يبدو أن خطة شارون بشأن الانسحاب الأحادي، من قطاع غزة (مع أربعة مستوطنات من شمالي الضفة)، تسير على قدم وساق، فالحكومة الإسرائيلية تحثّ الخطى في هذا الاتجاه، إذ وفّرت القرار السياسي اللازم، وأقرّت التعويضات لإخلاء المستوطنين، وأمّنت القوى الأمنية، الموكل بها تأمين نجاح هذه الخطة.
ولا شك أن الظروف المحيطة ساهمت في تسهيل الأمور على خطة شارون، فثمة زخم دولي يحتضنها ويدعمها، سياسيا وأمنيا وماليا، لا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وثمة دفع إقليمي باتجاهها، فمصر أبدت استعدادها للمساهمة في حفظ الأمن على الحدود المصرية مع قطاع غزة، وهي مع الأردن أعادتا سفيريهما إلى إسرائيل، وثمة امكان لاستئناف مسار التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
وعلى صعيد الفلسطينيين ثمة قيادة جديدة تعمل بجدية على تهدئة وتيرة الصراع مع الإسرائيليين، وتؤكد رغبتها بانتهاج طريق المفاوضات، وتبدي استعدادها لتحمّل المسؤولية عن الأراضي التي ستنسحب منها إسرائيل.
عموما فإن هذه المعطيات أتاحت لحكومة شارون تسويق خطة الانسحاب الأحادي، إذ تبلورت أغلبية، تقدر بحوالي 65 بالمئة من الإسرائيليين، تؤيد هذه الخطة، كما سمحت لها بإيجاد مخرج لها للتملّص من ادعائها بأنه ليس ثمة شريك لها لدى الطرف الفلسطيني؛ وهو ادعاء دأبت على ترويجه لتغطية تهربها من استحقاقات عملية التسوية، وفرض وقائع الاستيطان والاحتلال.
بديهي أن المعطيات السابقة تؤدّي إلى خلق انطباعات متفائلة، عن تغير في التوجهات السياسة الإسرائيلية، وعن امكان استئناف المسار التفاوضي مع الفلسطينيين، ولكن مجريات الأمور على الأرض تنفي كل ذلك.
ويتضح من الوقائع الجارية أن إسرائيل تعمل على فرض سياسة الأمر الواقع الاستيطاني والاحتلالي، في الأراضي الفلسطينية، من خلال التلاعب والمراوغة، واستغلال الخلل الفادح في موازين القوى لصالحها، ودعم الإدارة الأميركية لها.
مثلا، فقد روّجت حكومة إسرائيل مؤخّرا اعتزامها تفكيك 24 نقطة استيطانية عشوائية، في إيحاء (مضلل) بأنها تنفذ بعض الاستحقاقات المتوجّبة عليها بموجب خطة "خريطة الطريق".
التضليل هنا يكمن في عدة مجالات: أولها، أن عدد النقاط الاستيطانية العشوائية، غير المرخّصة، في الأراضي الفلسطينية المحتلة يبلغ 105 نقاط! وثانيها، أنه لا يوجد شيء اسمه نشاط استيطاني قانوني أو غير قانوني، فكل هذه الأنشطة غير قانونية وغير شرعية، في عرف القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي؛ وثالثها، أن النقاط الاستيطانية العشوائية، المفترض تفكيكها، هي مجرد نقاط معزولة، في مساكن متحركة (كرافانات) يمكن نقلها من مكان لأخر، كما جرى في مرات سابقة؛ وخامسها، أن هذه النقاط تفتقد للبني التحتية، وهي أقيمت لغرض الاستهلاك السياسي الداخلي، ولابتزاز الفلسطينيين في المفاوضات؛ وللعلم فثمة نقاط تتألف من كرفان واحد، ولا يقطنها إلاّ فرد أو اثنان! وسابعها، أن هذا القرار يحتمل في طياته إمكان قيام حكومة إسرائيل بغضّ الطرف، أو منح التراخيص، لعشرات النقاط العشوائية الأخرى، التي باتت بمثابة مستوطنات قائمة بحد ذاتها، أو بمثابة ضواحي لمستوطنات أخرى سابقة.
رغم كل ما تقدم فإن الحكومة الإسرائيلية التي اجتمعت (يوم 13/3) لتقرير مصير هذه النقاط، اتخذت قرارا مراوغا، أيضا، إذ اكتفت بتشكيل لجنة لمراجعة الأمر، وأجّلت تفكيك هذه النقاط، بدعوى التركيز على الانسحاب من قطاع غزة!
من كل ذلك يتّضح أن الضجّة التي افتعلتها إسرائيل، بشأن اعتزامها تفكيك بعض النقاط الاستيطانية، إنما تتوخّى صرف الأنظار عن استمرارها ببناء جدار الفصل العنصري، الذي يقتطع 8 ـ 12 بالمئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضا، إضفاء نوع من الشرعية أو القبول بواقع ضم إسرائيل للكتل الاستيطانية والمستوطنات الكبيرة والمتجاورة في الضفة الغربية.
وللعلم فإن عدد المستوطنات الإسرائيلية الموجودة في الأراضي الفلسطينية المحتلة يقدر بحوالي 172 مستوطنة، منها 155 في الضفة الغربية و17 في قطاع غزة، ضمنها 32 مستوطنة في منطقة القدس المحتلة؛ ويقطن في هذه المستوطنات حوالي 223 ألف إسرائيلي. وبالمجموع فإذا استثنينا معسكرات الجيش الإسرائيلي، فإن عدد المواقع الاحتلالية في الأراضي الفلسطينية، التي تشمل مختلف أنواع المستوطنات والبؤر الاستيطانية والمناطق الصناعية والمواقع الأخرى، بلغ حوالي 342 موقعا في نهاية العام 2003، توزعت بواقع 316 موقعا في الضفة الغربية و26 في قطاع غزة؛ وهذا ما يؤكد عمق الوجود الاحتلالي في الأراضي الفلسطينية.
على أية حال فإن إمكان إجهاض إسرائيل لمسار التهدئة، والتحوّل نحو المفاوضات على التسوية، مع الفلسطينيين، لا يكمن فقط في موضوع المراوغة بشأن النقاط الاستيطانية غير المرخّصة، فقط، فثمة عوامل أخرى، أيضا، ربما تؤدّي إلى ذلك، ضمنها: 1) وجود معارضة واسعة في الليكود (الحزب الحاكم) لقرار الانسحاب من غزة ولقرار تفكيك المستوطنات (المرخصة وغير المرخصة)، إذ ثمة 14 نائبا في الكنيست من الليكود يعارضون خطة شارون؛ 2) يحاول لوبي المستوطنين، المدعوم من قوى اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومن أجنحة معارضة في الليكود، إيجاد حالة من التوتير في المجتمع الإسرائيلي، ربما تصل إلى حد قيام نوع من العصيان المدني أو العنف، لمقاومة الإخلاء من المستوطنات؛ 3) تواجه حكومة إسرائيل احتمالات السقوط (في الأسابيع القليلة القادمة) في استحقاق التصويت للموازنة في الكنيست، بسبب معارضة العديد من الأحزاب لها، ما يفتح المجال أمام انتخابات إسرائيلية جديدة، وبالتالي تأجيل الاستحقاقات السياسية؛ 4) مازالت إسرائيل تتلكأ في نقل السيطرة على المدن الفلسطينية إلى السلطة الوطنية، وتفرض أطواق الحصار على الفلسطينيين، وترفض الإفراج عن الآلاف من المعتقلين؛ 5) في موضوع المستوطنات، مثلا، لم تعد إسرائيل تميّز بين المستوطنات السياسية والأمنية، أي بين تلك التي قامت لأسباب سياسية ـ أيديولوجية، وتلك التي قامت لأسباب أمنية؛ إذ ثمة اليوم تصنيفات جديدة، من مثل: كتل استيطانية ومستوطنات مبعثرة، وهناك نقاط استيطانية عشوائية مرخصة، وغير مرخّصة، وثمة تمييز بين نقاط أقيمت قبل الإعلان عن خطة خريطة الطريق (2002) وأخرى بعدها!
واضح أن هذه التصنيفات المفبركة، والتي تقترن ببعض المواقف المراوغة بشأن تفكيك ما يسمى النقاط الاستيطانية العشوائية غير الشرعية، إنما تحاول التحايل لفرض شرعية الاستيطان، أو على الأقل لفرضه كأمر واقع في المفاوضات مع الفلسطينيين، لتحديد حدودهم ولإضعاف التواصل بين مناطقهم، وتقييد حدود سيادتهم وسيطرتهم على مجالهم الإقليمي.
وكما أكدت التجارب السابقة فإن كل موضوع من المواضيع التي ذكرناها آنفا، وعلى الصعيدين الإسرائيلي والفلسطيني، من شأنه أن يقوّض مساعي التهدئة وأن يعيد الطرفين إلى دائرة التوتّر والاشتباك مجدّداً، إذا لم تتدخّل القوى الدولية والإقليمية الفاعلة بكل جدية؛ ولا سيما إذا لم تتدخّل الإدارة الأميركية بشكل حاسم، للضغط على إسرائيل، ووضع حد لتلاعباتها ومراوغاتها، ولا سيما بموضوع رفع الحصار ونقل الصلاحيات للسلطة، ووقف بناء جدار الفصل العنصري في أراضي الفلسطينيين، وتفكيك النقاط الاستيطانية، والعودة إلى دائرة المفاوضات.
أما الضجة القائمة في إسرائيل اليوم، على خلفية امكان تفكيك مستوطنات قطاع غزة مع أربعة مستوطنات في الضفة، وإخلاء بضعة آلاف من المستوطنين فيها، من مجموع قدره 223 ألف مستوطن في الضفة والقطاع، فهو كناية عن ذر للرماد في العيون، ومحاولة لحجب الغابة بشجرة. والأحرى بإسرائيل أن تمضي قدما إلى النهاية في مراجعة المشروع الاستيطاني برمته، ودراسة جدواه، ومخاطره على أمن إسرائيل ومستقبل وجودها السياسي، في هذه المنطقة.
وفي الحقيقة لا شيء حتى الآن يثبت صدقية حكومة شارون في مجال عملية التسوية، ولا شيء ينفي حقيقة أنها تحاول، من خلال خطة الانسحاب الأحادي من غزة، الإيحاء لجمهور اليمين وللمتطرفين بأنها إنما تنسحب من هناك من أجل أن تعزز الاستيطان والاحتلال في الضفة، وخصوصا في منطقة القدس وما حولها، ولتجنّب العزلة الدولية.