المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لعلّ المؤرخ والصحافي الإسرائيلي توم سيغف كان الأكثر إصابة للهدف حين كتب من جملة المعلقين والمحللين الذين كتبوا، وهو يخطّ رسمًا بيانيًا لما اصطلح على تسميته بـ"تركة شارون" أو "وصيته السياسية" بعد أن أضحى غيابه عن الساحة السياسية الإسرائيلية من "الأسرار المفضوحة"، يقول: لم يرَ ابن المزارعين من كفر ملال (المقصود أريئيل شارون) في الجيوش العربية خطراً أساسياً على إسرائيل: فالخطر الأكبر كان يتبدّى له من العرب المقيمين في أرض إسرائيل. وقال ذات مرة "إنني لا أكره العرب، ولكنني على وجه اليقين أؤمن عميق الإيمان بحقوقنا التاريخية على أرض إسرائيل وهذا يفاقم بشكل طبيعي من موقفي تجاه العرب". وهو يقصد عرب البلاد. لقد كانوا العدو الأساس له، مدنيين كانوا أم عسكريين، إذ لم يعتد شارون التمييز بينهم. فقد رأى في هؤلاء وأولئك خطرًا على الهوية القومية لإسرائيل ("هآرتس"، 13/1/2006).

وأضاف سيغف: ...وشارون لا يختلف في ذلك عن الآخرين (من القادة الصهاينة). فمنذ اليوم الأول لبدء مشروعها في فلسطين أدركت الحركة الصهيونية أنها ستواجه مقاومة عربية. ومنذ اللحظة الأولى التي وصل فيها الطلائعيون لم يكفّ اليهود في البلاد عن السجال فيما بينهم عن أفضل طريق للتعايش مع "المشكلة العربية". وقد درسوا كل احتمال يقع بين ترحيل العرب إلى مناطق أخرى وإقامة دولة ثنائية القومية، كما اختبروا كل احتمالات تقسيم البلاد، ولكنهم (في خضم ذلك) أجمعوا على مبدأ أساسي: أرض أكثر وعرب أقل.

إصابة الهدف هنا أعني فيها على وجه الخصوص، من جهة تسمية "تركة شارون" باسمها الحقيقي، ومن أخرى وضع هذه الـ"تركة" في سياقها الطبيعي، الذي يؤصل الأشياء بإعادتها إلى جذرها الحقيقي- وهو تعاطي الحركة الصهيونية مع "المشكلة العربية"، من منطلق مسبق البرمجة ومسبق الأدلجة، ينسحب على شارون كذلك.

وفي اشتداد السياسة الإسرائيلية الرسمية مؤخرًا حيال المواطنين العرب تحديدًا، خبثًا ولؤمًا، تضييقًا وتقتيلاً، يكمن الدليل القاطع الذي يؤكد موقف شارون السالف، وأنه موقف تسلسلي.

والآن عشية المعركة الانتخابية القريبة ليس من المبالغة القول إن هناك إجماعًا صهيونيًا يتماشى مع المبدأ الشاروني الأساسي: أرض أكثر وعرب أقل. ويكاد هذا الإجماع يشكل أسّ البرامج الانتخابية للأحزاب الكبيرة كافتها، المنطلق من القناعة بوجوب الانفصال ديمغرافيًا عن الفلسطينيين دون الحاجة إلى تحقيق حل عادل ودائم، أي دون الحاجة إلى الانسحاب إلى حدود العام 1967 ودون حق العودة ودون القدس. وبطبيعة الحال يشمل هذا الانفصال، المرغوب فيه، الفلسطينيين في إسرائيل.

وللمعلومية فإن الانتفاضة الثانية وضعت تلك "القناعة" على نار حامية من الجدل والاستحصال، كما سننعش الذاكرة في سياق لاحق، وإن لم تكن مفقودة في الممارسات الإسرائيلية من قبل الانتفاضة أيضًا. وبما أن هذه المقالة تتزامن مع انعقاد "مؤتمر هرتسليا السادس حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي"، فلا مهرب من ملاحظة أن هذا المؤتمر يشهد على مدار دوراته المنعقدة منذ العام 2000 حتى الآن تصعيدًا في "البحث عن حلول" جغرافية لـ"المشكلة الديمغرافية"، التي باتت في أدبياته نعتًا ملازمًا للوجود العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وخارجه كذلك.

يتمثل الأمر في المؤتمر الأخير، السادس (21-24/1/2006)، في بحث المخطط الذي أعده نائب رئيس "مجلس الأمن القومي الإسرائيلي"، إيهود برافير وتبناه رئيس المجلس، غيورا أيلاند، والداعي إلى ترحيل 40 ألف عربي من البدو في النقب عن أراضيهم بهدف تجميعهم في بلدات جديدة، بالاستناد إلى سابقة فك الارتباط في قطاع غزة وقانون الإخلاء والتعويض.

كما يتمثل في وثيقة عرضت على المؤتمر وتنصّ على تبادل مناطق بين إسرائيل و"دولة فلسطينية عتيدة" أعدتها مجموعة من كبار الخبراء الجغرافيين الإسرائيليين، حجتها الظاهرة إعادة ترسيم "الخط الأخضر" (الحدود)، غير أنها في العمق تستهدف المزيد من الترجمة العملية لمبدأ أرض أكثر وعرب أقل. وبحسب البروفيسور عوزي أراد، رئيس "مؤتمر هرتسليا"، فإن فكرة تبادل مناطق، بما في ذلك مناطق مأهولة بالسكان، ولدت لدى خبراء في الجغرافيا قبل حوالي عشر سنوات ("يديعوت أحرونوت"، 20/1/2006). وقد وجدت الفكرة هوًى في نفوس علماء سياسيين مثل البروفيسور شلومو أفنيري، قالوا إنها خيار لا ينبغي رفضه بالمطلق، وكذلك في نفوس سياسيين تمّ استمزاج آرائهم في هذا الشأن مثل السكرتير العام السابق لحزب "العمل"، د. رعنان كوهين ونائب وزير الدفاع الأسبق، النائب العمالي إفرايم سنيه. وأضاف أن الفكرة جرى فحصها أيضًا في إطار "مديرية السلام" التي أنشأها إيهود باراك ومن قبل بنيامين نتنياهو وأريئيل شارون، ولم يتم رفضها إطلاقًا.

وسبق للبروفيسور أريك كرمون، رئيس "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، أن أخذ على أراد ما اعتبر أنه انضمام حديث إلى "الأصوات الصادرة من مقاعد اليمين المتطرف في إسرائيل بشأن تقيؤ بلدات عربية من إسرائيل في اتجاه فلسطين"، وذلك ضمن قراءة في صحيفة "هآرتس" (11 كانون الأول 2005) لمقال ظهر لأراد في صحيفة "نيو ريبابليك" بتاريخ 28 تشرين الثاني 2005، ولكن ليس من موقع التضاد مع هاجس الحفاظ على الطابع اليهودي لإسرائيل، مرة واحدة وأخيرة.

أضاف كرمون أن تلك الأصوات تدعو، تحديدًا، إلى "تبادل مناطق مأهولة بالسكان" بحيث يتم إخراج "جمهور عربي إسرائيلي من تخوم سيادة دولة إسرائيل". ومضى قائلا إن طعون أراد عنصرية الطابع وتمسّ بحقوق الإنسان، وبالتالي بأركان الديمقراطية، فضلاً عن أنها تتعارض مع الأنماط والمعايير الدولية وغير قابلة للتطبيق العملي. وزاد أن أراد يسوّغ ميكانيزم تبادل المناطق بحجة "زيادة التجانس الإثني". ومعناه نقل خط الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية العتيدة، بحيث أن بلدات أم الفحم وعرعرة وبرطعة وقلنسوة والطيبة والطيرة وكفر قاسم "يتم تقيؤها من نطاق السيادة الإسرائيلية".

في واقع الأمر فإن تلك الأصوات لم تعد، منذ مدة طويلة، منحصرة في اليمين الإسرائيلي المتطرف، وإن ما يجري التداول فيه الآن هو حصاد ما تمّ التلويح به، على الأقل منذ أن بدأ مؤتمر هرتسليا في الانعقاد متوخيًا أن يؤسس "مداميك المناعة والأمن القومي الإسرائيلي" في مستهل ألفية جديدة، حيث ورد في وثيقته التأسيسية أن التهديد الديمغرافي لاستمرار وجود دولة إسرائيل كيهودية وديمقراطية هو الأكثر قربًا ومعقولية. وفيما تبدو وتيرة تطور التهديد متسارعة، فإن وتيرة السياسة القومية حيال هذا التهديد تبدو بطيئة وزاحفة.

كما جاء فيها أن المعضلة المبدئية التي تقف إسرائيل أمامها، إزاء المعطيات والاتجاهات الديمغرافية لدى الفلسطينيين، هي بين سياسة تكيّف وملاءمة مع تلك المعطيات والاتجاهات، من ناحية سياسية وغيرها، وبين سياسة كبح ومواجهة. والحسم بين الخيارين منوط بفهم طابع إسرائيل المستقبلي وشخصيتها السياسية.

سياسة التكيّف مرغوبة لدى المؤيدين لأن تكون إسرائيل "دولة لجميع مواطنيها"، من خلال ملاءمة طابعها القومي ورموزها ومؤسساتها مع الميزان الديمغرافي- السياسي المتغير.

مقابل هؤلاء، هناك المؤيدون للحفاظ على إسرائيل كما أنشئت- كدولة يهودية للشعب اليهودي- وهؤلاء ما زالوا يشكّلون الأغلبية العظمى في أوساط الجمهور اليهودي في إسرائيل، وهم مطالبون صبح مساء بطرح إستراتيجية مضادة تعطي جوابًا نافذًا وفعالاً على الاتجاهات المذكورة أعلاه، "وذلك من خلال الاعتراف أنه في دولة ديمقراطية يمكن حفظ الطابع اليهودي لإسرائيل فقط، إذا لم تنخفض نسبة الأغلبية اليهودية عن حوالي ثلاثة أرباع السكان".

وفي رأي هؤلاء يكمن سحر خيار التكيّف في كونه سلبيًا بالأساس، فهو غير مرتبط باحتكاكات، ولا يلزم بأية تحركات فاعلة، باستثناء تنازلات تدريجية عن الأفضلية اليهودية في إسرائيل. مقابل ذلك فإنّ خيار المواجهة يستوجب إستراتيجية فاعلة شاملة تدمج بين إجراءات في مستويات مختلفة، غالبيتها الساحقة مرتبطة بالتغلب على عراقيل ومعارضة، ومرتبطة بهذا القدر أو ذاك باحتكاك داخلي، وربما حتى باحتكاك دولي.

وفيما يلي تصوّر تلك الوثيقة بشأن المركبات الممكنة لإستراتيجية المواجهة، التي "تحثّ" عليها:

- سياسة ولادة، توازن العلاقة بين نسب الزيادة الطبيعية في أوساط اليهود والفلسطينيين.

- سياسة تشجيع واستيعاب هجرة (يهودية) متسارعة.

- سياسة ترسيم حدود الدولة المستقبلية، من خلال أخذ معايير حفظ الأغلبية اليهودية في الحسبان.

- موقف حيال قضية اللاجئين يكمن، في أقصى الحالات، عودة إلى مناطق السلطة (الوطنية الفلسطينية) فقط.

- سياسة توزيع السكان اليهود في إسرائيل، بصورة تضمن أغلبية يهودية في أقاليم البلاد المختلفة.

- سياسة جديدة بالنسبة لحقوق الأقلية العربية وواجباتها في إسرائيل، من جهة، وبالنسبة للإسرائيليين في الخارج، من جهة أخرى.

وهكذا فإنه بالعودة إلى ما تناقلته "يديعوت أحرونوت" عن عوزي أراد وعلى صلة مع خطة "فك الارتباط" يبدو أن الأيام المقبلة ستكون حبلى بالخطوات، التي لن تنأى عما بقي من "تركة شارون" أو "وصيته السياسية" وستظل تنهل من نبعها العكر نفسه.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات