المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

* ليست هذه هي المرّة الأولى التي تتواطأ فيها وسائل الإعلام الإسرائيلية مع المؤسستين السياسية والعسكرية، ولا تنشر مباشرة ما لديها من معلومات، لكنها في المقابل أخذت على عاتقها مهمة التلميح للجمهور العام بأن "شيئا ما كبيرا قد حصل" ولم تعد العملية العدوانية هي مركز النقاش وإنما "الصمت الرسمي وتواطؤ الإعلام معه" *

واصل ساسة إسرائيل وقادتها العسكريون الحفاظ على صمت مطبق في ما يتعلق بالغارة التي نفذتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على شمال سورية، في السادس من الشهر الجاري، أيلول/ سبتمبر، على الرغم من زخم ما نشر في وسائل الإعلام العالمية حول طبيعة هذه الغارة وهدفها.

إلا أن من يتابع وسائل الإعلام الإسرائيلية، وخاصة ما يكتبه المحللون الإسرائيليون البارزون في هذا الملف، يخرج بانطباع أن إسرائيل الرسمية تركت لمحلليها، صناع الرأي، مهمة "الاعتراف الضمني"، بهذه العملية العدوانية، ليس تجاه العالم، بل بالذات تجاه الشارع الإسرائيلي.

لقد ادعى المحللون الإسرائيليون في كتاباتهم أن الكثير من التقييدات فرضتها عليهم الرقابة العسكرية، "ولم يبق أمامهم تجاه القراء سوى تركيب جزيئات الصورة لمعرفة ما جرى"، ولكن في الحقيقة فإنه لدى جمع مقاطع من سلسلة المقالات التحليلية الإسرائيلية يتأكد لنا هذا الشكل من الاعتراف الضمني الإسرائيلي.

بعد يومين من إعلان سورية عن أن دفاعاتها الجوية تصدت لطائرات إسرائيلية، نشر المحلل السياسي البارز في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ألوف بن، مقالا امتدح فيه الصمت الإسرائيلي وكتب بن "إن الصمت الرسمي الذي تتبناه القيادتان السياسية والأمنية الإسرائيلية حول ما جرى في سورية، يدل على ثقة بالنفس، فعلى الرغم من تردي وضعية رئيس الحكومة (الإسرائيلية) إيهود أولمرت في استطلاعات الرأي، وعدم اتساع شعبية وزير الدفاع إيهود باراك، إلا أنهما لا يسارعان للتحدث في هذه القضية".

وفي هذا رسالة واضحة للشارع الإسرائيلي، بأن الاثنين "يضحيان" بإمكانية كسب أوراق وزيادة شعبيتهما "من أجل مصلحة الوطن"، خاصة وأنه في نفس اليوم الذي صدر فيه هذا المقال، صرح رئيس الحكومة أولمرت أمام الصحافيين لدى افتتاح جلسة حكومته الأسبوعية قائلا "إنني أكن التقدير لعناصر الجيش الإسرائيلي وضباطه، الذين ينفذون عمليات شجاعة، وليست عادية، ودون توقف للحظة واحدة، إنها عمليات بطبيعة الحال ليس بالإمكان دائما الكشف عن أوراقها أمام الجمهور، هناك الكثير من العمليات التي تنفذها إسرائيل ضد قادة التنظيمات "الإرهابية"، وهذه العمليات ستتواصل دون تردد".

وقال المحلل السياسي روني سوفير، في مقاله على موقع الانترنت "واينت"، التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، في نفس اليوم، إن الصمت الإسرائيلي على ضوء "الحادثة" في سورية يتواصل، لكن من الممكن أن يكون في كلمة أولمرت أكثر من تلميح، بإرساله تحيات حارة للجيش الإسرائيلي.

غير أنّ "إعجاب" المحللين الإسرائيليين بالصمت الإسرائيلي لم يتوقف، حتى بعد غياب ثلاثة أيام للصحافة الإسرائيلية، بسبب عطلة رأس السنة العبرية ويوم السبت، لتصدر في مطلع الأسبوع بسلسلة من التقارير التي "تنقل" ما نشر في وسائل الإعلام العالمية، والى جانبها سلسلة مقالات تتحدث عن تصرف ساسة إسرائيل وعسكرها.

وتحت عنوان "الصمت فعال"، كتب المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ألوف بن، "إن التقارير في وسائل الإعلام الأجنبية، التي تزايدت في الأيام الأخيرة، حول عملية سلاح الجو (الإسرائيلي) في سورية، لم تكسر الصمت الإسرائيلي الرسمي حول القضية، كما لا توجد مؤشرات إلى أن هذا الصمت سيزول".

ويتابع بن "بإمكان إسرائيل أن تسجل لصالحها التجاهل التظاهري من قبل الحكومات الهامة في العالم للادعاءات السورية، فالأوروبيون الذين يسارعون لاستنكار كل ضربة إسرائيلية ضد الفلسطينيين، تجاهلوا الغارة الليلية لسلاح الجو (الإسرائيلي) في عمق الأراضي السورية".

وجاء في نفس المقالة: "إن الدعم الصامت الذي تلقته إسرائيل يدل على أنه من المريح للحكومات أن لا تقرأ الصحافة وتتجاهل نشرات الأخبار، وإسرائيل لم تثرثر، وبهذا أبعدت عن نفسها بيانات الاستنكار، كما جرت العادة، باعتبار أنها دولة عدائية وخارقة للقانون، وما كان لأي حملة إعلامية إسرائيلية لعرض سورية كعضو في محور الشر، أن تحقق نتائج كالنتائج الحاصلة الآن"، بفعل الصمت الإسرائيلي.

ويقدر بن وجود تنسيق وثيق جدا بين إسرائيل والإدارة الأميركية، "فعلى أي حال ليست لدى الإدارة الأميركية أية مشكلة إزاء الادعاءات السورية بشأن العملية السورية"، حسب الكاتب.

وفي هذا المجال فإن المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، كتب في مقال مطول له، "إنه ليس فقط في إسرائيل تم فرض رقابة (عسكرية) كاملة على القضية، فالإدارة الأميركية تتخذ إجراء مماثلا، والمعلومات التي تصل إلى كبار المسؤولين في المستويات المختلفة في الإدارة الأميركية محدودة جدا".

ويسأل فيشمان: "هل حقيقة أن الحكومتين الإسرائيلية والأميركية تفرضان تعتيما مطبقا على نفس القضية هو من قبيل الصدفة؟ ليس واضحا".

ويؤكد المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، عاموس هارئيل، وجود تقييدات تفرضها الرقابة العسكرية الإسرائيلية على كل ما ينشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية، "التي لم يعد بإمكانها سوى أن تستعرض ما جاء في وسائل الإعلام الأجنبية"، وهذا بتلميح واضح إلى أن في حوزة المحللين الإسرائيليين ما يكشفون عنه، لكنهم ممنوعون من هذا.

ويكتب هارئيل "تحت هذه التقييدات القاسية، لم يعد بإمكان وسائل الإعلام الإسرائيلية تجاه قرائها، سوى أن تحاول تركيب جزيئات الصورة الكاملة اعتمادا على ما ينشر في الصحافة الأجنبية".

ويكرر هارئيل هنا المزاعم بأن سورية تنشط بمساعدة كوريا الشمالية لإقامة مشروع نووي، ويكتب، "إن الصمت الإسرائيلي يثبت نفسه مرحليا، فالصحافة الأميركية تقدّر بأن الصمت الإسرائيلي بعد الغارة على سورية نابع من محاولة إبعادها عن استنكار الأسرة الدولية لعمليتها".

ويشير هارئيل إلى أنه على ضوء التهديدات السورية بأنها سترد على الغارة الإسرائيلية، فإن التوتر على الحدود مع سورية مستمر، "رغم أن سورية لم تتخذ بعد أي إجراء كرد على العملية، ولكن حقيقة أنه مرّت 10 أيام على العملية لا تمنع حالة الترقب الإسرائيلية لأي رد سوري".

... وسلسلة من التلميحات

بعد يوم من هذا الكم من المقالات نشر الكاتب شلومي برزيل، أمس الاثنين، مقالا يحاول فيه الدفاع عن موقف الصحافة الإسرائيلية في تلميح واضح إلى أن تصرفها فيه نوع "من المسؤولية"، وهي رسالة أخرى تقول للشارع الإسرائيلي إن ما لديكم من معلومات صحيح، وليس بالإمكان الحديث عنها جهارًا.

ويكتب برزيل: "من السهل الادعاء بأن الصحافة الإسرائيلية خانت وظيفتها، حين لم تكافح قرار الرقابة منع نشر فوري وشامل عن العملية، التي نفذها الجيش في سورية حسب ما ينشر في وسائل إعلام أجنبية... ها هو قد حدث أمر، وقد يقود إلى حرب ولكن الصحافة صامتة، وهذا الصمت يخلق حيرة ومعضلة في وسائل الإعلام الإسرائيلية".

ويضيف برزيل أنه على ضوء ما ينشر في وسائل الإعلام العالمية تجد الصحافة الإسرائيلية نفسها أمام ثلاث إمكانيات "إما أنها لا تعرف ما جرى في دولتها، أو أنها تعرف ولكنها، حاشا وكلا، تتعاون مع الحكومة، أما الإمكانية الثالثة فعلى ما يبدو تم نسيانها، وقد تكيل المديح بسببها لوسائل الإعلام المحلية (الإسرائيلية)، وهي أن وسائل الإعلام هذه وبكل بساطة أظهرت مسؤولية، فهي تعرف ما جرى، وتم إبلاغها بذلك، وعلى الرغم من هذا فقد اقتنعت بأن من الصحيح الآن أن تصمت خدمة لمصلحة إسرائيل، فلربما أنها أخطأت، لكن يخيل لي أن الحديث يجري عن قناعة عميقة بالقرار، أكثر من أن يكون أمرًا مفروضا عليها من فوق".

وجاء في مقالة برزيل: "ممنوع على وسائل الإعلام أن تقبل إملاءات الرقابة، وممنوع أن تقبل أي ادعاء بأن الصمت أفضل لها، لكن في نفس الوقت ممنوع عليها أن تعمل بشكل أوتوماتيكي، والادعاء بأن كل شيء صالح للنشر".

ويدافع برزيل عن انتقاد دور الصحافة الإسرائيلية في هذه القضية، وعلى ما يبدو يرد على مقالة الصحافي جدعون ليفي، التي نختتم بها هذه المعالجة، ويكتب: "إن النشر في وسائل الإعلام لن يقود الدولة إلى حرب، كما يدعي البعض، ولكن بالإمكان أن نرد عليهم بالقول إن النشر لا يمنع وقوع حرب... 11 يوما بعد تلك العملية، يخيل أن قرار الصمت أو على الأقل السيطرة على سيل المعلومات أثبت نفسه بأنه كان صحيحا".

ويختتم برزيل مقاله كاتبا: "لا ينبغي أن نشكر فقط صحيفة واشنطن بوست، بل أيضا وسائل الإعلام المحلية التي قدمت، تمشيا مع تقييدات الرقابة، معلومات خدمت مصلحتها ومصلحة إسرائيل، وهذا لا يحدث كثيرا".

لكن على ما يبدو هناك من قرر تقديم مؤشرات أخرى للغارة العدوانية على سورية، فيوم الأحد من هذا الأسبوع، (16 أيلول/ سبتمبر) قدم رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، الجنرال عاموس يدلين، تقريرا دوريا أمام اللجنة البرلمانية للشؤون الأمنية والخارجية، تحدث فيه عن "التحديات" التي تواجهها إسرائيل في هذه المرحلة، إن كان أمام الفلسطينيين، أو على الحدود مع سورية ولبنان، أو في الملف الإيراني.

وخلال سير الاجتماع المغلق كليا "اهتمت جهة ما" أن تبلغ المراسلين أن يدلين أراد إبلاغ أعضاء اللجنة بالتطورات أمام سورية، إلا أن رئيس اللجنة تساحي هنغبي رفض ذلك، وطلب منه أن يقدم تقريره هذا أمام اللجنة المقلصة لشؤون الاستخبارات.

لكن بعد الاجتماع، تم الإعلان عن أن يدلين أبلغ اللجنة بأن قوة الردع الإسرائيلية تعززت أمام سورية وإيران.

كما أنّ المحلل العسكري في القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي أراد، على ما يبدو، تقديم إثبات آخر على الغارة الإسرائيلية، وقال "إن أولمرت لم يتخذ قرار الغارة لوحده"، مذكرا بأن اللجنة الوزارية المقلصة للبحث في الملف السوري عقدت، حتى مطلع الشهر الجاري، ستة اجتماعات خلال خمسة أسابيع، في تلميح واضح إلى ما كان يدور في هذه الاجتماعات.

ومن الملفت للنظر أن هذه الاجتماعات عقدت في فترة كثر الحديث فيها عن احتمال استئناف العملية السياسية مع سورية، والسعي إلى تخفيض حدة التوتر العسكري عند خطوط المواجهة في هضبة الجولان السورية المحتلة.

خارج السرب

كالعادة فإن الصحافي التقدمي جدعون ليفي بقي خارج السرب، فقد نشر مقالا في صحيفة "هآرتس"، وجه فيه انتقادا حادا لوسائل الإعلام الإسرائيلية (مقال برزيل السابق ذكره يرد عليه).

وكتب ليفي: "إن الدمج بين قرابة جارفة وصحافة لا تحارب على حرية المعلومة هو أمر خطير، إسرائيل قصفت أو لم تقصف، فمن يعلم، لم يبلغوا الجمهور بأي شيء، وكل شيء سري، من دون أية رقابة، لقد أمروا الجمهور بأن يصمت، وأن يدعم بشكل أعمى حكومته وجيشه، مهما يكن، إن هذا وضع لا يمكن تحمله بأي حال من الأحوال، ولكن على ضوء الظروف الخاصة للحادث في سورية، فإن هذا يجعل الأمر أكثر خطورة (الصمت)".

ويتابع ليفي أن التفسير لهذا الصمت المدوي بأنّ إسرائيل لا تريد إحراج سورية وجرها إلى حرب، هو تفسير غريب... فسورية ترد أو لا ترد على إسرائيل، لا بسبب ما ينشر وإنما بسبب العملية ذاتها، فالنشر لا يجر دولة إلى شنّ حرب.

ويختتم ليفي مقاله قائلاً "إن الصحافة الإسرائيلية سلمت نفسها للحاجز الدخاني من دون قيد أو شرط، وليس من وظيفة الصحافة أن تأخذ بالحسبان بأن نشرها قد يقود إلى حرب، وإنما وظيفتها هو إبلاغ الجمهور، أو على الأقل ان تحارب من أجل هذا، ولهذا فإن الصحافة الإسرائيلية خانت وظيفتها..."، وهنا يجب شكر واشنطن بوست التي قدمت لنا المعلومات، على حدّ تعبيره.

وفي المجمل العام فإن الاهتمام الإسرائيلي الداخلي لم يعد ماذا كان هدف الغارة، فربما هذا "تفصيل" سيأتي في حينه، وإنما كيف تصرف قادة إسرائيل السياسيون والعسكريون في مهمة كهذه؟ وقد يكون ذلك هو أوراق يلوح بها أولمرت في لحظة ضيق سياسي تواجهه مستقبلاً، مذكرا بصمته "من أجل المصلحة الوطنية".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات