خلص التعاطي الإسرائيلي مع ذكرى مرور عقد على حرب لبنان الثانية (تموز 2006)، في معظمه، إلى نتيجة شبه وحيدة، فحواها: حتى لو تأخر اندلاع "حرب لبنان الثالثة" فإنها واقعة لا محالة.
وفسرّت بعض التحليلات حتمية هذه الحرب بصورة تبريرية فظّـة، من قبيل أن حزب الله اليوم هو العنصر التقليدي الوحيد الذي يهدّد بصورة كبيرة إسرائيل، ونظرًا الى أن حرب لبنان الثانية لم تُشنّ كما كان يجب، فإن هذا التهديد تعاظم بصورة حادّة خلال العقد الأخير.
في أكثر من مناسبة قلنا إن الحرب المقبلة تبقى، على الأقل في عُرف العسكر، هي الحرب الأنجح دائمًا. ولا يختلف الجنرالات في إسرائيل، في هذا الشأن، عن نظرائهم في العالم أجمع. كما يبدو، في الوقت عينه، أن غرائز الجنرالات لا تُكبح بتاتًا، وإنما تُشحن من جديد في كل مرة. وبناء على ذلك يمكن القول إن الجنرالات في إسرائيل أثبتوا أنهم "خبراء" في تفعيل القوة، وأنهم جهلة في كل ما يتعلق بإدراك ومعرفة حدودها.
غير أن هذه الاستنتاجات ليست منحصرة في الجنرالات فقط. ويكفي لإثبات ذلك أن تطالعوا آخر الخطابات والتصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
أكثر من هذا، سبق لمعلق الشؤون الأمنية الإسرائيلي رونين برغمان (راجع مقالته "الجيش الإسرائيلي يتجه إلى حرب ضد ساسة الدولة"، "نيويورك تايمـز"، 21 أيار 2016)، أن رأى أنه في تاريخ إسرائيل القصير غالبًا ما كان قادة الجيش ورؤساء الأجهزة الاستخباراتية يدعمون استخدام القوة، وأظهروا في العديد من الحالات ازدراءهم للقانون ولحقوق الإنسان. وفي المقابل كان القادة السياسيون أكثر توازنًا بشكل منهجي. ويلفت في هذا الخصوص إلى أنه في العام 1954 بادرت الاستخبارات العسكرية من دون إطلاع رئيس الحكومة في حينه موشيه شاريت إلى شن سلسلة من الهجمات الإرهابية ضد مصر بهدف خلق صدع بين ذلك البلد والولايات المتحدة وبريطانيا. وفي العام 1967 حث الجيش رئيس الحكومة ليفي أشكول على السماح له بشن ضربة هجومية ضد مصر وسورية، وعندما طلب أشكول منه الانتظار تآمر قادته على اعتقاله في سرداب تحت الأرض إلى أن يوافق.
ولفت هذا المحلّل إلى أنه في العقود الثلاثة الماضية أصبح الجيش وأجهزة الاستخبارات أكثر حذرًا حيال كسر القانون، ولقد ساعد في ذلك التهديد بالمطاردة من جانب محكمة الجنايات الدولية. كما أن أجهزة المؤسسة الأمنية تتحرك- برأيه- "وفقًا للمصلحة القومية لا وفقًا للأيديولوجية أو الدين أو الاعتبارات الانتخابية"، وهي دوافع تحدّد طبيعة سلوك الساسة.
بشكل عام كان تشخيص الباحث في شؤون العلاقة بين الجيش والمجتمع والسياسة في إسرائيل، المحاضر في الجامعة المفتوحة الإسرائيلية، البروفسور ياغيل ليفي، لجوهر الجدل العام الذي دار حول حرب لبنان الثانية الأكثر مدعاة للتأمل.
فقد جزم بأن هذا الجدل اعتبر الحروب أحداثًا عسكرية، وكانت نقطة الانطلاق هي أن استخدام القوة أمر لا يمكن منعه، ولذا كل ما بقي هو فحص ما إذا كان الأمر سيتم بشكل ناجع أم لا، وهل حدث تحسن منذ المواجهة الأخيرة.
لكن برأيه فإن الحروب هي أولًا وقبل أي شيء أحداث سياسية، ونتيجة لفشل السياسة. وخلافًا لحرب لبنان الأولى (1982) التي زعم كثيرون في أوساط الجمهور الإسرائيلي أنها كانت حربًا اختيارية، أي كان لها بديل سياسي، فإن النقاش حول حرب لبنان الثانية ولا سيما الاحتجاج الذي حدث في أعقابها، ركز في الأساس على الطريقة التي قام فيها المستوى السياسي بتحريك الجيش وبأداء الجيش نفسه. ونظر إلى "اللاخيار" للحرب بصفته نقطة انطلاق لا جدال فيها.
وأعاد ليفي إلى الأذهان أن الجنرال احتياط غيورا آيلاند الذي أنهى منصبه كرئيس لـ"هيئة الأمن القومي" قبل الحرب بأسابيع معدودة، ألمح إلى وجود بديل سياسي في سياق مقال نشره في ذروة الحرب وكتب فيه: "قبل عام كان يمكن محاولة التوصل إلى اتفاق أمني جديد مع لبنان، يكون في أساسه تطبيق قرار الأمم المتحدة 1559 (يشمل أيضًا تفكيك حزب الله) الذي تم اتخاذه في العام 2004. وفيه أيضًا أجزاء أخرى، مثل تقديم إسرائيل لأشياء. لكن هذه المبادرة لم تطبق بسبب المنطق الإسرائيلي المعهود الذي بموجبه نحل المشكلات فقط بعد حدوث الأزمة". ونوّه ليفي بأن المعلومات التي تم نشرها حول فشل هذا الجهد لم تعن أحدًا في النقاش الذي اندلع أثناء الحرب وبعدها، وفي الوقت الحالي أيضًا بعد مرور عقد فإن الفرضية السائدة هي أن الحرب لم يكن بالإمكان منعها.
ويشدّد الباحث على أن الامتناع في إسرائيل عن نقاش الخيار السياسي، وخصوصًا عدم اكتراث الجدل العام بهذا الخيار، أمر مقلق جدًا، وهذه إحدى سمات سيطرة الخطاب العسكري على الجدل السياسي في إسرائيل والتي زادت في الأعوام العشرين الأخيرة وأدت إلى صرف اهتمام المواطنين نحو أبعاد استخدام الجيش (القوة)، مع إهمال الجدل حول منطق منع الحرب بواسطة الخيار السياسي.
تجدر الإشارة إلى أن "لجنة فينوغراد"، التي تقصّت وقائع "حرب لبنان الثانية"، توصلت هي أيضًا إلى استنتاج انتقد إسقاط "ضرورة البحث بحماسة عن مسارات تفضي إلى اتفاقات ثابتة وبعيدة المدى (سياسية) مع جيراننا" من جدول أعمال المؤسسة السياسية الإسرائيلية. لكن الوقائع المتراكمة منذ ذلك الوقت تؤكد أن هذا الاستنتاج بالذات بقي حبرًا على ورق.