(*) "راحت السكرة وجاءت الفكرة"- هذا ما ينطبق على الحالة الإسرائيلية الآن، بعد أيام معدودة من منح الضوء الأخضر للإدارة الأميركية أن تعمّم على الملأ الصور عن "المفاعل النووي السوري"، الذي كان في طور البناء بمساعدة كوريا الشمالية، وزعمت إسرائيل أنها استهدفته في الغارة الغامضة التي شنتها على سورية في أيلول 2007.
وإذا ما نحيّنا جانبًا ردة الفعل السورية على هذا الاختراق الفظّ والمعلن لسيادتها، فإن "الفكرة" التي بدأ معظم المعلقين والمحللين الإسرائيليين العسكريين والأمنيين بتداولها، في الآونة الأخيرة، تتضمن جانبين اعتبرا شديدي الخطورة في قراءتهم.
الجانب الأول- الضرر الفادح الذي لحق بـ"قدرات إسرائيل الاستخبارية". والجانب الثاني يتعلق بـ"قوة الردع الإسرائيلية"، التي لم تُضف إليها هذه الغارة جديدًا يُذكر في عُرف البعض، منذ أن استبطن الجميع أو كادوا يستبطنون صيرورة تآكل هذه القوة شبه المطلق، على ضوء النتائج الحقيقية لحرب لبنان في صيف 2006.
ولقد بدا أنّ المعلق العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، كان الأشدّ وضوحًا في التعرّض إلى الجانب الأول، حين أكد أن ما أقدمت إسرائيل عليه أقرب إلى "التجرّد الاستخباري" [إستربتيز].
ومما كتبه في توضيح أبعاد مقصده، يوم الأحد- 27/4/2008، ما يلي: أثار شكل ونطاق النشر في وسائل الإعلام عن الموقع السوري [الذي تعرّض للقصف في أيلول 2007] الغضب العارم لدى جهاز الأمن والجيش الإسرائيليين، نظرًا لما ينطوي عليه ذلك من كشف للقدرات الاستخبارية السرية. ولا تكمن المشكلة في الصور التي التقطت من الجوّ أو من الفضاء، وإنما في الصور التي التقطت داخل الموقع أو من حوله. ولا يدور الحديث على صور من الأرشيف، وإنما على صور التقطت، على ما يبدو، قبل نحو عام أو ربما أكثر.
إن من التقط هذه الصور هو شخص أو ربما أشخاص من داخل الموقع أو حوله. مع ذلك لا يهم بتاتًا من التقط الصور، لأن المهم في واقع الأمر هو أنها تكشف عن قدرات وعن مصادر. إن ما حدث هنا هو كشف محتمل عن وجود ثغرة في عمل منظومة الحراسة والاستخبارات السورية. ولا شك في أن السوريين قد بدأوا، منذ اللحظة التي نُشرت فيها هذه الصور، ببذل كل ما في إمكانهم من أجل تحديد هذه الثغرة والقضاء عليها.
وأضاف: إن سورية هي عدو مرير، والقدرة على التغلغل إلى قلب أسرارها هي رصيد وطني لا يقدّر بثمن، وربما لا يوجد بديل له. إن مجرّد الحديث عن هذه القدرة يمكن أن يلحق الضرر الكبير بها، فما بالك بوضع يتم فيه نشر منجزاتها على مرأى العالم أجمع؟.
وقال فيشمان، في الختام، إن جميع الحجج التي قد تلجأ إسرائيل إليها لا تبرّر المسّ بهذا الرصيد الوطني الاستخباري. لقد كان في إمكان إسرائيل، إذا ما حصلت بنفسها على هذه الصور فعلاً، أن تريها للأميركيين فقط لا أن تسلمها لهم.
أمّا فيما يتعلق بالجانب الثاني- قوة الردع الإسرائيلية- فقد اعتبر معلق الشؤون الأمنية في صحيفة "هآرتس"، أمير أورن، يوم الاثنين- 29/4/2008، أنه على إثر ما كشف عنه المسؤولون الكبار في إدارة جورج بوش، في نهاية الأسبوع الفائت، هناك شك كبير في مدى صدقية قيام إسرائيل بقصف المفاعل السوري، في ضوء كون سورية لا تزال بعيدة للغاية عن التزود بالسلاح النووي. وأضاف أن النتيجة المطلوب استخلاصها من ذلك هي أن مبادرة إسرائيل إلى مهاجمة المفاعل [السوري] حتى من قبل أن يتزود بالوقود ويبدأ العمل تزيد من ضعف قوة ردعها عامة وإزاء إيران خاصة.
ومضى موضحًا: إذا كانت إسرائيل قد سارعت إلى قصف مفاعل نووي في سورية قبل تفعيله، كما سبق أن فعلت في العراق [سنة 1981]، فهذا يعني أنها ترتدع، على نحو دائم، من مهاجمة مفاعلات بدأت تعمل، سواء أكان ذلك بسبب الخشية من حدوث إشعاعات نووية تلحق الضرر بالسكان الأبرياء، أو بسبب عدم الرغبة في توفير ذريعة قوية لمهاجمة ديمونه [المفاعل النووي الإسرائيلي]. وإذا كانت هذه هي السياسة الإسرائيلية ففي إمكان إيران أن تكون هادئة لا أن ترتدع، لأن مفاعلاتها النووية تعمل فعلاً.
وعلى سيرة "قوة الردع الإسرائيلية" وما أحاق بها نتيجة الحرب على لبنان، يجدر أن نستعيد أن أحد الخبراء الإسرائيليين [البروفسور غابي شيفر] أكد أن إسرائيل لا تمتلك قدرة ردع منذ عشية حرب حزيران 1967. فقد اندلعت هذه الحرب على الرغم من الإنجاز الإسرائيلي في الحرب التي سبقتها [حرب السويس في سنة 1956]. كما أن حرب الاستنزاف، في أواخر ستينيات القرن العشرين، اندلعت على الرغم من الإنجازات الإسرائيلية العسكرية في حرب حزيران. وينسحب هذا الحكم على حرب أكتوبر 1973، وعلى ما تلاها من حروب ومواجهات مع منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله، وصولاً إلى حرب لبنان الثانية. كما أنّ اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن لم تكونا حصيلة قوة الردع العسكرية الإسرائيلية، في رأي هذا الخبير. علاوة على ذلك كله "فإن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي لا يردع أعداءها" قطّ، على حدّ تعبيره.
على الرغم من ذلك لا تزال المؤسستان السياسية والأمنية في إسرائيل تلهثان وراء قوة الردع العسكرية. بل يمكن القول، من دون خشية الوقوع في المبالغة، إنهما ستظلان منهمكتين بهذا اللهاث حتى إشعار آخر. يبقى السؤال الذي ما من جواب جاهز عنه بعد هو: كيف سيتحقق ذلك؟ وهل سيتحقق أصلاً؟.