تهاوت اللغة تحت ثقل التوصيف المستهلك بالتكرار فلم تعد تفي بالغرض: ماذا يعني أن تصف ما حلّ بفلسطين قبل خمسة وخمسين عاماً ب<<النكبة>>؟!
.. لذلك كان لا بد أن يلجأ الفلسطينيون إلى تفخيم التوصيف ليصير <<أم النكبات>> تمييزاً لحالهم عن أحوال سائر العرب الذين نال كل شعب من شعوبهم خلال هذه الحقبة <<نكبته>> الخاصة.
و<<أم النكبات>> ولاّدة.. وليس خطأ بالمطلق أن ينسب إليها ما أصاب العرب في مختلف ديارهم على امتداد هذا الدهر من النكسات والهزائم وآخرها وأخطرها ما وقع للعراق ويقع فيه هذه الأيام!
كانت <<الدول>> العربية المستولدة في المشرق، مشطّرة بعد الحرب العالمية الأولى، في تقاسم علني فاضح بين المنتصرين فيها، قد نالت أو أنيلت <<استقلالها>> نتيجة صراع المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية، حين <<باغتها>> المشروع الصهيوني بإقامة دولته إسرائيل فوق أرض فلسطين.
.. وكان هذا الجزء من الصفقة مخفياً أو مموّهاً بضمانات من أولئك المنتصرين أنفسهم، والذين عاملهم العرب وكأنهم <<أصدقاؤهم العائليون>> أو <<حلفاؤهم التاريخيون>>، وما كانت التسمية لتنطبق على واقع أي من الطرفين.
مع ذلك فها هم العرب يكرّرون أخطاءهم مرة أخرى مع <<المنتصر الأوحد>> فيفترضون أنهم <<أصدقاؤه>> أو <<حلفاؤه>> في حين أنه يكاد يضنّ عليهم بمرتبة <<التابع>>: له الثروة والأرض والسلطة والأمر في بلادهم، وليس لهم إلا الوعد بأن يؤهلهم ليصبحوا بشراً سوياً! بعد خمسة وخمسين عاماً من إعلان <<استقلال>> الدول في المشرق العربي بالكاد تجد فيه دولة مستقلة فعلاً، وبأرضها وإرادتها الكاملتين.
ما كان تحت الانتداب، أو تحت الحماية، أو تحت الاحتلال العسكري المباشر، عاد إلى ما كان عليه مع فارق واحد: أن هؤلاء الخاضعين للاحتلال الجديد، وهو أميركي، يكادون يتباهون بنيلهم هذا <<الشرف>> الذي سيؤهلهم لدخول العصر من باب الديموقراطية وحقوق الإنسان بجزمة المارينز!
بات العرب الآن موزعين بين احتلال إسرائيلي قديم، عمره بعمر النكبة الأولى التي استحقت بالتقادم مرتبة <<أم النكبات>>، وبين احتلال أميركي جديد يخلب بريقه العيون والأفئدة، ويكاد المبهورون به يتسابقون إلى طلبه، فيتكرم بالقبول حينا، ويرفض أحيانا، وفقا لمواقع منابع النفط، فالديموقراطية لا تعيش في أرض العرب إلا بالنفط... ومتى ملك السيد الأميركي النفط الذي لا يستطيع أهله حمايته ولا يعرفون قيمته الفعلية، ولا يجوز لتخلفهم أن يتحكم بدوره التنويري العظيم الذي يحتاجه عالم التقدم والعمران، تفضل عليهم بتعليمهم أصول الديموقراطية.
مع الاحتلال الإسرائيلي يرفع الشعار صريحا: الأرض مقابل السلام!
أما مع الاحتلال الأميركي، الأكثر تقدما، فيصير الشعار: النفط مقابل الديموقراطية.
ولقد ضاعت الأرض ولم تهبط على أصحابها (الأصليين) نعمة السلام!
وها هو النفط يضيع قبل أن يتعرف أهله على نعمة الديموقراطية!على الطريق بين الاحتلالين سقطت العروبة شهيدة عجز أهلها عن الالتزام بها عقيدة ومنهجاً لبناء المجتمع السليم والدولة العصرية.
بل كان لا بد من اعتبار العروبة السبب الأول والأخطر في هذا المسلسل من النكبات الذي بدأ في فلسطين، وما زال يتوالى فصولا، بحيث يصعب التكهن بأن يكون ما وقع للعراق خاتمة الأحزان. في البدء كان الخروج من العروبة وعليها شرطاً للاستقلال. وصدع العرب فطووا أعلام نضالاتهم المشتركة ضد قوى الاستعمار المختلفة، وأحياناً ضد الاستعمار الواحد، مفترضين أن <<الانفصال>> المؤقت لإخراج الأجنبي هو المدخل الشرعي للاتصال الدائم على طريق المصير الواحد.
وها هم العرب الآن أشتات من العشائر والقبائل والطوائف والمذاهب، ليس لهم من <<الدول>> إلا مزق من الأعلام الملونة، وليس لهم من عز السلطان إلا التعدي على ألقاب الجلالة والعزة والعظمة والسمو، وليس لهم خيار إلا بين احتلال أميركي خالص واحتلال إسرائيلي خالص، وإن تقاطع الاحتلالان أو تكاملا أحيانا كما في فلسطين وجوارها.
مع ذلك فما زال شعب فلسطين يسقي شجرة الحرية لأرضه بدمه: لم ييأس، ولم يسلّم، ولم يوقّع صكوك التنازل عن حقوقه، برغم الضغوط الهائلة التي تتوالى عليه من الخارج والداخل، ومع ذلك ما زال شعب فلسطين يؤمن بعروبته، برغم تخلي <<اخوانه>> عنه، وهي شكوى يتقاذفها العرب مثل كرة النار، فلا تعرف بالضبط من تخلى عن من، وان كنت تصل الى قناعة بأن هذه الملايين المتناثرة على امتداد الأرض بين المحيط والخليج كلها متروكة للريح، تفتقد من يهتم لأمرها كشعوب ولحقوقها في أرضها، أو كدول ولحقوقها في السيادة والحرية والاستقلال إلى آخر الشعارات التي أفقدها معناها سوء الاستخدام!
الاوطان لا تهرم ولا تندثر.
والشعوب لا تتخلى عن هويتها وعن تاريخها وعن دينها وعن أرضها، مهما طال عليها زمن الاستعباد بدكتاتورية في الداخل أو باحتلال أجنبي يجيئها من الخارج فيقهر إرادتها ويصادر قرارها.
وها هو شعب فلسطين يطعم أرضه من لحمه كل يوم، ويسقيها من دمه على مدار الساعة، فلا ينكرها ولا تنكره... ولا يحتاج <<خريطة>> يرسمها المتواطئون مع الاحتلال ليعرف طريقه إليها.
لقد عدنا إلى نقطة الصفر تقريباً. دارت بنا النكبات دورة كاملة، وها نحن نفتح عيوننا على واقعنا الجديد فنكتشف عيوبنا ووجوه القصور فينا، التي سمحت بأن يتحكم فينا من تسبب بتغييبنا عن دائرة الفعل، وبتهشيم جدارتنا وتحطيم المناعة فينا بحيث عجزنا كعرب عن حماية حقوقنا في أوطاننا، كما عن حماية دولنا في وجه الحملات الاستعمارية الجديدة.
في الذكرى الخامسة والخمسين لأم النكبات يجد العرب أنفسهم أمام ضرورة ان يبدأوا كفاحهم من أجل حقهم في الحياة وكأنهم لم يعرفوا الاستقلال أو الحرية أو الديموقراطية في أي يوم. لقد غدوا جميعاً أبناء شرعيين لأم النكبات.
وعليهم ان يثبتوا أهليتهم بأوطانهم وبحقوقهم فيها، ومرة أخرى بدمائهم، وقبل ذلك: بوعيهم حقائق الحياة في هذا العصر الأميركي الإسرائيلي.
وأولى الحقائق انهم في نظر هذا الثنائي الموحد الأهداف: أمة واحدة.
يتصل بذلك ان لا سلامة لأي منهم بمعزل عن الآخرين.
ويتصل بذلك أيضاً وأيضاً ان ليس للاستعمار صديق، وان التطرف الديني يقتل صاحبه ولا يقتل العدو، تماماً كالدكتاتورية!
(السفير، بيروت، 16 ايار)