حقًا ان تدخل الى بيوت الناس وتتعرف على هذه الثقافة عن كثب".
عشية الحرب في العراق سرت شائعات بأن اسرائيل قد تستغل الفرصة لتنفيذ "الترانسفير"، مما ادى الى تكثيف توافد المتطوعين الى المناطق. الزيادة في عدد الوافدين - بمعدل عشرة متطوعين جدد كل اسبوع - دفعت الحركة الى زيادة وتيرة الدورات.
في ختام يومين مكثفين من التعليم والتدريب، يتم توزيع المتطوعين على مناطق العمل المختلفة التي تنشط فيها حركة ISM: (هـ) الطيار وجون العالم الاجتماعي الى طولكرم، حيث يناضل السكان ضد حملات مصادرة الاراضي لصالح "جدار الأبرتهايد". في السبوع الذي قضياه في طولكرم كانت الحرب في العراق في أوجها، فكان من الصعب على الناشطين جذب اهتمام وسائل الاعلام العالمية الى "الترانسفير المؤقت" لأكثر من 1،000 من الرجال في مخيم اللاجئين.
يانس السويدي أرسل الى جنين، حيث هناك مجموعة من ابناء وطنه. بعد ايام قليلة على مقتل ريتشل كوري اقتحم حوالي 30 جندياً اسرائيلياً مكاتب الحركة في جنين. الناطق الرسمي بلسان الجيش اتهم اعضاء الحركة بأنهم كانوا يؤوون في مكتبهم فلسطينيًا مسلحًا، لكنه عاد واعترف فيما بعد بأن الشاب كان مطلوبًا حقاً، لكنه لم يكن مسلحًا.
بعد اقل من اسبوع على وصوله الى جنين، كان يانس شاهدًا على اصابة زميله برايان ايبري (24 عاما من الولايات المتحدة) بجراح خطيرة. "برايان لم يكن من المفترض ان يتواجد هنا في نهاية هذا الاسبوع، لكنه علق في جنين بسبب الاغلاق"، يقول يانس في محادثة هاتفية معه من جنين. "وصلنا الى مركز المدينة بعد سماعنا اصوات اطلاق نار هناك. قبل بضعة اسابيع قتل الجيش الاسرائيلي فتى في الـ 16 من عمره لأنه رمى الحجارة، بينما اصيب طفل في العاشرة من العمر برصاصة في ساقه. وقد حاولنا منع تكرار ذلك. كنا ستة متطوعين اجانب واضطررنا جميعنا الى رفع ايدينا حين اكتشفنا قبالتنا دبابتين اسرائيليتين واصلتا التقدم نحونا كل الوقت. كان اول المساء، وكان لا يزال هنالك نور، برايان كان يرتدي قميصاً براق اللون، ولم يخطر ببالنا انهم سيشرعون في اطلاق النار، اذ لم يكن في الشارع فلسطينيون البتة.
"حين كنا على بعد حوالي 50 مترا عنهم، اطلقت احدى الدبابتين حواي 15 صلية، وهي كمية غير قليلة اطلاقاً، حتى في مواجهة الفلسطينيين. النيران اطلقت باتجاه الارض فتطايرت علينا احجار مكسرة وقطع زجاجية. بعد ان بدأ اطلاق النار سمعت شخصاً يصرخ. ركضنا نحو برايان الذي اصيب في وجهه، لكن الدبابتين واصلتا التقدم نحونا، فخفت ان يطلقوا النار عليّ انا ايضًا. وجهه كان مضرجًا بالدم، كان المنظر فظيعًا. لم يكن يقوى على الكلام، لكنه تحرك قليلا، فأدركنا انه لا يزال حيا. رافقاه في سيارة الاسعاف لكنهم اوقفونا لأكثر من ساعة ونصف الساعة في جنين قبل ان يسمح لنا الجيش بنقله الى مستشفى اسرائيلي. انه لا يستطيع الكلام الآن، لأن الرصاصة اخترقت لسانه".
ـ هل سألت نفسك إن كنت مستعدًا لدفع هذا ثمناً للهدف الذي جئت من اجله؟
"انا لا اريد ان اعاني هكذا، حتى ولا من اجل الهدف الأكثر نبلا، لكنني اشعر الآن بأن وجودي هنا ربما اكثر اهمية مما كنت اعتقد لدى وصولي. انني لا أزال مصدومًا. لا استطيع فهم السبب الذي جعلهم يطلقون النار. لم يكن لديهم أي سبب لذلك".
جميع الناشطين الذين تواجدوا في المكان لحظة وقوع الحادث يستشيطون غضبًا لرواية الناطقة بلسان الجيش، التي تدعي حدوث تبادل لاطلاق النار مع فلسطينيين مسلحين، وبأن الجنود لم يلاحظوا وجود نشطاء ISM. في نهاية المحادثة يطلب يانس ان اكتب على لسانه الجملة التالية: "واضح لي ان ما امر به هنا، وحتى ما حدث لبرايان، هو شيء لا يذكر بالمقارنة مع ما يتعرض له الفلسطينيون في الحياة اليومية". في الدورة في بيت ساحور علّمونا ان ندس هذه الجملة في اية مقابلة صحفية.
الدور في الحاجز لا يتقدم
تذاكر السفر بالطائرات، كما مصروفات الحياة هنا، يمولها المتطوعون من جيوبهم الخاصة. في منطقة رفح في غزة، التي تعتبر الأرخص تكلفة (شيكل واحد فقط ثمن رغيف الفلافل)، ليست هنالك الآن حاجة الى متطوعين جدد. بعد مقتل ريتشل كوري غادر المنطقة عدد من المتطوعين الذين شاهدوا مقتلها بأمهات أعينهم، ودأبت الحركة على تعزيز ممثليتها هناك. يوم الجمعة الماضي اصيب توم هرندل (24 عامًا من بريطانيا) - وهو ناشط آخر من ناشطي ISM في رفح - برصاصة في رأسه.
بعد الدورة سافرنا، اليسون البريطاني وأنا، الى نابلس، سوية مع ستارهوك، التي تقطن صديقتها الاسرائيلية نيطع غولان هناك منذ سنة. غولان، التي تزوجت من فلسطيني من نابلس، حامل في الشهر التاسع وتريد ستارهوك مساعدتها في الولادة. في نابلس الآن عشرة متطوعين، اثنان منهم يتواجدان على الدوام في منزل مهدد بالهدم ولا يشاركان في الفعاليات اليومية.
في حاجز حوارة، عند مدخل نابلس، يقف جنديان يتفحصان السيارات التي تبغي الدخول الى المدينة، وحوالي مائة فلسطيني يقفون صامتين ساعات طويلة في الدور الذي لا يتقدم. بعد نصف ساعة ايقنت اننا اذا لم نتجاوز الدور ونطلب من الجنود السماح لنا بالعبور، فسنبقى في الحاجز حتى يحل الظلام. بعد ان عبرنا، سمعت الجندي ذا العينين الزرقاوين من تحت الخوذة يصرخ على الفلسطينيين: "هل هذا بيت عاهرات هنا؟ سأفجر أدمغتكم ان تحركتم". عثر على من يتحدث العبرية بينهم فطلب منه ان يترجم لهم ما قاله. وحين تلكأ "المترجم" صوّب الجندي فوهة بندقيته الى رؤوسهم، لكي يوصل الرسالة لهم.
في الطريق الى فندق ياسمين في المدينة، حيث يعقد لقاء طارىء لناشطي ISM ، يطلبون مني اخفاء هويتي القومية وانتحال هوية صحفي يوناني. اتضح انني نجحت في الدخول الى نابلس بفضل سوء فهم في الحركة، خلافاً لقرار بعدم تمكين الاسرائيليين من الانخراط في نشاط المتطوعين في المناطق. على الرغم من الانفتاح الأساسي والرغبة في الاستعانة بأية جهة كانت، الا ان الناشطين الفلسطينيين غير مستعدين، او غير قادرين، على ضمان أمني الشخصي.
"الوضع في نابلس صعب"، يقولون، "وليس كل الناس يستطيعون التمييز بين الجنود وبين الاسرائيليين الذين يأتون للمساعدة".
الناشطون كلهم يجتمعون للبحث في موضوع تواجدي في المدينة. أي قرار يتخذ في الحركة يستلزم الموافقة الكاملة، مما يضمن بحثًا مطولا في قضيتي. احدى الناشطات المركزيات هي مواطنة اسرائيلية، بالذات. انها نيطع غولان التي اشتهرت اثر نجاحها في الدخول الى منطقة المقاطعة في رام الله حين كان رئيس السلطة، ياسر عرفات، محاصراً هناك. وعلاوة على الحمل، عليها ايضاً مواجهة التحقيقات والمحاكمة: السلطات الاسرائيلية تحظر على الاسرائيليين الدخول الى مناطق A دون إذن من الجيش. وحقيقة كون زوجها من سكان نابلس لا تعفيها من هذا الحظر.
غولان كانت مرشدة كوري في الدورة التي تعلمتها في بيت ساحور لدى وصولها الى البلاد قبل ثلاثة اشهر. "كل الاشخاص الذين تواجدوا هناك، بجانب الجرافة، يقولون ان لا شك لديهم اطلاقاً بأن الجندي رآها قبل ان يصيبها. من الصعب على الاسرائيليين تصديق ان اسرائيلياً آخر يمكن ان يفعل هذا. كان من الصعب علي انا ايضًا. قبل سنة قالوا لي ان الجيش الاسرائيلي قتل طفلا وهو في طريقه الى الدكان في مخيم بلاطة للاجئين. اذكر انني قلت في نفسي: "هذه جريمة قتل، لكنه بالتأكيد قد رمى حجراً في طريقه الى الحانوت". كان علي ان اجد مبررًا لذلك. قبل بضعة اشهر انهار سور الدفاع هذا لديّ".
وفيما هي تتكلم، تثور، اقترب منا النادل فصمتت. "لا اريد اخافته باللغة العبرية التي نتكلمها"، تقول موضحة. غولان تتكلم العربية بطلاقة وكثيرون في نابلس يحسبونها "أممية" (من الناشطن الدوليين). "يخيل الي ان شيئاً ما في داخلك يموت، او ينطفىء، حين تكون في مثل هذه الحالات التي يمر بها الجنود. ارى فتياناً في بدايات خدمتهم العسكرية، ثم ارى ما يحدث لهم بعد بضعة اشهر. حين اتوقف عند حاجز عسكري نصف ساعة وأكثر، أشعر بأنني سأنفجر، والجنود يقفون هناك يومياً. فما بالك بجندي يقود جرافة لا مهمة لها سوى هدم بيوت تسكنها عائلات. في رفح لا يبلّغون بنية الهدم. أمر الهدم يمثل حقيقة ان صفّ البيوت التي امامك قد زال. في غزة، خلافاً لما هو في الضفة، ليس هنالك أي اتصال بين الجنود وبين بني البشر. انني ارى هذه السيرورة التي يرفع فيها الناس اسوارًا من حولهم ويقنعون انفسهم بأن الناس الذين من حولهم حيوانات".
دمنا أغلى
يبدو ان موت ريتشل كوري والاصابات الاخرى التي لحقت بالناشطين منذ ذلك الحين، ادت الى انهيار المفهوم الذي قام عليه نشاط ISM، والقائل بأن الجنود لن يجرؤوا على المس بمواطنين أجانب. "كان واضحاً لي ان هذا سيحدث في وقت ما"، تقول نيطع غولان. "الاحتلال يعمل على اساس منظومتين قيميتين متوازيتين، لكنني لا اومن بأن هذا يمكن ان يستمر الى الأبد. لا يمكن ان يتعامل الاسرائيليون مع الاسرائيليين باحترام، في الوقت الذي يحدث فيه ما يحدث في المناطق. من الواضح اننا نستغل ان "دمنا أغلى"، لكن يتضح ان هذا لا يمكن ان يستمر طويلا. الفرق الاساسي هو انه حين يكون العنف موجهاً ضد اسرائيليين او ضد مواطنة امريكية، فجأة الكل يسمع عنه. هذا هو الفارق كله".
يدخل ناشط فلسطيني ويروي عن العملية التي وقعت في نتانيا. معنى ذلك في نابلس هو الخروج الفوري الى جولة مشتريات تحسباً من كون منفذ العملية من سكان المدينة، او انطلق منها، الأمر الذي يعني لسكانها اخضاعهم لحظر تجول متواصل. اخرج انا الى جولة مع (م) في سوق المدينة، فأكتشف ان السوق يعج بالمواطنين. تعرفت على (م)، وهو محام في الـ 25 من العمر، في اللقاء اياه في "نفيه شالوم" ومنذ ذلك اللقاء نتكاتب بالبريد الالكتروني. الأزقة في قصبة نابلس، مسقط رأسه، تبدو كأنها نسخة طبق الأصل عن الأزقة في البلدة القديمة من القدس. بعض المنازل، ومنها ما عمره اكثر من الف عام، تم هدمها في عملية "السور الواقي".
قبل اندلاع الانتفاضة الحالية كانت السلطة الفلسطينية تخطط لاجراء ترميم واسع في المدينة وتجهيزها للزيارات السياحية. الآن تغطي صور الشهداء الجدران. مقابل المخبز الكبير علقت صورة كبيرة لياسر عرفات وصدام حسين، بالبزة العسكرية. في ساعات الظهر يتجمع بضعة الاف من الشبان في الساحة المركزية في المدينة لاحياء ذكرى يوم الارض والتضامن مع الشعب العراقي. "لم أنم منذ اسبوع، أشاهد التلفزيون طوال الليل"، يقول سائق سيارة الاجرة في طريق العودة الى حاجز حوارة. ابنتاه تعيشان في بغداد. "قبل بضع سنوات سافرت الى بغداد للعلاج عند ابنتي، وهي طبيبة اسنان ولها عيادة خاصة. من يعرف ماذا سيتبقى من بغداد. من يعرف ماذا سيتبقى من أحفادي".
يقول (م) ان الاوضاع في نابلس هادئة منذ بدء الحرب. "منذ ثلاثة اسابيع والمدينة تخضع لحظر التجول الليلي. كل يوم نرى دبابة تمر في المدينة، لكننا تعودنا على ذلك. هذا الاسبوع نحيي ذكرى مرور عام على الاغلاق. كانت هنالك فترة استمرت 160 يومًا متتالياً من الاغلاق. المرة الأخيرة التي خرجت فيها من نابلس كانت لذلك اللقاء في "نفيه شالوم"، والمرة القادمة التي سأخرج فيها ستكون لالتقاء يهود ايضًا". اما خطيبته، بالمقابل، فلم يرها منذ سنة كاملة. "انها تسكن في القدس ونحن نتكاتب كثيرًا بالانترنت. الآن اصلي فقط من اجل ان تتحسن الاوضاع لكي استطيع رؤيتها ثانية".
يسأل (م) اليسون، التي جاءت من لندن لقضاء ثلاثة اشهر في نابلس، عن شعورها في اعقاب مقتل كوري. "كنت اعلم ان ثمة مخاطر هنا، قبل حضوري وقبل ان تدهسها الجرافة"، تجيب. "لقد سألت نفسي عن احتمال موتي هنا وكيف اشعر ازاء ذلك. ريتشل ماتت من اجل شعب آخر، ليس من اجل شعبها هي، ولذلك اشعر وكأنها ماتت من اجل العدل".
اليسون، كاثوليكية متعصبة، تقول انها لم تكن ناشطة سياسية في الماضي. "هذا مضحك، لكن الاسرائيليين بالذات جعلوني احاول مساعدة الفلسطينيين. كنت في اسرائيل في اطار عملي، فبدأ الاسرائيليون الذين كنت اعمل معهم يشرحون لي ان "العرب مثل الحيوانات". هذه العنصرية دفعتني الى طرح الاسئلة حول النزاع هنا، والذي لم اكن اعرف عنه شيئاً من قبل. الاسئلة قادتني الى الحاجة الماسة للتحرك".
هل انت يهودي؟
قبل حلول الظلام يطالبني اجتماع ISM بمغادرة المدينة. كذلك يتصل صديق (م) به ويبلغه بأن الشائعة عن وجود اسرائيلي في المدينة قد انتشرت، ومن الأفضل ان اغادر في اسرع وقت ممكن. في حاجز حوارة أتجاوز، مرة أخرى، طابورًا يقف فيه حوالي 200 فلسطيني يريدون الخروج قبل ان يبدأ حظر التجول الليلي على المدينة. من نابلس اسافر الى قرية يانون، التي ّ لفتت انتباه وسائل الاعلام قبل خمسة اشهرعندما هجرت بضع عائلات منازلها جراء اعتداءات المستوطنين وتهديداتهم.
الطريق من نابلس الى يانون تستغرق ربع ساعة في الفترات العادية، لكن السكان في المناطق نسوا منذ زمن متى كانت الفترات العادية هذه. الشارع مغلق والسفر في الطرق الالتفافية يستغرق ساعتين ونصف الساعة في سيارة اجرة فلسطينية. هنا ايضًا لا مهرب من الحواجز. اربعة جنود من حرس الحدود اقاموا حاجزًا ارتجاليًا على طريق جانبية، يستوقفون سيارة الاجرة. احد الجنود يصوب فوهة بندقيته الى رأسي. سائق السيارة يشرح له انني "اممي". انا اضطر الى الاعتراف بأنني اسرائيلي.
الجندي، الدرزي، لا يزيح بندقيته عني. "انت يهودي؟" يصرخ علي. بطاقة الهوية الزرقاء ايضا لا تنقذني من الاهانة والاذلال المتمثلين بالقاء كل محتويات حقيبتي على المقعد الخلفي في السيارة. لاحقا، يوبخني السائق، سعيد، لأنني كذبت عليه بشأن اسمي وهويتي، ولأنني اضطررته الى التحدث معي بالانجليزية، بدل العبرية التي يتقنها جيدًا. لقد عمل في اسرائيل سنوات طويلة وهو مستعد للتنازل عن حلم الدولة الفلسطينية مقابل اعادة الوضع الى سابق عهده، قبل الانتفاضة.
نيطع غولان، لمن يهمه الأمر، وَلدت في هذه الاثناء. اسمت ابنتها "نوال"، التي تعني ـ حسبما قالت ـ امنية غالية تحققت.
اوري ايلون ( هآرتس ـ 18/4)