حول الفيلم الوثائقي )أولاد آرنا(: آرنا مير - خميس، تلك المرأة المرأة كتب فراس خطيب: )في أسوأ الحالات سأسجن ستة أشهر، عندها سأتعلم العربية على أصولها، أنا مرتاح جداًً، وزوجتي هيأت نفسيتها، سأشتاق إلى طفلتي الصغيرة، لا عليك كل شيء على ما يرام(. هكذا أجاب الفنان جوليانو مير- خميس، عندما سألته عن التحقيق الذي ينتظره في جهاز المخابرات الإسرائيلية، بعدما أخرج فيلمه الوثائقي )أولاد آرنا( الذي يعرض في هذه الأيام، هذا الفيلم الذي سطع من قلب المأساة، من قلب الحدث، جاء صفعة لا تقاوم في وجه من يتهم الشعب الفلسطيني الأعزل بالإرهاب، فصورة الحدث سبقت الحديث عنه. كانت التوقعات قبل الوصول الى >سينماتيك< حيفا (مكان عرض الفيلم) تكاد تقترب من العادية الروتينية، الجمهور ملأ القاعة، وأجبر الكثيرون على الجلوس جانباً وبين المقاعد وعلى الأدراج.
قبل العرض بدقائق معدودات، صعدت فتاة يهودية تدعى اوسنات (تعمل في الإنتاج) لتقدم الفيلم، وذكرت اسم آرنا مير، فصرخ جوليانو من بين الحضور: >آرنا مير- خميس<، >دائما حاولت جاهداً إدخال كلمة خميس الى اسم عائلتي وعائلة امي. شعرت بحاجة له، خاصة بعد وفاة والدي صليبا<. افتتح الفيلم بمشهد مظاهرة على حاجز مخيم جنين، كانت هناك امرأة يكتنفها العنفوان، والقوة، تغطي شعرها بكوفية فلسطينية بعد ما ألم بها مرض عضال، تصرخ بأعلى صوتها مستهترةً وثائرةً على جنود الإحتلال، وتقف كالدرع الواقي لأهالي المخيم الذين عرفوها من خلال ما قامت به من فعاليات ترسم البسمة على وجوه أطفالهم. >أدخلوا، لا تخافوا، هيا أدخلوا<. ويأتي صوت جوليانو من قلب الفيلم: >المرأة التي تشاهدونها هي أمي آرنا<. آرنا، تلك المرأة المرأة آرنا مير- خميس، يهودية الأصل، تزوجت من الصحافي صليبا خميس ودخلت الى صفوف الحزب الشيوعي. دخلت الى المخيم في فترة الانتفاضة الاولى، ووصفها الجميع وكأنها نعمة من السماء، جاءت لترسم البسمة على وجوه أطفال المخيم. فازت بجائزة نوبل البديلة عن نشاطها في جنين، فتبرعت بالجائزة لبناء مسرح هناك.
توفيت قبل أكثر من عشرة أعوام إثر مرض عضال ألم بها.. >لم أجنِ على أحد، ولم أخطئ في حق أحد، لكن انضمامي الى >البلماح<، عندما كنت في الثامنة عشرة، كان خطأي الأكبر، ماذا أفعل؟ طيش الشباب.... نعم، وهناك خطأ آخر، فقد عملت سائقة غاندي الشخصية (الوزير رحبعام زئيفي الذي قتل قبل 3 سنوات في القدس)<، هذا ما قالته آرنا في طريقها الى اللقاء الأخير بأهالي جنين. شعرت بأن نهايتها تقترب، بل تقترب جداً، فطلبت من جوليانو أن يأخذها الى هناك لتودع أطفال وأهالي المخيم وتلقي نظرة أخيرة عليهم. كان الجميع في انتظارها، وحين وصلت، لم يخف أحد دمعته، بكوا على رحيلها، وبكت هي أيضا، رغم صمودها، لم تقدر إلا أن تعبر، وهناك كانت النهاية، تركت آرنا المخيم ولم تعد إليه منذ ذلك الوقت، ولم يعرف مخيم جنين نشاطاً فنيًا مثل الذي قامت به حتى يومنا هذا، افتتحت مسرحاً يضم أطفالاً من المخيم، احتفالات شعبية، وطقوسا اجتماعية، وصرخت في كل فرصة صعدت فيها على خشبة المسرح: >لن يأتي الحل إلا بزوال الاحتلال<. رافقها ابنها جوليانو خلال مسيرتها هناك وأخذ على عاتقه تدريب فريق المسرح، ويلخص: >في جنين عرفت نفسي!<. صوّر الممثل والمخرج جوليانو نشاط أمه في جنين، صوّر المسرحيات، والنشاطات، وأطفال المخيم مبتسمين، رغب في إخراج فيلم عنها قبل وفاتها، لكنها منعته من تحقيق رغبته، فقد شعرت بأن الفيلم قد يكون شخصياً، وهي لا تحب تمجيد شخصها. يقول جوليانو: >قبل وفاتها بيومين قالت لي، دير بالك عل إخوتك، وأكمل المشروع الذي بدأناه سوياً في جنين، وكان طلبها الأخير ألا أخرج فيلماً عن حياتها، خاصة بعد مرضها. فلم تجد آرنا مكاناً للذكريات وسط النضال<.
توفيت آرنا وحاول جوليانو لملمة رماد ما تبقى من حلمها لكنه لم ينجح، حاول أن يعيد الفكرة الى ذهنه لكنها سرعان ما اختفت، ضاع كل شيء، فأخرج المادة المصورة من المخازن وسرعان ما أعادها الى هناك. عن التجربة يقول: >عانيت من الطأطأة الوجودية، وانتابني شعور بعدم المقدرة على صنع فيلم عن حياتها، رافقني شعور بعدم المقدرة على فعل شيء أصلا، كنت خائر القوى، وكان موتها صدمة لم أستفق منها الا بعد مرور وقت على رحيلها<. >أصبح الفيلم هاجساً يراودني...< بعد الاجتياح الأخير لمخيم جنين، تلقى جوليانو مكالمةً هاتفيةً من يوسف سويطي، شاب في ربيع عمره كان عضواً في فرقة المسرح الذي أقامته آرنا في جنين وعمل جوليانو فيه مدرباً ومعلماً. >كانت المكالمة عادية جداً<، يقول جوليانو ويضيف >سألني عن أخباري، عن وضعي وعن العائلة<. وبعد أسبوعين من المكالمة بينما جوليانو يشاهد نشرة الأخبار تفاجأ بأن العملية الإستشهادية في قلب الخضيرة نفذّها يوسف، اتصل جوليانو بأصدقاء له في المخيم وأخبروه أن يوسف (تلميذه في فرقة المسرح) هو منفذ العملية، حمل كاميرته ودخل بعد الاجتياح بيومين الى المخيم متسللاً، وصل الى هناك، وكانت الصدمة أكبر مما توقع، فغالبية الذين دربهم على الوقوف على خشبة المسرح، في عداد الموتى، والتقى ببعضهم. ويسرد الفيلم قصة المقاتل علاء، الطفل الذي يظهر في بداية الفيلم على حطام بيته بعدما هدمه جنود الاحتلال، والذي أصبح قائداً لكتائب الأقصى، عندها عادت فكرة الفيلم الى جوليانو، وبدأ يصوّر النضال اليومي للشباب الذين تركهم أطفالاً على المسرح، وها هم قد أصبحوا مناضلين، رافقهم إلى كل مكان، حمل كاميرته تحت وابل من الرصاص، نام الى جانبهم، تناول الطعام معهم. > هؤلاء هم الممثلون الصغار الذين علمهم اصول الوقفة على المسرح، قتلهم الاحتلال ولم يبق ولو واحدا على قيد الحياة، وقبل اسبوعين قتل الأخيرين منهم<.
لم يعتمد >أولاد آرنا< على العاطفة التي نشهدها من خلال الأفلام المألوفة، لا بل كانت القوة مصدر الإلهام الوحيد فيه. هذه القوة التي تبدأ بشخص آرنا، امتداداً الى روح الشباب الذين ربتهم، فالمواقف المحزنة كثيرة، لكن مواقف القوة والعزة أكثر، خاصة عندما غابت مشاهد الانكسار. عن التجربة >ألم تشعر بخطر عندما صورت مشاهد الفيلم في ظل الرصاص؟<، سألنا جوليانو فابتسم وأجاب: >عن أي خطر تتحدث، هل تسمي هذا خطراً، ماذا يقول الشبان المحاربون؟ هل تحتسب هذا خطراً<؟ وعن استنتاجه بعد الحرب الفنية السياسية، قال: >الجو السياسي داخل مناطق 48 يعاني الويلات، الحركة معدومة، حاولت أن أخلق حواراً بين شعبي فلسطين، لم اخرج فيلماً لمجرد العمل، لا بل إن هذا الفيلم هو نتيجة وضع سياسي عشته. كان هدفي التفتيش عن أمل، ومحاولة اخرى لدحر سيطرة الصهيونية . لم أبحث عن التعايش العربي اليهودي البائس، يجب أن نعيش أولاً قبل التعايش، لم أقصد تغيير وجهة نظر الشعب اليهودي، فأنا مقتنع ان هذا الشعب هو من اختار هذه الحالة. أنا اؤمن كما آمنت آرنا، بأن السلام لن يأتي إلا بانصراف الاحتلال، ودحر الصهيونية من أساسها، وإقامة دولة مستقلة علمانية يسكنها الشعبان من دون حواجز أو جدران<. عرض الفيلم (قبل عرضه داخل مناطق 48) في جنين امام جمهور مختار من أهالي الشهداء. ولقد صدم الجميع من قوة الفيلم، هذا الفيلم الذي يثبت ومن دون تحليل أن الوضع السياسي هو من دفع شباباً أحبوا المسرح والفن وآرنا الى حمل السلاح. وقف واحد من الحضور وقال >لن أمرّ عن الفيلم مر الكرام، سأربي أطفالي عليه<. وقال جوليانو متأثراً عن ذلك العرض: >هذا هو الاكتفاء، لن يهمني شيء بعد اليوم، لن أحتاج الى المؤسسات الإسرائيلية، فكلما قلت حاجتهم تحررت أكثر< .
ترك فيلم جوليانو أثراً في نفس كل من شاهده، الأم، المخيم، الأطفال والشهداء، لكل صورة وظيفة، ولكل مشهد أثره. لم يعلن حرمان الفيلم حتى الآن في إسرائيل، لكن الصحافة العبرية تتجاهله كلياً، خلاف بعض الصحف (اليسارية) هنا وهناك، كما فعلوا مع جوليانو بعد مواقفه التي كانت صريحة بعد الاجتياح. فحتى الآن لم يتلق عروضا للعمل في السينما الإسرائيلية، وعقده سينتهي بعد شهرين من المسرح الذي يعمل فيه ولم يعده احد بتجديده، >يريدون التخلص مني بأية طريقة< يقول. عندما طلب جوليانو عرض الفيلم على شاشات التلفزيون الإسرائيلي، أجابه المحرر المسؤول: >ماذا؟ تريدني أن أعرض فيلما يشجع الانتحاريين؟!< وأغلق السماعة.