المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الاحتجاج هو وسيلة الضعفاء للتأثير مقابل السلطة الحاكمة. وهو يكمل وسائل أخرى للتأثير مثل الاحزاب (سن القوانين) والمرافعة القضائية امام المحاكم. والاحتجاج الجماهيري هو تعريفا وسيلة غير مؤسساتية لمحاولة التأثير على السلطة. منذ سنوات الستين للقرن هناك تغير جذري في قراءة المظاهرات الاحتجاجية، اذ اصبح الاحتجاج الجماهيري احدى الوسائل الشرعية للتأثير واعتبر انه جزء من حرية التعبير.

يمكن اعتبار الاحتجاج الطلابي في فرنسا عام 1968 كمساهم رئيسي في تغيير الوعي بصدد مفهوم الاحتجاج. وقد شلت حركة الطلاب الاحتجاجية الحياة الاقتصادية في فرنسا، وقام العمال ايضا بالاحتجاج واحتلال المصانع واقامة الحواجز في الطرق، حتى ان الرئيس ديغول لم ينجح بالتنقل في البلد الا بمساعدة الجيش. وكانت نتيجة هذه الاحداث التي استمرت ثلاثة اشهر ثلاثة قتلى. اما احتجاج الطلاب في بريطانيا، والذي قام هؤلاء خلاله بمحاصرة السفارة الاميركية ومحاولة اختراقها، فلم يسفر عنه سقوط اي قتلى من بين المحتجين، وانما أسفر عن سقوط جرحى فقط (40 تقريبا)، اضافة للاعتقالات في صفوفهم.

اما في اسرائيل فنرى انه منذ عام 1948 كانت الاحتجاجات التي أسفرت عن مقتل محتجين من قبل الشرطة هي تلك التي كان المحتجون فيها عربًا. في الفترة بين1951 – 1952 قام مناحيم بيغن بقيادة احتجاج ضد اتفاق دفع التعويضات من قبل المانيا الى اسرائيل بشأن الهولوكوست التي ارتكبتها النازية. واحدى خطوات الاحتجاج في هذا السياق كانت محاولة اختراق واحتلال الكنيست، ولم يسفر عن هذا الاحتجاج اي قتلى. كذلك الامر في صدد الاحتجاج في وادي الصليب عام 1959، واحتجاج الفهود السود في الفترة بين 1971 – 1974، وحركة الاحتجاج لضباط الاحتياط بعد حرب عام 1973، وايضا الاحتجاج بعد مذابح صبرا وشاتيلا. منذ بداية السبعينيات، لم يواجه الاحتجاج اسرائيليا، يمينا كان او يسارا صهيونيا، بأي رد فعل فتاك من قبل السلطات الاسرائيلية. فقط مواطن يهودي واحد قتل في سياق احتجاجي، وكان ذلك احد اتباع الرابي عوزي مشولام (قائد مجموعة يهودية يمنية متدينة) الذين حملوا السلاح. وتم القتل اثناء مواجهة مسلحة.

مقابل ذلك نرى استعمال وسائل مختلفة، وارتكاب القتل في صفوف المحتجين العرب. ولعل أبرز حالة مبكرة هي قتل 6 متظاهرين خلال يوم الارض عام 1976 في يوم واحد من الاحتجاج. لماذا، اذا، هذا التعامل المختلف مقابل احتجاج المواطنين اليهود من جهة واحتجاج الاقلية العربية من جهة اخرى؟ للاجابة على هذا السؤال يجب ان نفهم ما هو دور الشرطة، والحكومة، وما هو الفكر والايديولوجيا الموجهان لهما. فعلى سبيل المثال لا الحصر، رأى الفكر الماركسي بالشرطة كقبضة الحكومة ضد العمال ونقابات العمال. ويتم الاشارة في هذا السياق الى كيفية استعمال الحكومة الاميركية للشرطة كقبضة حديدية ضد نقابات العمال في عشرينيات القرن الماضي.

في السياق الاسرائيلي، ومن اجل محاولة فهم توجه الشرطة والحكومة مقابل المواطنين العرب، لا بد من التوقف عند تعريف الدولة الاثني كدولة يهودية وديمقراطية. باعتقادي في دولة اسرائيل هناك شكل او مبنى ديمقراطي، اي آليات بيرقراطية ديمقراطية مثل الانتخابات وغيرها. الا ان المضمون الذي يتم صبه في هذا المبنى هو مضمون يهودي وغير ديمقراطي للعرب. كما تبرز عدة اسئلة من هذا التعريف الثنائي للدولة، لا سيما على ضوء المضمون مقابل المبنى:

- ما هو دور مؤسسات الدولة اذا كانت هذه المؤسسات معرفة كيهودية؟

- هل الشرطة هي شرطة يهودية، بناء على تعريف الدولة كيهودية؟

- هل المحاكم هي محاكم يهودية؟

- هل سائر المكاتب الحكومية هي مكاتب يهودية؟

هناك نقاش داخل المجتمع اليهودي حول معنى يهودية الدولة. الا ان الوعي العربي السائد هو ان مسألة يهودية مؤسسات الدولة تنحصر بعدد الموظفين العرب في كل مؤسسة. لكن زيادة الموظفين العرب في هذه المؤسسات لا تعني تحويلها الى غير يهودية. فحتى لو تواجد افراد شرطة عرب لن يغير ذلك من ان الشرطة كمؤسسة هي شرطة يهودية، بناء على بنيتها الفعلية والفكرية الناشئة عن تعريف الدولة كدولة يهودية. وقد بيّن الفيلسوف والمؤرخ ميشيل فوكو ان مفهوم القوة الذي يحكم مؤسسة ما يتحكم بوعي افرادها ايضا.

من تعريف اسرائيل لذاتها كيهودية وديمقراطية تبرز اسئلة اضافية حول تصور الاغلبية اليهودية لذاتها، وتصورها للدولة ولاحتجاج المواطنين العرب ضد الدولة. كيف ينظر المجتمع اليهودي الى احتجاج الاقلية العربية؟ هل هناك تسامح لدى هذه المجموعة لاحتجاج عربي ضد دولة معرفة كدولتهم؟ وهنا يجدر التساؤل، لماذا قام المواطنون اليهود بالاعتداء على العرب بعد ان احتجوا هؤلاء ضد الدولة، وليس ضد المواطنين اليهود؟ لا احد يقوم بالاعتداء على العمال في فرنسا اثر احتجاجهم ضد مؤسسات الدولة.

ان الفكر الذي يوجه الشرطة ينتج تدريباتها ايضا. وهناك ادبيات عديدة تتناول مسألة مهنية الشرطة. وهناك المهنية المرتبطة بنجاعة استعمال المصادر والموارد المتوفرة لدى الشرطة. وهذه المهنية تشدد على الذاكرة المؤسساتية، المبنى الهرمي، والمسؤوليات داخل المؤسسة. وتجدر الاشارة الى ان تقرير لجنة اور توقف طويلا حول عمل الشرطة من هذا المدخل والمنطلق. الهدف، حسب تقرير لجنة اور، ان تكون الشرطة ناجعة من خلال اهدار اقل للموارد.

التوجه الآخر لموضوع مهنية الشرطة ينطلق من ان الاحتجاج شرعي، وجزء من وظيفة الشرطة هو توفير الامكانيات لممارسة الاحتجاج. بناء على هذا التوجه، وظيفة الشرطة في سياق التعامل مع الاحتجاج تكون:

- افساح المجال للمواطنين للتعبير عن آرائهم.

- منع مجموعات اخرى من تعطيل الاحتجاج.

- اقامة وسائل اتصال مفتوحة وصريحة بين الشرطة والمواطنين.

التوجه الاول يعتبر الشرطة قبضة الحكومة لضرب المجموعة المحتجة. وبناء عليه تلجأ الشرطة للاستعمال التدريجي للقوة. كما ان أساليب التدريب مبنية على أساس فصل المحتجين عن الجمهور العام، والقاء القبض على قيادات الاحتجاج، وإبعادهم عن سائر المتظاهرين. المنطلق الاساسي وفقا لهذا التوجه هو ضرورة كسر الجمهور او تفرقته بالقوة.

ووفقا للتوجه الثاني الذي اساسه الحق في الاحتجاج، فإن الاتصال بين الشرطة والمحتجين يكون مفتوحا. وتتصدر الشرطة مقابل الاحتجاج قياداتها وليس افراد الشرطة الشباب الذين جندوا مؤخرا، لانهم قد يعتبرون ان الاحتجاج موجه ضدهم شخصيا. قيادة الشرطة من قبل افراد مجربين، قد يساهم في الحفاظ على بعد الشرطة عن المتظاهرين، وعدم استعمال العنف، وتنفيذ الاعتقال فقط في حالة وجود خطر أكيد على حياة المتظاهرين او الشرطة او حياة مواطنين آخرين.

هذان التوجهان متعلقان ايضا بنظريات حول مفهوم الاحتجاج والمحتجين. فالتوجه الاول يعتبر المتظاهرين، في اعقاب عالم الاجتماع الفرنسي جوستاف لافون، كمجموعة رعاع. احتجاج الجمهور هو خطر. وما يميز جمهور الاحتجاج هو اللاعقلانية والاسلوب غير المنطقي. كما ان المحتجين يحملون ويبثون العواطف السيئة. ولانهم مجتمعون فهم يفقدون فرديتهم وقدرتهم على اصدار احكام قيمة مستقلة والتمييز بين الصواب والخطأ. الرعاع متعطشة للدماء، وهي موحدة، الا انه بالامكان تغيير مسارها، جذبها، والسيطرة عليها من خلال افراد يعتبرون قيادة جمهور المحتجين.

يمكن بسهولة تقصي هذا التحليل للاحتجاج في تقرير لجنة اور. فهناك نجد تحليلا موسعا حول القيادات العربية المنتخبة، والتصريحات التي قامت بها، وخاصة فيما يتعلق بالنائب د. عزمي بشارة، النائب عبد المالك دهامشة، والشيخ رائد صلاح. وفي حين كتبت لجنة اور نحو 50 صفحة حول ما يسمى بالتحريض من قبل القيادات العربية، لم تكتب اكثر من 30 صفحة حول استعمال الشرطة للقناصة، واقل من صفحة واحدة حول تصريحات عنصرية من قبل قيادات يهودية ضد العرب.

بالمقابل هناك التوجه الذي يعتبر الاحتجاج ممارسة نبيلة من قبل الفرد المشارك فيه. اذ يعتبر الانسان المحتج كمهتم بالشأن العام، يميز بين الخير والشر، ينخرط في النشاط الجماهيري من اجل قضية يؤمن بعدالتها. وفقا لهذا المفهوم، الاحتجاج هو ممارسة ايجابية. لذلك، وظيفة الشرطة في هذا السياق تكون المساهمة في ان تكون الاحتجاجات سلمية، لكي يتم ايصال رسالة الاحتجاج للسلطة.

تقرير لجنة اور وما حدث في اكتوبر 2000 من قبل الشرطة، يعكسان التوجه الاول. اي اعتبار الاحتجاج العربي نابعًا عن قطيع، في حين تم التطرق للمظاهرات التي قامت بها مجموعات يهودية وكأنها ناتجة عن تحرك ضمير انساني. لذلك، العرب، كالقطيع، خاضعون ليس لضمائرهم وانما فقط لقيادتهم. اما اليهود، فلا توجد تصريحات عنصرية تحركهم، وانما ضميرهم الانساني الذي حتم عليهم الاحتجاج. هكذا نفهم ايضا تصرف الشرطة والاساليب والاسلحة التي استعملتها مقابل المجتمع العربي، وهي مرتبطة عضويا بفهم احتجاج العرب كفاقد لاي سياق او وازع اخلاقي وعادل.

ملاحظة اخيرة حول لجنة اور. باعتقادي ان وظيفة الجهاز القضائي الاساسية (ويمكن النظر الى لجنة اور التي اتبعت مداولات شبه قضائية وتشكلت من قاضيين ومستشرق كجسم شبه قضائي على الاقل) هي الحفاظ على الوضع القائم، وليس تغييره. اي الحفاظ على حدود الشرعية. ويجب ان لا نفاجأ ان تقرير لجنة اور يحظى باحترام واسع، اذ يحافظ هذا التقرير، في الصميم، على الوضع القائم لا سيما على علاقات القوة التي تحكم وتهيمن على هذا الوضع. بعد قراءة كل التقرير (827 صفحة) وجدت ان هناك بعض الاشارات الرمزية للمجتمع العربي والتي لم تطبق. ويمكن تشخيص العلاقة العضوية بين الحكومة ولجنة اور من خلال الاسطر الاخيرة في تقريرها، لا سيما عندما تتوقف لجنة اور لذكر المجموعات المتضررة في بداية اكتوبر 2000:

- المجموعة الاولى من المتضررين هم من المجتمع اليهودي.

- المجموعة الثانية هي العائلات العربية الثكلى.

- المجموعة الثالثة هي قوات الامن.

اما المجتمع العربي الذي خرج للاحتجاج نتيجة لالتزام اخلاقي بقضية عادلة فلم يذكر على الاطلاق. الاقلية العربية ليست احدى المجموعات المتضررة الجديرة بالتعبير. وإن قبول هذا التوجه معناه تذويت اختلال موازين القوى من قبل وعي الانسان المهزوم، الذي يقبل أي شيء تعرضه الدولة.

(*) محاضر في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع. النص أعلاه تلخيص لمحاضرة قدمت في يوم دراسي بعنوان "أكتوبر 2000: ذاكرة للإحتجاج" عقد في الناصرة يوم 2/10/2004.وقد ظهر في مجاة "عدالة" الألكترونية.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, الفهود السود, عوزي, دولة اسرائيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات