يضم هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" تقارير وتحليلات تتناول أبرز مفاعيل عدد من آخر الصراعات والتغيرات داخل إسرائيل، سواء على مستوى "السياسة المحليّة" وتوازنات القوى الحزبية، أو على صعيد ما يُحيل إلى وجهات مؤسستها السياسية حيال المستجدات الخارجية وفي مقدمها كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
وبموازاة العرض المسهب لدراسة إسرائيلية جديدة صدرت مؤخرًا عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب ضمن كتاب بعنوان "الحيّز العربي في مسار الفشل الدولتي"، يزعم كاتباها أن أهم أسباب عدم موافقة إسرائيل على قيام دولة فلسطينية مستقلة يعود إلى الفشل الدولتي في منطقة الشرق الأوسط (طالع ص 6)، تجدون تقارير تتيح إمكان الاستنتاج بأن ثمة أسبابًا أخرى لهكذا "عدم موافقة" تفوق هذا السبب من حيث الأهمية، وترتبط بمسارات تحوّل شهدتها إسرائيل في الآونة الأخيرة وكانت بمثابة تعميق لتحولات سابقة.
ومن هذه التحولات نشير إلى ما يلي:
أولًا، تعزيز التحالف بين اليمين الإسرائيلي بزعامة بنيامين نتنياهو وبين "شركائه الطبيعيين" ولا سيما الحريديم (اليهود المتشدّدين دينيًا) والتيار الصهيوني- الديني المنضوي ضمن حزب "البيت اليهودي". وهذا التعزيز أدى إلى تراجع الحكومة الإسرائيلية الحالية عن جميع القرارات التي اتخذتها الحكومة السابقة والرامية إلى محاولة تفكيك مجتمع الحريديم المنغلق على نفسه (طالع ص 5). وإلى جانب قراءة ما ينطوي عليه ذلك من تداعيات، أعدنا التذكير بمقال نشره رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" في الخريف الفائت، وأصدر في سياقه حكمًا فحواه أن تفكّك النواة المركزية (الصلبة) للمجتمع الإسرائيلي التي كانت بمثابة حجر الزاوية في "الاستيطان اليهودي قبل إقامة الدولة" في مقابل تعزّز من يسميهم بـ"الأقليات"، ويشمل ضمنهم الحريديم والعرب بالأساس، هما من العوامل الأشدّ تأثيرًا على السياسة والاقتصاد في إسرائيل في قادم الأيام، أكثر بكثير من التأثير الذي يمارسه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير المالية موشيه كحلون، ومن تأثير مخطط صفقة استخراج الغاز الطبيعي من عرض البحر المتوسط مع شركات الاحتكار، بل وأكثر أهمية من الاتفاق الموقّع بين الدول الكبرى الست وإيران حول البرنامج النووي الإيراني. وحتى لو لم نتفق في حينه مع هذا الحُكم، لا بُدّ من استعادة أن التقديرات الإحصائية الديمغرافية الإسرائيلية الرسميّة حول العقدين المقبلين تركّز على أنّ ثمّة تغيّرات جديّة متوقّعة وخصوصًا فيما يتعلّق بمصادر النمو السكاني، وبظاهرة تديّن المجتمع اليهوديّ التي تُقاس بأعداد المتدينين ونسبتهم من بين السكان، والتي تدل على اتجاه المجتمع الإسرائيليّ نحو مزيد من التديّن والتشدّد، وما يتركه ذلك من أثر عميق على طبيعة المجتمع الإسرائيلي، وعلى وجهة تطوّر اقتصاده ومناعته الاجتماعية في الحاضر والمستقبل، وأساسًا على ثقافته السياسية العامة. وتشهد إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة عدة بوادر تشي بإحالات هذه التغيرات الديمغرافية في المستقبل، وفي صلبها ازدياد قوة المجموعات الحريدية والدينية التقليدية، وهي تغيرات أدت وتؤدي إلى تحولات سياسية أيضًا.
ومثلما نوهنا في أكثر من مناسبة، أكدت اجتهادات كثيرة في هذا الشأن أنه يتعيّن تناول هذه التغيرات فيما يتجاوز الأرقام والإحصاءات الجافّـة، إذ إنه في ظل الوضع الذي تزداد فيه قوة المجموعات الدينية ـ القوموية ويتصاعد نفوذها السياسي، من الطبيعي أن يحدث اصطدام مع القيم الديمقراطية وحُكم القانون. وبناء على ذلك لم يكن من المستغرب أن يتصاعد الجدل حول موضوع "الدولة اليهودية" وصراعها مع "الدولة الديمقراطية" في أوساط الجمهور الإسرائيلي في الآونة الأخيرة، وأن يتنبأ البعض بأن الاتجاه الذي تسير إسرائيل فيه هو نحو "دولة دينية أكثر وديمقراطية أقل".
ثانيًا، على صلة بما تقدّم يجدر التوقف عند تحولات كبيرة تتواتر داخل صفوف اليمين الإسرائيلي بما في ذلك ضمن حزب الليكود الحاكم. وهذا ما يشير إليه على سبيل المثال الوزير وعضو الكنيست السابق دان مريدور، أحد القادة البارزين السابقين لليكود، في مجرى مقابلة مطولة أجرتها معه صحيفة "معاريف" الإسرائيلية ونشرتها أمس الاثنين (طالع عنها ص 8).
ويؤكد مريدور من بين أمور أخرى، أن ثمة عبارة تتكرر في الليكود أخيرًا تقول "آن الأوان كي نحكم". والقصد برأيه هو "الحكم دون أي قيود أو كوابح". وفي قراءته، "هذه ليست ديمقراطية، لأن الديمقراطية ينبغي أن تحرسها وسائل الإعلام والمحاكم وأن تلجمها. ويجب الحذر من مغبة المساس بهذه المؤسسات. فالهجوم على وسائل الإعلام سهل جدًا، لكن من دون وسائل إعلام حرة ليست هناك ديمقراطية".
ويؤكد كثيرون، بالإضافة إلى مريدور، أنه مع ازدياد قوة اليمين الإسرائيلي وشعبويته في الأعوام الأخيرة تزداد أكثر فأكثر شكلية الديمقراطية، وتنهار تدريجيًا مؤسسات دولة القانون.
ويجاهر نشطاء في جمعيات حقوقية وغيرها مناهضة للاحتلال والاستيطان، بأنه في ظل أجواء التحريض اليمينية المشتطة التي وصلت إلى حد تهديد حياتهم، فإن وقوع جريمة اغتيال سياسية أخرى في إسرائيل يبدو "مسألة وقت" (طالع ص 2).
إزاء كل هذه التحولات ومفاعيلها تتردّد أيضًا عبارة تقول "نتنياهو خطر على إسرائيل، ويجب أن يذهب".
ويظل السؤال: هل في ذهاب نتنياهو فقط ما يضمن حدوث تغيير جذري في سياسة إسرائيل وتحديدًا الخارجية؟.