المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تحليل أخباري
  • 1227

 

 * تهافتت جلّ التعليقات الإسرائيلية، سواء التي كتبها معلقون ومحللون سياسيون أو عسكريون، على ترجيح عامل الحذر الشديد من الغرق في "صدمة" حرب لبنان الثانية على سائر العوامل التي تقف خلف القرارات الإسرائيلية الرسمية بشأن كيفية الردّ على إطلاق صواريخ "القسّام" من قطاع غزة صوب بلدة سديروت ومحيطها. وخصوصًا في أعقاب الاستنتاجات، الصافية والصريحة، التي توصل إليها التقرير الجزئيّ (المرحليّ) للجنة فينوغراد.

 

 وقد ذهب المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس"، ألوف بن، إلى حدّ القول إنّ أبحاث الحكومة الإسرائيلية في هذا الشأن عادة ما تكون ممزوجة بـ"عصير فينوغراد". ورغم ذلك فقد أدى تلهّف رئيس الحكومة والوزراء لتوفير غطاء ذاتي إلى نسيان الاستنتاج الرئيس للجنة فينوغراد، وهو أنه لا يجوز الاكتفاء بالحلّ ذي البعد الأحادي الجانب عند اتخاذ القرارات بشأن الحرب والسلام، ويجب البحث في بدائل أخرى ("هآرتس"، 17/5/2007).

 

إنّ البحث في "بدائل أخرى" يستدعيه أيضًا الإقرار، الذي يكاد يحظى بإجماع إسرائيلي، بأنه لا يوجد ولن يوجد حلّ عسكريّ لتهديد الصواريخ القصيرة المدى- أي صواريخ القسّام في غزة وصواريخ الكاتيوشا في جنوب لبنان. وإذا كان ذلك غير كاف، "فلا يوجد ولن يوجد حلّ ناجع للأنفاق التي يتم حفرها تحت الحدود مع قطاع غزة وتحت الحدود الإسرائيلية- اللبنانية وربما تحت جدار الفصل في الضفة الغربية أيضًا"، على ما يؤكد المعلق العسكري أليكس فيشمان ("يديعوت أحرونوت"، 10/5/2007). وهو يضيف أن هذه الأحكام الإطلاقية ليست نبوءة غاضبة، بروح تقرير لجنة فينوغراد، وإنما هذا هو ما يتبين أيضًا من أحدث تقرير صادر عن مؤسسة مراقب الدولة الإسرائيلي.

 

وقد أقرّت خلاصة تقرير مراقب الدولة المشار إليه، التي أجيز نشرها بعد أن خضع هذا التقرير بدوره للرقابة العسكرية الصارمة، بوجود "فشل مستمر في معالجة مشكلة الأنفاق". أمّا بشأن الصواريخ القصيرة المدى فقد جاء فيه "حتى كانون الأول 2005 لم تكن لدى الجيش الإسرائيلي قدرة عملانية على إسقاط الصواريخ، بما في ذلك صواريخ القسّام".

 

وثمة، في موازاة الإجماع المذكور أعلاه، إجماع إسرائيلي آخر على "وجود تقصير في معالجة المؤسسة الأمنية للتهديدات الإستراتيجية"، وفي مقدمتها الصواريخ القصيرة المدى، كما أظهرت ذلك حرب لبنان الثانية مثلاً.

 

غير أنّ المداولات الجارية فيما يتعلق بالموقف المطلوب اتخاذه إزاء الصراع في غزة، تعيد إلى الصدارة أيضًا مسألة ماهية العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل. وتتبدى، يومًا بعد يوم، المزيد من التفاصيل التي تعتبر مثيرة في هذا الموضوع.

 

من ذلك، مثلاً، ما كشفته صحيفة "هآرتس" يوم 18/5/2007 في تحقيق لأحد مراسليها تحت العنوان "الجيش يقرّر ويطبّق" والذي سرعان ما اعتبرته أسرة تحريرها، في مقال افتتاحي لاحق (يوم 21/5/2007)، بمثابة مؤشر إلى شبه انقلاب عسكري، عندما كتبت في شأنه تقول: بينما يتحدث وزراء الحكومة عن حل الدولتين، يقع في الضفة الغربية شبه انقلاب عسكري يجعل الجيش في ظله تلك المنطقة دولة للمستوطنين فحسب. وبينما يضيق الخناق على أعناق السكان الفلسطينيين فإن المستوطنات تزدهر. ولا يغيّر من هذا الواقع ما إذا كان الواقف على رأس وزارة الدفاع وزير مدني أم لا، لأن للجيش جدول أعمال خاصًا به وخضوعه للمؤسسة السياسية هو خضوع وهميّ في أغلب الأحيان.

 

ومضت الصحيفة تقول: طوال سنوات تباهت دولة إسرائيل بالمعجزة الديمقراطية الناجمة عن جيش مطواع لا يراكم قوة زائدة ويخدم نظام الحكم المنتخب بإخلاص، رغم وجود الدولة في حالة حرب دائمة. غير أن هذا الإيمان تعرّض للشرخ أيضًا في الحرب الأخيرة، عندما اتضح أن الحكومة انجرّت إلى إقرار خطط عسكرية لم تطرح أمامها قطّ. وتجري أمور أسوأ من ذلك بكثير في المناطق الفلسطينية المحتلة يوميًا. ويقول مستشار وزير الدفاع، المسؤول عن نسيج الحياة في الضفة الغربية، إن الجيش يعمل بمعزل عن جدول أعمال الحكومة السياسي وهو يشكل عمليًا جيش المستوطنين. وهذا ما حصل على الأقل طوال فترة ولاية دان حالوتس، في رئاسة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي.

 

ولعلّ أحد النماذج المذهلة لهذه الأزمة الديمقراطية الحادّة، في رأي الصحيفة، هو تجاهل الجيش لقرارات المحكمة العليا بشأن  مسار جدار الفصل. كما أن الجيش لا يرفع تقارير إلى المؤسسة السياسية حول عدد الحواجز المقامة في الضفة الغربية، من أجل أن يكون في وسع الحكومة أن تتكلم عن تسهيلات في الوقت الذي يمتنع فيه الجيش عن تطبيقها. وعلى المنوال نفسه تم إسكان المنزل المتنازع عليه في الخليل وإغلاق مركز المدينة في وجوه الفلسطينيين، ونجح 3 آلاف متظاهر في الوصول إلى مستوطنة حومش التي تمّ إخلاؤها في وقت سابق. وهذا ما يحصل في كل ما يتعلق بتوسيع المستوطنات في أماكن مختلفة عبر تغاضي الجيش وأحيانًا من خلال مساعدته المباشرة.

 

في مقابل كل ذلك فإن أقوال وزير الدفاع، عمير بيرتس، بشأن تفكيك بؤر استيطانية غير قانونية في الضفة وكذلك وعود رئيس الحكومة، إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية، تسيبي ليفني، بالوصول إلى اتفاق جديد بشأن تقسيم البلاد بين (دولتي) إسرائيل وفلسطين "تبدو جوفاء أكثر من ذي قبل. وعلى ما يبدو لا يهم من هو الحزب الموجود في السلطة، ما دام الجيش يخدم المستوطنين بدل أن يخدم الدولة".

وفي هذه الأيام بالذات صدر كتاب جديد للباحث ياغيل ليفي، المتخصص في دراسة الجيش الإسرائيلي، يحمل عنوان "من جيش الشعب إلى جيش الضواحي" رأى فيه أنّ المشكلة في حرب لبنان الثانية لم تكن عملية اتخاذ القرارات في الحكومة ولا رئيس هيئة الأركان العامة المستقيل، دان حالوتس، أيضا، بل إن ما عكسته هذه الحرب هو نتاج عمليات اجتماعية عميقة وتغيّر في مكانة الجيش الإسرائيلي، حيث أنّ الطبقات الميسورة غادرته، ولم يعد يملك شرعية دفع الثمن بحياة البشر، ويحظر عليه أيضا المسّ بالاقتصاد أكثر من اللزوم، وفقما صرّح في مقابلة أدلى بها للكاتب نير برعام، من ملحق "سفاريم" (كتب) التابع لصحيفة "هآرتس" [22/5/2007].

كما يتطرّق هذا الباحث إلى مسألة العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية، من وجهة نظر مخصوصة ترفض التشخيص الذي يذهب إلى كون إسرائيل "جيشًا له دولة"، وتحيل استلاب المؤسسة السياسية للمؤسسة العسكرية إلى هيمنة الفكر العسكريّ على إسرائيل. ويعني ذلك، من جملة أمور أخرى، أن التحدّي الأهم الذي يواجه المؤسسة السياسية الإسرائيلية هو كبح جماح الفكر العسكري المسيطر عليها، لا كبح جماح المؤسسة العسكرية، التي تميل بطبيعتها إلى الحلول العنيفة والهدّامة.

لقد سبق لأحد الكتّاب الإسرائيليين أن المح إلى أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن "الدبلوماسية في وقت تتساقط فيه صواريخ القسّام على سديروت. لكن هذه هي بالضبط مسؤولية المؤسسة السياسية، إذا لم تكن راغبة في شنّ حرب مرة أخرى من منطلق الغضب والأخذ بالثأر. ويبدو أن أولمرت فهم ذلك، وطلب من وزارة الخارجية في جلسة الحكومة المصغرة للشؤون الأمنية- السياسية أن تعرض عليه حلولاً سياسية أيضًا".

 

لكن هذا الكاتب نفسه استدرك قائلاً: ينبغي أن ننتظر ونرى ما إذا كان أولمرت سيصيخ السمع إلى هذه الحلول بشكل جادّ، أم أن ذلك هو مجرّد غطاء للجنة تحقيق قد تتشكّل في أعقاب الحرب المقبلة!

 

وفي وسعنا أن نضيف أنّ ذلك قد يكون ناجمًا، أساسًا، عن استحكام الفكر العسكريّ، الذي لا يقيم وزنًا إلاّ لأصوات القعقعة بالسلاح، في ذهن ساسة إسرائيل وقادتها بصورة لا تظلّ معها فائدة تذكر لأية "بدائل أخرى". 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات