المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في الفترة الأخيرة سلطت وسائل الإعلام الإسرائيلية كثيراً من الاهتمام والأضواء على حوادث العنف التي يرتكبها مستوطنون متطرفون تجاه أفراد الشرطة والجنود (الإسرائيليين) وضد الفلسطينيين. في هذه المقابلة يعبّر المعلق الصحافي عكيفا إلدار عن نقده الشديد لوسائل الإعلام وجهاز القضاء إزاء كل ما يتعلق بعنف المستوطنين

يقوم الصحافي عكيفا إلدار ("هآرتس") بتغطية المستوطنات اليهودية في المناطق (الفلسطينية) المحتلة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود. وقلائل هم الإسرائيليون الذي يلمون، مثل إلدار، بالتاريخ العلني والسري لحركة الاستيطان.

قبل فترة وجيزة رأى النور كتاب إلدار الجديد الذي صدر تحت عنوان "أسياد البلاد"، والذي يعتبر من ناحية عملية التوثيق الأوسع والأكثر تفصيلاً من بين سائر ما كتب حتى الآن عن الحركة الاستيطانية. وقد وضع إلدار هذا الكتاب بالتعاون مع المؤرخة البروفيسورة عيديت زرطال.

في الفترة الأخيرة سلطت وسائل الإعلام الإسرائيلية كثيراً من الاهتمام والأضواء على حوادث العنف التي يرتكبها مستوطنون متطرفون تجاه أفراد الشرطة والجنود (الإسرائيليين) وضد الفلسطينيين. ويقود ائتلاف من حركات اليسار حملة شعبية تطالب رئيس الوزراء ووزير الداخلية بتجريد مستوطنين مؤيدين لليمين المتطرف من الأسلحة وَرُخَصْ حمل السلاح الموجودة في حوزتهم. وحيث أن الموضوع تحوّل بمرور الأشهر الأخيرة إلى موضوع أكثر صلة وملموسية، قررنا إجراء هذه المقابلة مع عكيفا إلدار، والذي لا يخشى أو يهاب- وهو الذي يراقب ويرى الواقع هناك عن كثب طوال أكثر من ثلاثين عاماً- التعبير عن نقده الشديد لوسائل الإعلام وجهاز القضاء إزاء كل ما يتعلق بعنف المستوطنين.

إلدار لا يخشى أيضًا الاعتراف بأن وسائل الإعلام والصحافة فشلت في أداء مهمتها، ولا يتورع عن اتهامنا بتحويل المعتدي- والمقصود مستوطني "يتسهار" والخليل- إلى ضحية بريئة للعنف الفلسطيني.

(*) سؤال- لديك سيرة صحافية مديدة السنوات، حافلة بالإنجازات، إضافة إلى "قصة" مستمرة مع حركة الاستيطان... كيف بدأ كل ذلك؟

- إلدار: في الحقيقة، بدأت العلاقة بيني وبين حركة الاستيطان في المناطق قبل أن أبدأ بامتهان العمل الصحافي. عملياً، الشيء الذي أَسَّسَ لهذه العلاقة حدث قبل احتلال المناطق... ففي العام 1966، وعندما كان ما زال هناك في إسرائيل حكم عسكري مطبق على المواطنين العرب في الدولة، كنت طالباً في الجامعة. عرضوا عليّ وظيفة في الإدارة المدنية كضابط أركان لشؤون الإحصاء. كنت في ذلك الوقت بحاجة للمال، ولذلك وافقت على العمل في هذه الوظيفة. بعد الحرب [حرب حزيران 1967] و"تحرير أراضي الوطن"، وفي ضوء التجربة القصيرة التي اكتسبتها، اقترحوا عليّ الانتقال للعمل في الإدارة المدنية في "يهودا والسامرة وغزة". وقد واصلت العمل في هذا الإطار حتى العام 1969، وبذلك فقد عشت عملياً إرساء أسس ودعائم الاحتلال.

(*) في بداية الطريق كنت جزءاً من قوة الاحتلال. متى بَدَّلت مكانك وانتقلت لتصبح ناقداً صحافياً لاذعاً للواقع الجديد؟

- في العام 1974 بدأت بالعمل كمراسل سياسي في "صوت إسرائيل"، وفي منتصف السبعينيات انطلقت حركة الاستيطان المكثفة بقيادة "غوش ايمونيم"- الحركة الاستيطانية الدينية القومية. قمت كثيراً بتغطية حملات الاستيلاء والاستيطان التي قامت بها الحركة مثل الاستيطان في ألون موريه وسبسطية وكريات أربع وإقامة المستوطنات العسكرية التابعة للواء "ناحال" في قطاع غزة... وقد حدث كل ذلك في الفترة التي عملت فيها مراسلاً في "صوت إسرائيل".

في العام 1983 تحولت بشكل كامل للعمل في الصحافة المكتوبة، حيث عملت لإعالة نفسي كمراسل سياسي في صحيفة "هآرتس". وفي الواقع فإن المراسل السياسي يغطي تشكيلة واسعة للغاية من المواضيع ولكن في دولة إسرائيل تحتل المستوطنات حيزاً كبيراً جداً من التغطية التي يقوم بها المراسلون السياسيون.

خلال العشرين سنة الماضية، ومنذ أن باشرت بالكتابة في صحيفة "هآرتس"، كانت المستوطنات ولا زالت تشكل أحد المواضيع المركزية المطروحة على بساط البحث والأجندة العامة. فالاتصالات والمفاوضات الائتلافية بين الأحزاب وعملية السلام مع الدول العربية والعلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، دارت كلها تقريباً حول المستوطنات.

(*) خلال أكثر من 30 سنة من تغطية المستوطنات والمستوطنين، هل صادفت ذات مرة عنفاً "منظماً من فوق" من جانب مستوطنين ضد فلسطينيين؟

- لا أذكر أية حالة ثبت فيها بشكل قاطع وقوع عنف مُنظم من جانب هيئات أو أُطُر مؤسسية للمستوطنين، أما فيما يتعلق بتخطيط مسبق لأعمال عنف فيمكن الإشارة بوضوح إلى عشرات الحالات التي أتت فيها عناصر من اليمين المتطرف من المستوطنات إلى قرى فلسطينية في أنحاء الضفة الغربية وذلك بهدف منع الفلسطينيين من قطف الزيتون. وقد تخلل هذه الاعتداءات قيام المستوطنين باقتلاع مئات أشجار الزيتون والاعتداء بالضرب وإلقاء الحجارة، وفي حالات معينة بإطلاق النار أيضاً، على قاطفي الزيتون بهدف القتل. هذه الحالات هي حالات واضحة من العنف المنظم، والمسؤول عن استمرارها هو جهاز القضاء الذي يصدر أحكاماً سخيفة على مرتكبي أمثالها. إن جهاز القضاء، كجهة رسمية في دولة إسرائيل، يستحق بالتأكيد ولا بد من أن يوجه له النقد الشديد في هذا الخصوص. ففي حادثة "التنظيم الإرهابي اليهودي" الأول، الذي زرع أفراده قنابل في مدن مختلفة في الضفة الغربية وتسببوا بقتل وجرح عشرات الأشخاص، وَصَفَ القضاة أعضاء التنظيم المذكور بأنهم "شبان جيدون" وأنه يمكن التماس العذر لهم في ما فعلوه، وبعبارة أخرى فإنه لا يمكن لمن لا يعيش ظروفهم الحكم عليهم. بمعنى العيش في المستوطنات في ظل "تهديد الإرهاب". ولكن يمكن الإدعاء بنفس الدرجة أنه لا يمكن لأحد محاكمة رجل (زوج) يضرب زوجته دون أن يكون متزوجاً من امرأة تتعرض للضرب، وهذا إدعاء سخيف.

العقوبات في هذه القضية كانت سخيفة كما هو معروف، فضلاً عن أن جميع أعضاء التنظيم حصلوا على عفو في النهاية، وذلك هو أحد أسباب استمرار العنف (من جانب المستوطنين) حتى الآن. جهاز القضاء لم يقم باللازم من أجل وقف هذا العنف.

فيما يتعلق بضلوع جهات رسمية أو "مستويات عُليا" لدى المستوطنين، ليس هناك أي إثبات على واقع كهذا. من جهة أخرى يمكن أن نأخذ على سبيل المثال بنحاس فالرشتاين، من كبار المسؤولين في مجلس المستوطنات اليهودية ("ييشع") والذي حكمت عليه المحكمة سنة 1988 بعقوبة أربعة أشهر أعمال خدمة بتهمة قتل فلسطيني أعزل يُدعى رباح حسين.

وكان فالرشتاين قد صَرَعَ "حسين" بإطلاق الرصاص عليه في وقت لم يكن فيه فالرشتاين يتعرض لأي خطر من قبل الضحية.

(*) لقد عايشت وقمت بتغطية كل حالات وحوادث العنف هذه وغيرها الكثير. هل يمكن توجيه اللوم أيضاً لوسائل الإعلام فيما يتعلق باستمرارية وتفاقم العنف؟

- أجل، بالتأكيد. فوسائل الإعلام لم تقم بدورها ومهمتها، حيث كان يتعين عليها أن تنتقد بشدة تلك الأحكام والسلوك المتساهل من جانب جهاز القضاء، كذلك كان من واجبها أن تُطلِع جمهور القراء على الصورة الشاملة لظاهرة العنف.

الكتاب ("أسياد البلاد") الذي وضعته مع عيديت زرطال يتضمن اتهاماً مباشراً لكبار القضاة (أهارون) باراك و(مئير) شمغار، إضافة إلى تطرق مفصّل لأحكام مخزية وسخيفة أصدرتها محاكم بحق مستوطنين متهمين بارتكاب أعمال عنف. هذه القرارات والأحكام لم تحظ بالصدى الإعلامي الذي تستحقه كما أن بعضها لم يرد ذكره لا من قريب ولا من بعيد في وسائل الإعلام.

(*) لماذا لم تتدخل وسائل الإعلام؟

- المشكلة التي نتحدث عنها لا تحدث فقط فيما يتعلق بعنف المستوطنين المتطرفين. بصورة عامة فإن التغطية لكل ما يتعلق بالمناطق والاحتلال، ومن ضمن ذلك عنف المستوطنين، ليست كافية وتشوبها الكثير من الثغرات والمشاكل. المشكلة الرئيسية في تغطية عنف المستوطنين تتمثل في عدم توفر عدد كاف من المراسلين العاملين في الميدان لحساب وسائل الإعلام. معظم "مراسلو المناطق" في التلفزيون والصحف والإذاعة لا يقيمون في المناطق (الفلسطينية) المحتلة، بل يأتون لتغطية الأحداث بعد وقوعها فقط، حيث يتناهى إلى مسامعهم من مصدر معين أن المستوطنين اعتدوا على قاطفي الزيتون في إحدى القرى في الضفة الغربية، لكن وقتاً طويلاً يمر قبل وصول هؤلاء المراسلين إلى ساحة الحدث، وفي هذه الفترة يكون الجيش الإسرائيلي قد حوّل مكان الحدث إلى منطقة عسكرية مغلقة يمنع الصحافيون من الوصول إليها، مما يضطر المراسل إلى الاعتماد على شهادات وإفادات متناقضة وهو ما يجعل من الصعب معرفة أين الحقيقة في ما حدث؟!

(*) لقد مضى على الاحتلال (في 1967) أربعة عقود تقريباً. ألم يتم العثور على حلول لهذه المشكلة الفنية؟

- أولاً هناك صحافيون بدأوا حقاً بالتغطية الميدانية أكثر فأكثر. إضافة إلى ذلك فإن أكثر من يساعد الصحافة في كشف حوادث العنف (التي يرتكبها المستوطنون) هم عناصر وسيطة وليس المستوطنين أو الفلسطينيين أو الجيش. وهؤلاء هم بشكل أساسي ناشطون في حركات يسارية مثل "تعايش" أو "حركة التضامن العالمية" إضافة إلى عاملين في الأونروا.

(*) هل تعتقد أن هناك تقاعسًا مقصودًا من جانب وسائل الإعلام، ينبع من دوافع عنصرية؟

- أعتقد أن المشكلة الرئيسية ليست عنصرية، على الرغم من وجود هذا العامل، المشكلة الرئيسية هي مشكلة كسل. مع ذلك هناك أيضاً صحافيون يعملون انطلاقا من الشعور بوجود رسالة، ولكنه لا يوجد عدد كافٍ من الصحافيين القادرين على إيصال الرسالة والمعلومة والأخبار إلى الجمهور الواسع وهذا ناتج بالأساس عن طبيعة العمل غير السهلة. بطبيعة الحال هناك إلى جانب ذلك الإقبال أو نسبة المشاهدة كعامل رئيسي من العوامل التي تحرك وسائل الإعلام. فالنقد الداخلي لم يحظ أبداً بإقبال عال، والجمهور الإسرائيلي لا يريد أن توضع أمامه مرآة تكشف حقيقة الاحتلال. الجمهور يريد أن يتيقن فقط بأن "الآخرين" هم المذنبون. من هنا يمكن القول إن وسائل الإعلام لم تقم بواجبها في وضع مرآة كهذه، مفضلة طوال الوقت الحفاظ على ما تتمتع به من نسب مبيعات ومشاهدة.

اتجاهات التغطية خلال انتفاضة الأقصى

خلال انتفاضة الأقصى وقعت في الضفة الغربية وقطاع غزة مئات حوادث العنف من جانب مستوطنين متطرفين تجاه "جيرانهم" الفلسطينيين، تخللتها عشرات حوادث إطلاق النار التي أودت بحياة فلسطينيين أبرياء. وقد سألنا عكيفا إلدار عن سبب كون معظم هذه الحوادث غير معروف لمستهلك الإعلام العادي (المتوسط) في إسرائيل، فأجاب قائلاً:

- عصر المستوطنين الذهبي كان في السنتين الأوليين للانتفاضة، عندما اعتبر هؤلاء المستوطنون من وجهة نظر عامة الجمهور بمنزلة الضحية. لقد اعتقد الناس (أي الجمهور الإسرائيلي في غالبيته) أن المستوطنين "يمتصون الإرهاب" وبذلك يضحون بأنفسهم من أجل سلامة غالبية مواطني الدولة. من هنا حظي المستوطنون بتعاطف وتأييد واسعين في وسائل الإعلام التي ساهمت بدورها في تعزيز هذه الرسالة.

إيهود باراك (حين كان رئيساً للوزراء) كرّس في أذهان الجمهور المفهوم أو الفرضية القائلة بأنه لا شريك في الجانب الآخر -"ليس هناك من يمكن التحدث معه"- ومن هنا كانت ردة فعل الجمهور ووسائل الإعلام تجاه معاناة الفلسطينيين بسيطة جداً: "يستحقون"!. وقد كان هناك أيضاً عدد من صنّاع الرأي العام، المحسوبين على اليسار الإسرائيلي، الذين ساعدوا في تغذية وتعزيز هذا النمط من التفكير. يمكن القول بالتأكيد إن صحوة متأخرة قد حدثت. لكن الكثيرين رفضوا الاعتراف بخطئهم، كما رفض الكثيرون الاعتراف بخطأ الفهم القائل إن "كل شيء بذنب الفلسطينيين".

أصعب شيء على وسائل الإعلام والجمهور في إسرائيل هو تقبل حقيقة أن الكثيرين من الفلسطينيين سقطوا أيضاً ضحية لأعمال عنف ارتكبها مواطنون إسرائيليون مسلحون، وأننا "لسنا وحدنا الضحية في هذه الحكاية".

(*) ما الذي أدى لتغيير طريقة التغطية؟

- تراجع أو هبوط المكانة الإعلامية والجماهيرية للمستوطنين بدأ في فترة حكومة أريئيل شارون الأولى وفي اعتقادي فإن نقطة التحول كانت عندما أخذت وسائل الإعلام تنتبه لظاهرة "شبيبة التلال" والعنف المنفلت من جانب المستوطنين القاطنين في مستوطنة "يتسهار" (قرب نابلس) ضد الفلسطينيين وناشطي اليسار وحتى ضد أفراد شرطة وجنود إسرائيليين.

معرفة وسائل الإعلام بـ "شبيبة التلال" الانعزاليين أتت بالتزامن مع حالة الاستنزاف والتعب العامة (في الشارع الإسرائيلي) والرغبة الشديدة في نوع من التهدئة. مثل هذه الحالة كانت قد اعترت أيضاً وسائل الإعلام، ومن ناحية عملية أخذ الوهن والتآكل يصيب "الروح القتالية" لدى باراك وشارون أيضاً. بعد ذلك لم يعد المستوطنون "أبطالاً" كما كان ينظر إليهم في السابق، وظهر غضب شديد إزاء سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف الجنود العاملين في المناطق (الفلسطينية المحتلة)، وعلى خلفية كل ذلك أيضاً بدأت تنشر تقارير ومقالات تصور "شبيبة التلال" والمستوطنين المتطرفين بضوء سلبي للغاية.

لا شك لدي في أن تغييرات مهمة جداً قد طرأت في وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ الإعلان عن خطة الانفصال، فشكل التغطية المتبع اليوم تجاه المستوطنين يعتبر أكثر حزماً من أي وقت مضى.

من جهة أخرى هناك نوع من التغافل، فالناس الذين يسألون "من أين جاء هذا" يتظاهرون بأنهم لا يعرفون من هم الذين يقومون بإغلاق الطرق والتصادم مع الجنود وأفراد الشرطة. هذا التغافل ينبع من الظروف التي خلقها "الانفصال"، والتي لم يعد يُنظر إلى المستوطنين فيها كـ "جزء منا". لقد نسي الجميع شبكة علاقاتهم المركبة مع الدولة، وفجأة باتت قيمهم وقيم غالبية الجمهور متعاكسة. يقولون إنه يوجد "لدينا" خطاب ديمقراطي، بينما يوجد "لديهم" خطاب مسيحاني، وكجزء من العملية يحاولون أيضاً "تبرئة" تغاضينا طوال السنوات عن عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين وذلك عن طريق التظاهر بأننا "لم نعرف ولم نسمع"!

[عن موقع الشبيبة "بريكادا" على الشبكة. ترجمة "مدار"]

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات