المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بغداد على وشك السقوط. مسألة أيام. المرحلة الأولى من هذه الحرب –المرحلة المتنقلة في معركة الحركة والنيران وكسر العمود الفقري العسكري التابع للنظام العراقي- على وشك الانتهاء في عملية مفاجئة وذكية جدًا في إستغلال النجاح. ولكن فورًا، وبعد إنتهاء هذه المرحلة، ستبدأ معركة لا تقل تعقيدًا وخطرًا: المعركة على قلب الشعب العراقي.يجب على مرحلة الحركة أن تنتهي بحسم واضح: القضاء على النظام العراقي الحالي قضاءً تامًا وواضحًا، برؤسائه ورموزه. وفيما لو استمر صدام حسين ورجالاته في الظهور وإثبات تواجدهم داخل بغداد أو خارجها- فإنه من الممكن عندها أن ينشأ وضعٌ من التورط الدامي.

بغداد: الحصار والتجزئة

السيطرة على المناطق المأهولة هي مشكلة عسكرية معقدة، لكنها تتقزم أمام المرحلة القادمة: التورط والبقاء الساكن في المناطق المحتلة، خاصةً أن الأمريكيين لا يحتلون كل المناطق المأهولة، وإنما يتركزون في السيطرة على مؤسسات الحكم وركائزه. فلا يكفي أن يختفي وزير الاعلام العراقي، محمد الصحاف، عن الشاشات وأن يحتل مكانه الحاكم العسكري الأمريكي أو ممثله العراقي. وفيما لو تملك الملايين في أحياء بغداد، الشعور بأن صدام ورجالاته ما زالوا أحياء وناشطين، فإن الأمريكيين قد يتعلمون "على جلودهم" معنى الاحتكاك بسكان في مناطق محتلة: أحدهم سيطلق "آر بي جيه" على القيادة، وجندي سيُختطف، ومنتحر سيقفز على سيارة "جيب" عسكرية وما إلى ذلك.

ومنذ يوم الخميس تقوم القوات الأمريكية بعمليتين عسكريتين متوازيتين. الأولى- "حصار" بغداد، وهي عملية بدأت يوم الخميس الماضي؛ والثانية- "تجزئة" بغداد، وهي عملية بدأت يوم السبت الماضي صباحًا. وتهدف هاتان العمليتان لأيصال القوات الأمريكية إلى قلب المدينة، للسيطرة على مؤسسات الحكم، مع أقل عدد ممكن من الخسائر وفي أكبر سرعة.

وقال وزير الدفاع الاسرائيلي، شاؤول موفاز، قبل أسبوع لـ "يديعوت أحرونوت"، إن "بغداد لن تكون متسادا (قلعة شهيرة في التاريخ اليهودي تحصن فيها مقاتلون يهود وفضلوا الانتحار على الاستسلام- المحرر)" بالنسبة للعراقيين، وإنهم لن يموتوا من أجل صدام- وهو صادق. فمن اللحظة التي فقدت فيها الفرق العسكرية الثلاث التابعة للحرس الجمهوري فاعليتها، بدأت عملية أمريكية مثيرة للانطباع باستغلال هذا النجاح. وقد رأينا بداية ذلك يوم الخميس الأخير: مع الاستيلاء على الجسور على الفرات ودجلة وتقصير المساحة صوب بغداد. وقد استمر هذا يوم الجمعة أيضًا: مع السيطرة على المطار في بغداد وسد المعابر الرئيسية من المدينة. والأهم: سدّ الطرق أمام فرق الحرس الجمهوري المتبقية لعودتها إلى داخل بغداد. هذا ما خلق الفراغ الذي مكّن إتمام عملية "التجزئة". ("الحصار" و"التجزئة" و"التصفية المركزة" فيما يلي هي مصطلحات إسرائيلية "أخترعت" في الحرب ضد الفلسطينيين والكاتب يجيّرها هنا للتحدث عن حرب الأمريكيين على العراق- المحرر).

تصفية مُركزة: الجيل القادم

إختار الأمريكيون إستغلال ما ذُكر ومنع العدو من إلتقاط أنفاسه والاستعداد داخل المدينة. وقرروا ألا ينتظروا إلى حين تركيز قوات تمكّنهم من إحتلال المدينة، بل إعتماد المخاطرة المحسوبة: الدخول في ثلاثة طوابير إلى المحاور المركزية في بغداد وفصل مركزها ومراكز الحكم، عن باقي أرجاء المدينة. والحديث يدور عن مجهود فرقتين عسكريتين على ثلاثة محاور: واحد من الجنوب ينشط فيه "المارينز"؛ ومحوران خارجان من المطار، تنشط فيهما فرقة المشاة "3". وما زالت الفرق متركزة عند مشارف بغداد، لكن قوات الانقاذ –طواقم قتالية مدرعة بحجم لواء لكل طاقم- دخلت إلى داخل مدينة بغداد. ومن المفترض أن يدخل كل طابور كهذا إلى عمق عشرة كيلومترات داخل المدينة، محتلا في تقدمه مواقع مركزية: جسور ومفارق مركزية. وبعد التمركز على المحور- يبدأ بتطهيره، إلى الخلف، من القوات المعادية.

كان هذا رهانًا "محسوبًا". فلو جوبه طابور كهذا بمقاومة عراقية خارجة عن المألوف، فإنه كان من الممكن تحريكه، خلال القتال والتغطية الجوية، إلى خارج المدينة.

وفي اليومين اللذين سبقا دخور الطوابير المدرعة إلى بغداد، قامت المروحيات الهجومية والطائرات الحربية بـ "أعمال" تحضيرية جوية، على طول المحاور الثلاثة للدخول. كما أن الصور التي شاهدناها على التلفزيون للدبابات وناقلات الجند المدرعة والشاحنات العراقية، تشتعل بين البيوت ومفارق الطرق، هي –مع كل التواضع- تطبيق لتقنية إسرائيلية طورها الجيش الاسرائيلي. وهي تقنية استنكرتها وزارة الخارجية الأمريكية، لكن البنتاغون "رضعها" بلهف. يسمونها: تصفية مُركّزة. وهذه الطريق تجمع بين مراقبة جيدة –مثل طائرة صغيرة من دون طيار أو طائرات إستكشافية تعطي صورًا إستخباراتية في وقت حقيقي- وبين سلاح موجّه دقيق يُطلق من طائرة أو من مروحية. ولم يكتفِ الأمريكان بطائراتهم الصغيرة من دون طيار، بل إقتنوا عشية الحرب وخلالها الكثير من هذه الطائرات من إسرائيل. وإضافة لكل ذلك، هناك القوات الخاصة، التي تعمل على ما يبدو في داخل بغداد، والتي أدلت بدلوها هي الأخرى من أجل "تنظيف" المحاور من المعوقات أو من المفاجأات، التي يمكن أن تضايق على حركة الطوابير المدرعة.

وفي قرار عدم إنتظار تجميع القوات وإرسال الطرابير المدرعة، كان هناك منطق "الضربة الادراكية": يقوم هذا الجيش بالدخول إلى العاصمة، بعد مضي 48 ساعة على إعلان وزير الاعلام العراقي عن أنه لن يبقى أمريكي واحد على قيد الحياة، في مطار بغداد. تأثير نفساني- كان جديرًا بالمخاطرة.

الآن، ستُمد القوات المدرعة بالعدد والامدادات وستستمر في تحركها صوب القصور، مؤسسات الحكومة، الراديو، التلفزيون، الجرائد- كل ما يضمن لهم، وفورًا، إثبات السيطرة على المدينة وإقناع الجمهور العراقي بأن النزام السابق قد زال.

ومنذ الآن هناك بوادر تشهد على تفتت الحكم. وحتى يوم الخميس كان هناك شعور بأن في بغداد من يدير المعركة مقابل الأمريكين، وأن هناك رؤية شاملة. ولكن إبتداءً من يوم الخميس بدأ الترهل في الجيش العراقي. واليوم يمكن القول إن قوات الحرس الجمهوري لا تتواجد بعد في أطر الفرق العسكرية، وإنما كطواقم من قوات صغيرة ومبلبلة، من دون يد موجهة، ومع علاقة ضعيفة جدًا مع مصدر سلطوي وقيادي غير معروف في بغداد. وبحسب التقديرات الأمريكية: أكثر من 70% من إحتمالات القوة الكامنة في الحرس الحدودي- دُمرت.

القلب العراقي والجيْب الأمريكي

تنازل الأمريكان عن القتال في الأحياء، "من بيت إلى بيت"، عن التغلب على آلاف المتطوعين، الانتحاريين وأعضاء حزب "البعث" وفدائيي صدام. هؤلاء بقوْا في الأحياء، متحصنين، ومستعدين للحرب. وطالما لم يقتنعوا بأن صدام ولى، فإنهم سيستمرون في إثارة المشاكل. وهذا صحيح أيضًا فيما يخص القوات الخاصة العراقية، المسؤولة عن حماية مؤسسات الحكم والوسائل القتالية غير التقليدية داخل بغداد. لكن، وثانيةً، لا يبدو أن بغداد ستكون "متسادا". خاصةً أن الأمريكان سيحاولون إستجلاب القلب العراقي عن طريق خطة إنسانية غير مسبوقة. والحديث يدور عن إستثمار بمئات مليارات الدولارات. ويُقدر المبلغ الذي سيُستثمر في كل عراقي، في "اليوم التالي"، بـ 1500 دولار، للمساعدات الانسانية وإعادة البناء. يجب مضاعفة هذا المبلغ 27 مليون عراقي. وهذا كثير.

وعلى الرغم من التطورات الدراماتيكية في بغداد، فإنه لن يطرأ خلال الساعات الـ 48 على الأقل، أي تغيير في مستوى الاستنفار في إٍسرائيل. وعلى الرغم من المعلومات عن "خط أحمر" رسمه العراقيون حول بغداد، فإنهم لم يستخدموا الأسلحة الكيماوية عندما تخطت القوات الأمريكية هذا الخط. واحتمال أن يستخدموا الأسلحة الكيماوية الآن هو منخفض، لأنه من غير المرجح أن يستخدموه وسط السكان العراقيين. وبنفس القدر، يجب التيمّن بألا يتحقق إدراك "الظهر إلى الحائط"، التي تطورت في إسرائيل.

واحد من المواضيع التي سيضطر الجهاز الأمني لفحصها في "اليوم التالي" للحرب، هو ما الذي وقف من وراء الادراك المسمى بـ "الظهر إلى الحائط". فهذا الادراك بدا منطقيًا، ولذلك إستثمرت إسرائيل أموالا طائلة لمواجهته. فهذه هي طبيعة المدارك، التي تبدو الأكثر منطقية في العالم ولذلك يصممون عليها. ولكن لو اتضح أن هذا الادراك مخطوء- فإنه سيكون مجديًا فحص سبب تمسكنا به واستخلاص العبر للمستقبل.

(يديعوت احرونوت 6-4-2003، ترجمة: "مدار")

المصطلحات المستخدمة:

يديعوت أحرونوت

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات