المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لم تكن قضية استقالة وزير الأمن الداخلي الاسرائيلي، تساحي هنغبي، عقب اصدار مراقب الدولة تقريرا خطيرا عن سوء استغلاله لصلاحياته الوزارية، سوى فضيحة الفساد المناوبة لهذا الاسبوع في المشهد السياسي الاسرائيلي الذي غمرته مؤخرا موجة من فضائح الرشى ودوس النظم والقوانين بفظاظة بالغة. لكن تكرار الفضائح لم يقلل من خطورة هذه القضية خاصة وأن الحديث يدور عن توظيف نحو 70 من اعضاء مركز الليكود في وظائف مختلفة داخل وزارته في الحكومة السابقة، عندما اشغل منصب وزير البيئة وعن احتلاله المرتبة الثانية في انتخابات هذا المركز في الفترة ذاتها. وفيما اعلن مجددا عن تحقيق مراقب الدولة في مسائل مشابهة في وزارتي ايهود اولمرت وداني نفيه (التجارة والصناعة والصحة) يتساءل المراقبون فيما اذا ستتحول استقالة هنغبي الى كرة ثلج تطيح بالمزيد من الوزراء خاصة وزراء الليكود ممن دأب بعضهم على بيع مقدرات وزارته لشراء ذمم اعضاء مركز الحزب وتعزيز مكانتهم الحزبية؟. وفي اعقاب صدور تقرير مراقب الدولة بشأن الوزير هنغبي ارسلت لجنة العاملين في وزارة الصناعة والتجارة مذكرة لمراقب الدولة دعته فيها الى البدء بالتحقيق في تعيينات ايهود اولمرت، الذي تتهمه اللجنة انه يمعن في الاستخفاف بطواقم الموظفين المخلصين من خلال الاهتمام بمستخدمين جدد تم تعيينهم مؤخرا بدوافع سياسية لا مهنية.

اولمرت ونفيه "بالهوا سوا"..

وتوجه لجنة العاملين في الوزارة تهما خطيرة للوزير اولمرت ابرزها القيام بافشال العطاءات الداخلية من اجل شق الطريق امام الاعلان عن عطاءات خارجية تمكن مقربيه من التقدم اليها واستيعابهم بطريقة مغلفة بالصبغة القانونية. وتوضح المذكرة ان اولمرت قام، بواسطة هذه الطريقة، بتشغيل العشرات من مقربيه من بينهم عشرة في وظائف مرموقة رغم عدم توفر الكفاءات المهنية لديهم وسط تجاهل للموظفين القدامى اصحاب الشهادات والخبرات. وكان اولمرت عقب على الاتهامات برمي لجنة موظفيه بتهمة "الاصطياد بالمياه العكرة" بدوافع غريبة لا علاقة لها للتعيينات.

كما توجه اصابع اتهام مشابهة الى وزير الصحة داني نفيه الذي تخضع وزارته الى تحقيق شامل من قبل مراقب الدولة خاصة في ناحية تعيينه المقربين والنشطاء الحزبيين في مناصب مختلفة تهدف إلى تأمين الرواتب لهم مقابل دعمهم له في مؤسسات الليكود، اضافة الى اتهامه بالتدخل السياسي للتأثير على سير عمليات تحقيق ضد قصورات طبية وفساد داخل مؤسسات وزارته.

موجة من الفضائح تغمر الحلبة السياسية

وفي واقع الحال فقد سبقت قضية هنغبي عدة فضائح فساد عصفت في قمة الدوائر السياسية الاسرائيلية خلال العامين الماضيين، آخرها فضيحة وزير البنى التحتية، يوسف باريتسكي، الذي استدعى عملية "حياكة" ملف جنائي ضد زميله وغريمه في حزب "شينوي"، وزير الداخلية ابراهام بوراز . وقبل ذلك تفجرت فضيحة نائبة الوزير نعومي بلومنطال من الليكود، التي تتداول المحكمة قضية الاتهام الموجه لها بارشاء بعض اعضاء الليكود من خلال ترفيههم بأهم الفنادق بغية دفعهم للتصويت لها في الانتخابات الداخلية في مركز الحزب قبل نحو العامين.

لكن الفضيحة الكبرى، التي اثارت اصداء واسعة وليس في اسرائيل وحدها، تبقى الكشف المتتابع عن فضائح الكسب السريع وغير الشرعي للاموال الطائلة من قبل اريئيل شارون نفسه وولديه وابرزها تلك المعروفة بـ"الجزيرة اليونانية". ورغم توصية المستشار القضائي باغلاق ملف هذه القضية وعدم اصدار محكمة العدل العليا قرارا بعكس ذلك، ضمن التماسين قدمهما في حينه النائب يوسي سريد من "ياحد –ميرتس" والنائب ايتان كابل من "العمل"، الا أن غمامة سوداء بقيت تظلل رأس رئيس الوزراء سيما وانه تم تقديم مقدم الرشوى، المقاول الكبير دافيد ابل، للاجراءات القانونية، ما دفع الكثيرين من المراقبين والمعلقين في الاوساط القضائية والاعلامية والسياسية الى التساؤل عن هذا المنطق الذي وصفوه بـ"الاعوج".

"الشرطة للدولة لا للحكومة"

وازاء تفشي ظاهرة الفساد في مراكز صناعة القرار والحكم سارع رئيس محكمة العدل العليا، احد اهم رموز السلطة القضائية، القاضي أهارون باراك، الى التدخل عبر تصريح صارم اكد فيه ان كل رجالات الجمهور عليهم ان يدركوا انهم ليسوا فوق القانون . وفي إشارة لقضية هنغبي اضاف باراك "جبروت السلطة لا تمنح الرخصة للاخلال القانون. مخالفة القانون هي عملية محظورة وكم بالحري عندما يجري الحديث عن رجل جمهور من المفروض ان يشكل قدوة للمجتمع برمته. وهنا لا بد من التوضيح انه لا سيادة على رجل الشرطة سوى سيادة القانون فهي ليست مؤسسة خاصة او شرطة الحكومة انما هي شرطة الدولة".

كما ان وزير القضاء يوسف لبيد، الذي ملأ فمه بالماء وقص لسانه الصحفي الطويل حيال تجاوزات وقضايا حساسة كما حصل في فضائح الرشى التي تورط فيها اريئيل شارون وولداه، اختار هذه المرة ان يكون اكثر حزما وصراحة في انتقاده، فقال لـ"يديعوت احرونوت" : "هنالك دول قليلة فقط يقوم فيها المستشار القضائي باصدار تعليماته بفتح تحقيق ضد وزيرالشرطة. القضايا التي سيتم التحقيق بشأنها مع الوزير هنغبي غير جديدة ولا تدلل على انحدار المجتمع الاسرائيلي فهذه قضايا معروفة منذ قيام الدولة لكن المجتمع اليوم ليس مستعدًا لامتصاصها. ما نفعله اليوم هو اشارة موجهة لكافة السياسيين والنشطاء مفادها ان ما كان بالامكان غض النظر عنه لم يعد مقبولا. انا لا استطيع ان اقول ان هنغبي سيحاكم ولكن بوسعي التأكيد انه منذ الآن سيصبح السياسيون اكثر حذرا". الا ان بعض المراقبين الاسرائيليين قللوا من اهمية مثل هذه التحذيرات مشيرين الى ان ظاهرة الفساد في السياسة الاسرائيلية تجذرت واستفحلت ولا يمكن معالجتها بالتصريحات الصحفية.

في زاويتها الاسبوعية ضمن البرنامج الاخباري الموسع، الذي بثته القناة الثانية يوم الجمعة الاخير، هاجمت الصحفية شيلي يحيموفيتش سلوكيات وزير الأمن الداخلي تساحي هنغبي وفي الوقت نفسه حملت على الكثير من منتقديه في الحلبة السياسية الاسرائيلية واتهمتهم بالنفاق واعتماد "معايير مزدوجة" مشيرة بذلك الى ان ما يكشف عنه لا يتعدى كونه قمة الجبل الجليدي.

"هنغبي مخالف مع ذيل طويل من الخروقات"

وبسبب نشاطها الدؤوب والفعال باتت "الحركة من اجل جودة الحكم" في اسرائيل تثير رعب السياسيين بما لا يقل عن وسائل الاعلام التي تتوانى في استخدام كافة اسلحتها للدفاع عن نظافة الاجهزة، سيما وان هذه الحركة لا تتردد بالتوجه إلى المحكمة العليا لاحباط صفقات مشبوهة وتقديم الشكاوى ضد كبار القادة السياسيين وفضحهم امام الجمهور الواسع. وقد اعتبرت الحركة المذكورة ان اضطرار هنغبي الى ابعاد نفسه عن وزارة الأمن الداخلي بشكل مؤقت ريثما يتم التحقيق معه يعد انتصارا لها ولضغوطاتها، فيما اثيرت تساؤلات كثيرة وملحة حول مدى نزاهة عملية التحقيق مع الوزير من قبل محققين يعملون في وزارته.

وفي حديث موسع لموقع "واينت" التابع لـ"يديعوت احرونوت" أعرب رئيس "الحركة من اجل جودة الحكم"، المحامي اليعاد شراجا، عن قلقه من مخاطر التقاء المال بالسلطة واتساع دائرة الفساد في اروقة الحكم المركزي لافتا الى انه لا حاجة لان يكون المرء عبقريا حتى يستنشق الروائح الكريهة المنبعثة من صفقات تعقد بين الحكومة وبين رجال اعمال. واستهل شراجا حديثه بنعت الوزير هنغبي بأنه "مخالف مثابر يجر ذيلا طويلا من المخالفات"، مشيرا الى ان قضية التعيينات لم تكن الفضيحة الاولى التي تورط بها هنغبي فهو، منذ ان دأب على الاعتداء على الطلبة العرب في الجامعة العبرية في القدس بالسلاسل الحديدية، ينتهج طريقا مزدحمة بالتجاوزات والمخالفات الخطيرة. واضاف "هذا الرجل من المحظور ان يشغل منصب وزير".

"مناجم ذهب بأسعار العدس"

وتعنى هذه الحركة، التي يحتل اسمها العناوين الرئيسة في الاونة الاخيرة، بمحاربة التجاوزات والخروقات داخل مراكز السلطة فهي تشتكي اولا امام الوزراء وكبار الموظفين انفسهم في مسائل فساد يشتبه بتورطهم فيها قبل ان تبادر الى الكشف عنها في الاعلام وتقديم الدعاوى القضائية في الشرطة وفي محكمة العدل العليا. وافصح شراجا في المقابلة معه عن ان حركته تبدي مؤخرا اهتماما واسعا بالمجال الاقتصادي اكثر بكثير من السابق منذ ان تأسست قبل 15 عاما وذلك من اجل البحث عن قضايا الفساد الحقيقية حيث يكمن المال الكبير، لافتا الى ان تصاعد حجم الخروقات تزامن مع ظاهرة الخصخصة للشركات الحكومية في ظل انتهاج وزير المالية بنيامين نتنياهو سياسة السوق الحرة المفرطة في ليبراليتها. وكشف شراجا ان حركته اكتشفت ان الحكومة باعت الكثير من شركاتها لجهات استثمارية خاصة بـ"اسعار العدس"، ما يثير الشبهات ان امورا خطيرة قد تمت وان المخفي اعظم، ويعطي امثلة على ذلك ابرزها قيام الحكومة ببيع شركة السفن والملاحة البحرية "تسيم" الى الاخوين عوفر، التي تستحق اربعة الى خمسة اضعاف ثمنها المدفوع. واضاف "بعد ابتياع الشركة من قبل الاخوين عوفر قفزت ارباح الشركة بالاف النسب المئوية ليتضح ان الدولة قد فقدت منجما للذهب. وكما هي الحال في شركات اخرى سرعان ما انتقل موظفون حكوميون الى العمل في صفوفها بعد ان كانت لهم صلة ببيعها لاصحابها الجدد ، مشغليهم الجدد". ويؤكد رئيس الحركة ان عمليات بيع الشركات الحكومية تتم بدون مناقصات خلافا للقانون وان الخاسرين هم المواطنون جراء هذه الصفقات. كما اشار شراجا الى صفقة بيع "دائرة اراضي اسرائيل" مساحة واسعة من الاراضي إلى افراد من عائلة دانكنر باسعار مخفضة على ان تستخدم في تطوير مشاريع صناعية وزراعية الا ان اولئك سارعوا إلى بناء بيوت فخمة عليها.

حزب "العمل" يحاول ركوب الموجة

ووسط هذه الموجة من فضائح الفساد اعلن حزب "العمل" عن حملة جديدة للكشف عن المزيد من خروقات اقطاب حكومة الليكود بهدف اقناع الجمهور بحيوية اسقاطها واستبدالها على غرار حملة "يا فاسدين سئمنا منكم وحلوا عنا"، التي سبقت سقوط حكومات سابقة برئاسة حزب "العمل" نفسه الذي غرق اكثر من مرة في مستنقع الفساد الناتج عن ممارسات رموزه. فهل ينجح في ركوب موجة الفساد هذه في سعيه نحو الوصول الى سدة الحكم؟.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات