المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 832

 قرأتُ مؤخرًا في "معاريف" عنوانًا مُغرضًا يقول "أعضاء الكنيست العرب: ليغلق المفاعل مخافة التلوّث". وقرأت أمورًا أخرى مستهزئة، موجّهة لتنظيمات "الخضر" وحلفائهم الجدد. قبل أن أتطرّق إلى صلب الموضوع نفسه، أودّ أن أقول لهؤلاء الهازئين أنه فعلا كان وما زال هناك تحالف بين الجبهة وبين النضال البيئي، وليست هنا أية محاولات للتلاعب والتحايل حين نتكلّم عن الموضوع أو حين أقدّم اقتراحا واضحًا يطالب بإغلاق المفاعل الذرّي في ديمونا.

 

ربّما خلافا لسائر أعضاء الكنيست من الكتل الأخرى، انتخِبتُ بناءً على برنامج الحزب الشيوعي الإسرائيلي وبرنامج الجبهة الانتخابي اللذين يتضمّنان موقفًا واضحًا قاطعًا في هذه المواضيع. لن أتطرّق هنا للموضوع البيئيّ المؤلّف من سبعة بنود، غير أنني أنصح الجميع بقراءتها. ففي البند ط من برنامج الجبهة الانتخابي، الذي انتخبت على أساسه، جاء ما يلي: إبادة أسلحة الدمار الشامل. 1. تحريم تطوير وتجريب واستخدام جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل. 2. وقف سباق التسلّح بالأسلحة التقليدية وغير التقليدية. 3. انضمام إسرائيل الى المعاهدة الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية وإلغاء الاحتمال النووي الاسرائيلي، وتوقيع اسرائيل على جميع المعاهدات التي تقيّد سباق التسلح وتدفع باتجاه تفكيك الأسلحة، بما في ذلك المعاهدة التي تحرّم استخدام الألغام ضد الأفراد. 4. تجريد الشرق الأوسط ومنطقة حوض المتوسّط من جميع أسلحة الدمار الشامل، النووي، الكيماوي والبيولوجي.

 

هذا هو موقفنا وهو موقف أيديولوجي، وهو موضوع في غاية الجدية، وليس مسألة تحايلات إعلامية. ولذلك فإنني أتوجّه بكلامي لنائب الوزير، أيضا، خصوصا وأنه تعامل مع الموضوع بالاحترام الذي يستحقّه، وبشكل جديّ.

إنني أقترح على الجميع أن يتناولوا صلب الموضوع الرئيس وأن يتطرقوا مباشرةً للأسئلة الحقيقية الملحّة التي لا تمسّ العرب في إسرائيل فحسب، وإنما تطول كل مواطن في دولة إسرائيل، وكل مواطن في الدول المجاورة. ومن هنا فإنني أنصحكم بالتحلّي بالصبر، والتعامل مع الموضوع بقدرٍ من الجدية، وتجاوز هذا التهجّم البدائيّ النابع عن الانتماء القومي لمقدّم الاقتراح، والتركيز على صلب الموضوع.

نشرت إحدى المجلات الأمريكية التي تعنى بالشؤون الطبية، في آذار العام 1998، بحثًا معمّقا حول 39 حالة إصابة بمرض السرطان بين عاملي المفاعل في ديمونا. وقد توفّي 24 عاملا من بين العاملين المصابين حتى العام 2000. واتضح، إثر إجراء فحوصات البول للعاملين، انه عثر لديهم على تركيز من المواد المشعّة من مختلف الأنواع. ويشير البحث الى العلاقة المباشرة بين التعرّض لهذه المواد وبين حدوث الاصابة بالمرض. وتضمّن البحث أيضا شهادات العاملين حول وقوع حوادث في المفاعل، ووجود نواقص في وسائل الوقاية.

 

لقد عيّن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، في تموز العام 1999، لجنةً لإعادة دراسة عشرات الأبحاث الطبية التي أجريت على حوالي 600 الف من العاملين في 14 موقعا نوويا في الولايات المتحدة. ودلّلت استخلاصات اللجنة، التي نشرت في نهاية كانون الثاني 2000، على ما يلي: تبيّن في أوساط هؤلاء العاملين وجود الأمراض السرطانية بنسبة أعلى بكثير من المعدّل. وكشف التقرير أيضًا عن وجود نسب مرتفعة لـ 22 نوعا من السرطان في أوساط العاملين، ومن بينها اللوكيميا (سرطان الدّم)، سرطان الغدة الدرقية والرئتين وغيرها. لقد تسبّبت في حدوث هذه الأمراض الموادُّ المستخدمة في صناعة الأسلحة الذرية، والتي تشمل، ضمن مواد أخرى، البريليوم، البلوتينيوم 239، الأورانيوم، اليود 131 والطريتيوم. وتستخدم اسرائيل أيضا هذه المواد في مفاعلها الذريّة، والتي وقع فيها العديد من الحوادث الخطرة على مرّ السنين. فهل أثار هذا الأمر، وكذلك النشر عن الموضوع الذي ظهر في جريدة "هآرتس" تحديدا، اهتمام أحد في الحكومة، في إسرائيل؟ هل أثار اهتمام أحد في الكنيست؟ لقد واصلتم أسئلتكم ذاتها: من المقترِح؟ وما هو انتماؤه القوميّ؟.

إنه لأمر رائع أن يكون لدينا شخص مثل رؤوبين بدهتسور، فهو شخص جديّ ومثير للاهتمام يتابع سياسة اسرائيل الذرية وإسقاطاتها، منذ سنوات عدة، وكان قد نشر في جريدة "هآرتس" في تاريخ 14.2.2000 ما يلي: "بالصدفة، ودون أن يخطّط أحد لذلك طُرحت هذا الأسبوع على جدول الأعمال الجماهيري، من أقصى الشّمال الى أقصى الجنوب، حادثتان تتعلقان بالسلاح الذرّي، وبإسقاطاته؛ جرى في الكنيست نقاش تمهيدي حول السياسة الذرية الاسرائيلية، وفي واشنطن، وفي خطوة مفاجئة، اعترفت الإدارة هناك لأول مرة بأن المواطنين الذين عملوا في مصانع إنتاج السلاح الذري أصيبوا بمرض السرطان، نتيجة تعرّضهم لإشعاعات المواد الذرية. وكما هو متوقّع، فقد ظلّ الجمهور الاسرائيلي غير مكترث بنفس القدر بما جرى في الكنيست وبالمعلومات الهامة التي وصلت من الولايات المتحدة، على الرغم من الاسقاطات المباشرة لهذه المعلومات على ما يحدث في المفاعل الذرية الإسرائيلية".

 

ويواصل بدهتسور: "مرة أخرى، تم هدر فرصة إجراء نقاش جماهيري في القضايا المصيرية جدا، ومرة أخرى تصرّف أعضاء الكنيست كدأبهم دائما وارتموا في أحضان الإجماع القومي الذي لا يجرؤ أحد منهم على التشكيك في مصداقيته. لقد كان صعبا للغاية عليهم الموافقة على الشجب الذي عبّر عنه عضو الكنيست العربي، عصام مخول، لا بل اتهامه بمحاولة زعزعة أمن الدولة، بدلاً من بحث الموضوع الذي طرحه على جدول الأعمال".

أكثر من اللازم من الإشعاعيين من أعضاء الكنيست ولربما الوزراء، أيضًا، يجلسون هنا، اليوم. كما نجد، أيضًا، حمائم إشعاعيّة حولنا. لقد حان الوقت "لأطم" الذرّة. لذلك، فإن اقتراح القانون الذي أقدّمه، اليوم، يهدف الى إغلاق المفاعل في ديمونا.

يأتي اقتراح القانون ليعرض خطة انفصال، لكنها ليست أحادية الجانب، بين إسرائيل وهَوْل الذرة والسياسة الذرية، بين الشرق الأوسط كله وهَوْل أسلحة الدمار الشامل. يأتي اقتراح القانون ليعرض خطة انفصال بين الذرة والانغلاق الذي كان أساسًا لسياسة كمِّ الأفواه عند البحث في موضوع على درجة عالية من الأهمية والإنسانية، وعلى درجة عالية من صلته بكلِّ إنسان بصورة وجودية، ليس في دولة اسرائيل فحسب وانما في الشرق الأوسط كلّه.

 

في مقالة مشتركة كتبها البروفيسور باروخ كيمرلينغ، والفيزيائي البروفيسور كالمان ألتمان، من معهد الهندسة التطبيقية "التخنيون"، في صحيفة "هآرتس" 5.11.1999، جاء الآتي: "إن المجتمع غير واعٍ للأخطار الجاثمة على أبوابنا لسبب كميات البلوتونيوم الكبيرة الموجودة في المنطقة، ولسبب الصعوبة في تخزين النفايات النووية. إن إسرائيل موجودة، اليوم، من ناحية كبر مساحتها ووجودها في منطقة مشبعة بالبلوتونيوم العالي الجودة، في المكان الثاني في العالم بعد بريطانيا. وفي المكان السادس في العالم من ناحية الكميات المتراكمة من البلوتونيوم العالي الجودة. إن البلوتونيوم مادة انشطارية، ذات وتيرة انشطار طبيعية عالية جدًّا موجودة في حالة تفكك دائمة. إن احتمال أن يتسبب مثل هذا البلوتونيوم بعملية متواصلة حبلى بالكوارث هو كبير، نسبيًّا. تنتج عن عملية الإنتاج، أيضًا، نفايات نووية ذات إشعاع عالٍ وخطير جدًّا، وذات متوسط حياة يبلغ آلاف السنين. إن الخيار النووي أعدَّ ليكون الجواب ضدَّ تهديدات أمنية، ولكن قد يكون من الواجب فحص ما إذا كان الدواء من الممكن أن يكون قاتلاً أكثر من المرض"- هكذا كتبا، ويضيفان: "إن روَّاد السياسة النووية في إسرائيل يُشيدون بحكمة السياسة النووية الغامضة. تظهر هذه السياسة كنكتة تجاه الخارج وكجريمة تجاه الداخل إذا ما تأملناها جيِّدًا"- يكتب الاثنان.

 

إن سياسة حكومات إسرائيل مذ كانت، حوَّلت قطعة الأرض الصغيرة القائمة عليها الدولة إلى سلة مهملات نووية سامَّة ومسمِّمة، وهذه هي المسألة التي يحاولون إخفاءها عن المجتمع في إسرائيل. إن الغموض موجود، اليوم، بالنسبة إلى مواطني إسرائيل، فقط. هم، وهم فقط، لا يستطيعون القيام بدور الرقابة الدمقراطية على حكومتهم في المجال النووي، لأنها تخفي عنهم الحقيقة في موضوع، حياةُ كلٍّ منَّا متعلقة به. إنها وصمة عار في جبين المجتمع الإسرائيلي؛ أن إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في العالم التي لم تنمّ حركة لانووية، التي تختار فيها حركات السلام وحركات البيئة، وزارة البيئة، ممثلية الأجيال القادمة، لجنة جودة البيئة، بصورة تطوعية، أن تبقى خارج المجال أمام المخاطر الكامنة في السياسة والنفايات النووية.

يقضي القانون الدولي، بأن الذرة وإنتاج السلاح النووي ليسا مسألة تخص الدولة التي تنتجهما، فقط. إنها قضية عابرة للحدود وعابرة للأجيال. إن المفاعل النووي في ديمونا عمره نحو 40 عامًا، وحسَب المعايير الدولية، بما فيها المعايير القائمة في الولايات المتحدة، إنه مفاعل عجوز، خطير، ويجب إغلاقه. إنه مؤسَّس على نموذج قديم، كما أن عمليات التحديث التي ستتم فيه لن تغير من مشاكله الأساسية. إن العثرات الكثيرة التي حدثت في ديمونا تلزم بدقّ نواقيس التحذير، ويجب ألاَّ نكتفي بأصوات التطمين المسموعة، أنه لا مكان للقلق وأنه من غير الممكن أن تطرأ في ديمونا حوادث. إنَّ تسرُّب كمية كبيرة من النفايات الإشعاعية المتراكمة في العقود الأخيرة، من الممكن أن يتسبَّب بكارثة واسعة الانتشار، سيتعدَّى تأثيرها كثيرًا منطقة النقب.

 

إن 40 سنة على نشاط المفاعل أنتجت كميات كبيرة من النفايات النووية التي من الممكن، إن تسربت، أن تسمم مصادر المياه والأرض لمئات السنين. لا مجال للمبالغة في أهمية معالجة النفايات، لكننا مجبرون على أن نقرَّ بأن حياتنا وأمننا لن يؤمَّنا بالمفاعل النووي في ديمونا، وليس بمئات القنابل النووية، وليس بملايين جراثيم الحرب البيولوجية المُنتجة في المعهد البيولوجي في "نس تسيونا"، وليس بمصانع الحرب الكيماوية التي تدأب إسرائيل على تطويرها، وإنما بمبادرة بعيدة النظر لتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. إن إسرائيل هي التي بدأت السباق، والمَهَمَّة ملقاة عليها في تغيير الاتجاه. حان الوقت، مع التغييرات الجغرافية- السياسية في الشرق الأوسط، إثر الحرب على العراق وكذبة أسلحة الدمار الشامل التي وقفت في مركزها، إثر الخطوات التي اتخذتها إيران وخطوات ليبيا... حان الوقت، لفتح الأبواب، النوافذ، ولربما الرأس أيضا، من أجل أطم الذرة، إغلاق المفاعل في ديمونا، كخطوة أولى في طريق تجريد الشرق الأوسط كله من أسلحة الدمار الشامل، النووية، البيولوجية، الكيماوية. إن هوس سباق أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأول بدأ كجواب لديمونا، وليس سببًا لها.

إنني على دراية بردود الفعل المتأثرة التي شهدتها مذ بدأت النقاش في هذا الموضوع، قبل 4 سنوات. أنا لا أتوقع أن تتم المصادقة على اقتراح القانون هذا وأن يتم إغلاق المفاعل، لكنني أتوقع أن يبدأ نقاش جماهيري واسع في هذا الموضوع الخطير. لا يمكن الاستمرار في التعامل معه وكأنه بقرة مقدّسة. إن كتلتي تذكر أن النقاش في مسألة دولتين لشعبين كان، مرة، بقرة مقدّسة في هذا البيت. لم يكن في الإمكان، مرة، ذكر مفاوضات السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، حتى تحول ذلك ليكون في مركَز الإجماع القوميِّ. سننتظر بضع سنوات وسنعود إلى هذه المنصة وإلى هذا الموضوع. أعتقد أن ما يخيف الناس الذين كان رد فعلهم عصبيًّا على مجرد هذا الاقتراح، ليس القلق على السياسة الأمنية، وليس الخوف من الإضرار بالسياسة الأمنية، وإنما هو الخوف من الإضرار بأمن السياسة، التي كانت، حتى الآن، في أساس التفكير الإسرائيلي في هذا الموضوع.

 

أقترح على أعضاء كنيست متَّزنين عدم التسليم بهذا الجو من كمِّ الأفواه. وأتوجه إلى منظمات السلام وإلى منظمات البيئة بعدم التسليم مع الوضع الذي تبقى فيه خارج الاطار في هذا النقاش المهم، النقاش الأكثر تعلُّقًا بالنضال من أجل السلام ومن أجل البيئة.

أريد أن أحذِّر، من أنَّنا لا نتحدث، اليوم، عن المخاطر التي كانت، فقط؛ فبدل أن تتجه دولة إسرائيل في طريق تقليص الاستثمار في هذا المجال، في ظل التطورات الدولية والمِنطقية، يذكر العارفون أن هناك تعاونًا متزايدًا بين إسرائيل وإدارة بوش في قضية تطوير جيل جديد من السلاح النووي التكتيكي، أي أنه ليس سلاحًا نوويًّا دفاعيًّا، إنما هو سلاح نووي هجومي.


إن المخرج الوحيد والطريق الوحيدة التي يمكن لها أن تساهم في تحقيق الأمن للناس، إن كان في دولة اسرائيل او في المنطقة والعالم أجمع، هي البدء في عملية التخلّص من الأسلحة النووية، ومباشرة إغلاق المفاعل الذري في ديمونا. ان إغلاق المفاعل في ديمونا لن يعني أن السلاح النووي لن يستخدم أكثر. فما زال لدى اسرائيل مخزون كبير من الأسلحة النووية. وإذا تم إغلاق المفاعل في ديمونا اليوم نكون بذلك قد جنبنا أنفسنا خطرا حقيقيا يهددنا جميعًا. فنحن لا نكتفي بتطمينات الوزير جدعون عزرا، لكنه كان أمرا مهما أن تحدث هذا نفسه عن الموضوع. لقد شهدنا قبل شهرين فقط هزة أرضية، ولو أنها كانت أعلى بدرجة واحدة فقط لكان من الممكن أن يتفجّر المفاعل النووي، وكنا عندها سنصعد جميعًا الى السماء مع الفطر النووي ومع الفطر الإشعاعي!.

 

(*) نائب عربي في الكنيست الاسرائيلي والمقالة أعلاه نص خطاب له، الاسبوع الماضي.

 

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات