المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

صادفت الأسبوع الماضي الذكرى السنوية الرابعة للمؤتمر الدولي ضد العنصرية المعروف بمؤتمر ديربان، نسبة الى موقع انعقاده في مدينة ديربان في جنوب أفريقيا.

لقد انعقد هذا المؤتمر ضمن مؤتمرات الأمم المتحدة وكان مخصصا للحكومات، وعقد مؤتمر مواز له للمنظمات غير الحكومية. وإن تم التخطيط له دوليا أن يكون مؤتمرا إضافيا فان صوت شعوب العالم وصوت كل الفئات المظلومة، ضحايا الاستعمار والعنصرية والتمييز، كان أقوى من أي جدار حاولت الأنظمة في العالم او المنظومة الدولية حصره فيه، ليثير نقاشا وصخبا لا يزال مفصليا في حركة مؤسسات المجتمع المدني ودورها والتعامل معها. ولا تزال ماثلة العبرة التي صدرت عن رئيسة مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في حينه ماري روبنسون، التي أكدت ما معناه أن الأمم المتحدة والحكومات توخت من المنظمات غير الحكومية أن تكون عاملا مساعدا للحكومات في مؤتمرها إلا أنها شكلت عاملا لتأجيج النقاش العالمي حول العنصرية، وبالذات كان المقصود حول تبعات الاستعمار واستعباد خيرات الشعوب والصهيونية وإسرائيل كمشروع عنصري كولونيالي.

وأهمية تأكيد ذكرى هذا المؤتمر الضخم ناتجة عن تأثيره على النقاش العالمي وتبيانه الطاقات الكامنة في الشعوب وقوة صوتها، وعلى نقاش العدالة والحقوق التي هضمت تاريخيا لكن لم يسلّم بها من قبل أصحابها. كما ان هذا المؤتمر أشار الى الروابط بين قضايا شعوب العالم ما أتاح المجال لتلمس الفكرة في إطلاق حركة تضامن عالمية بين شعوب العالم. كما أن لمؤتمر ديربان تأثيرًا عميقًا جدا على مجمل عمل المنظمات غير الحكومية وعلى مؤسسات المجتمع المدني في العالم وعلى الطاقات الهائلة في هذه المؤسسات فيما لو حافظت على استقلالية جدول أعمالها وتمثيلها لمصالح شعوبها، وفي الوقت ذاته يشكل خطرا على عملها فيما لو وقعت رهينة القوى الاقتصادية والسياسية المهيمنة عالميا والتي أرادتها أداة طيعة في خدمة أهدافها ومخططاتها وفي تثبيت هيمنتها ونظامها وهيمنة قيمها على العالم. كما تيقنا في هذا المؤتمر من محاولات حكومات وأنظمة اختراق مؤسسات المجتمع المدني من خلال تأسيس منظمات تحمل شكل المنظمات غير الحكومية شكلا ورسميا بينما هي أدوات للحكومات في مضمونها وجوهرها وأداة تدخّل من قبلها بهدف حماية انتهاك الأنظمة لحقوق مجموعات مختلفة.

لعل الدروس التي يمكن تلخيصها من هذا المؤتمر تبدو حاليًا على الوجه التالي:

- هناك تضامن عالمي واسع جدا مع القضية الفلسطينية بكل مركباتها، بما فيها الداخل، وهذا التعاطف يحوي طاقات هائلة لكنها غير مستغلة بالشكل الكافي سياسيا وشعبيا، وهي بحاجة بشكل متواصل إلى الفعل الفلسطيني الموجه وهو مسؤولية فلسطينية عليا على كافات قطاعات ومؤسسات وأجزاء الشعب الفلسطيني.

- يوجد دور أساسي فلسطينيا لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في إسرائيل في فضح جوهر إسرائيل وتحديه ومواجهته. وهو دور أصبح أكثر ملموسا وفاعلية في السنوات الأخيرة حيث اتضحت أهميته القصوى في مؤتمر ديربان. وسيكون ملموسا أكثر مستقبلا خاصة في تحريك حملات المقاطعة والإجراءات العقابية ضد إسرائيل.

- حركة التضامن المتبادل العالمية ومصدر القوة والشرعية تجاه الشعوب المظلومة ليس ما يقرره "الشمال" الغني او المستعمر السابق وإنما هناك طاقات كبيرة جدا في تحالف "جنوب- جنوب" اي بين شعوب العالم الثالث او المستعمرة والمستضعفة من قبل القوى الغربية المهيمنة.

- تغيير معادلة التضامن: نحن الفلسطينيين تعودنا أن نتلقى التضامن أكثر مما أن نتضامن مع غيرنا من شعوب العالم. ففي مؤتمر ديربان تأكد أن العالم يتضامن مع الضحية إذا كانت مناضلة وتناضل من أجل حقوقها وحريتها. والتضامن يختلف عن التعاطف، كون التضامن هو فعل منظم وهادف لتغيير واقع من خلال مساندة. وفي مثل مؤتمر ديربان اجتمعت قضايا العالم ومشاكله ليظهر قويا المركّب الآخر للتضامن ألا وهو التبادلية والتضامن كقيمة وحاجة الآخرين لتضامن ضحايا آخرين معهم. وهنا ظهرت حاجة إلى تضامننا مع شعوب ومجموعات أخرى تعاني من ويلات ومآس لا حصر لها. وكجزء مكمل لهذا تعزيز نهج حركات التضامن التي تتضامن مع الشعب الفلسطيني كشعب في الضفة والقطاع والشتات والداخل كقضية فلسطينية واحدة كلها من إسقاطات النكبة.

- وضوح آفاق الدور الذي من الممكن أن يلعبه قطاع العمل الأهلي المنظم في الداخل على مستوى المجتمع المدني العربي إقليميا وعلى مستوى المجتمع المدني فلسطينيا في الوطن والشتات إضافة إلى الدور الدولي. وكذلك أهمية اعتراف المجتمع المدني العربي إقليميا بهذا الدور والاستفادة منه، استنادا إلى أن المركب الكولونيالي والعنصري في دولة إسرائيل ليس وليد احتلال العام 1967 والاستيطان في الضفة والقطاع والجولان بل هو جوهر إسرائيل قبل وخلال وبعد قيامها في العام 1948 وهو ما يلازمها دون انقطاع. وفي المقابل وكأساس لهذه العلاقة فإننا مطالبون في الإسهام في مناهضة التطبيع مع إسرائيل.

- العمل الوطني الجماعي والصوت الجماعي الوطني الديمقراطي والاستعداد لدفع ثمن الموقف المبدئي هي مركبات متكاملة في ضمان المصداقية واحترام الآخرين لنا حتى الخصوم والأعداء. وكل تخلّ عن وضوح الموقف الحازم والمبدئي لن يفيد من يتبناه بل سيلحق الضرر بالجميع. والموقف المبدئي المثابر هو الذي يحرك التضامن معنا كجزء من القضية الفلسطينية وليس قضية إسرائيلية داخلية.

إن الجمعيات هي مؤسسات غير منتخبة جماهيريا وإنها إذ تأتمن نفسها على مصالح شعبنا فهذه مسؤولية هائلة، لأن البيئة الخارجية تشد كثيرا بعكس هذا الاتجاه بل تشد باتجاه المساومة على هذه المسؤولية والأمانة.

- وضوح الحاجة لاستقلالية تمويلية بغية المحافظة على الاستقلالية في المواقف والثوابت وعلى المصداقية الوطنية للمدى البعيد والاستعداد لدفع ثمن المواقف. والاستعداد لحقبة أصبح فيها تدخل مصادر الدعم والاشتراط السياسي للتمويل أكثر مباشرة وفظاظة.

- وضوح حالة محلية هنا بأن هناك من يدفع ثمن موقفه وهناك من يقبض تمويليا ثمن موقفه وثمن موقف غيره. وإطلاق حملة لمواجهة تمييز جهات مانحة بين الجمعيات الأهلية العربية على أساس "متطرفة" أو "معتدلة" فالواقع أكثر تطرفا، بل إن التصنيف المذكور ليس إسرائيليا فحسب بل دولي وفيه محاولة للتسليم بالواقع ومطالبة الجمعيات العربية بالتسليم به ودفع مستحقاته بدل مواجهة جوهر إسرائيل.

- الأخذ بالحسبان أن سلسلة من القوانين المعادية للديمقراطية تم إقرارها في غالبية البلدان الغربية وذلك تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، والتي تفرض نمطا جديدا على الجهات المانحة في تقديم دعمها. ومنها اشتراط الدعم بالتوقيع على نص "ضد الإرهاب والعنف والتعصب والقضاء على أية دولة"، وهي قوانين بادر إليها الكونغرس الأميركي وسرعان ما تبنتها غالبية الدول الغربية.

- الحاجة إلى ميثاق أخلاقيات للعمل الأهلي العربي وبلورة ثوابت وحسم مواقف ومواقع وهو ما يجري بلورته على مستوى قطاع العمل الأهلي المنظم.

- الاستثمار المتزايد والجدي في بناء الذات وبناء المؤسسات وعلاقتها بالناس والمجتمع وحملها الصادق لهمومه كجزء من مواجهة السعي عالميا لخلق جيل جديد من المؤسسات التي تبدو نقدية بلهجتها لكن ضمن المنظومة القائمة وقواعد اللعبة المسموح بها باسم الواقعية السياسية.

- أهمية تقوية العلاقة مع الحركة السياسية والحزبية والأطر الجماهيرية على أساس تقاسم الأدوار كجزء من تنظيم المجتمع والدفاع عنه وتمثيل مصالحه.

- أهمية الحلبة العالمية للتأثير باتجاه حماية أنفسنا كشعب في وطنه مهدد بالاقتلاع والتشريد والملاحقة. والاستفادة من حالة الاعتراف المتزايد بوضعية ودور الجماهير العربية في إسرائيل وذلك على المستوى الدولي رسميا وشعبيا ومواصلة السعي لتعميق وتوسيع هذه الحالة اعتمادا على أنشطة المؤسسات وتقاريرها وعلى عشرات الأبحاث التي يقوم بها باحثون أجانب حول تجربة العمل الأهلي العربي في الداخل وعشرات الوفود والمتطوعين الذين يندمجون على مدار العام في عمل المنظمات الأهلية العربية.

- العنصرية الإسرائيلية كجزء من المشروع الاستيطاني الكولونيالي في تصعيد مستمر ومتواصل سواء على المستوى الرسمي السياسي ومواقع اتخاذا القرار أم على مستوى التشريع أم على مستوى الشارع وكذلك في الممارسات الاقتلاعية وممارسات المصادرة والملاحقة السياسية والمجازر. وقد بلغت حدا دمويا شهدنا مؤشرات تصعيده وفلتانه مؤخرا. وقد يكون تقرير مركز مدى- الكرمل الراصد لهذه العنصرية بمستوياتها المختلفة والذي صدر مؤخرا هو وثيقة هامة ومرجعية تبين التحول الكمي إلى نوعي والى المخاطر المحدقة، وهو يضاف إلى الوثيقة الجماعية التي قدمتها الجمعيات العربية إلى مؤتمر ديربان، هذه الوثيقة وتقرير مدى الكرمل وتقارير عينية لعدد من المؤسسات بالذات المؤسسة العربية لحقوق الإنسان وعدالة من الضروري تبنيها من قبل كل هيئات جماهير شعبنا كوثائق مرجعية لمواجهة العنصرية الإسرائيلية.

واليوم وإذ تماطل إسرائيل في تقديم تقريرها حول العنصرية إلى الأمم المتحدة فإن الجمعيات العربية بتحالفاتها الدولية تسعى إلى تسريع تقديمه ليتاح المجال لها حسب إجراءات الأمم المتحدة لتقديم تقرير مواز يكشف حقيقة إسرائيل. وهذه المرة نستند إلى أدوات جديدة منها الصفة الاستشارية من الأمم المتحدة التي بإمكان كل مؤسسات شعبنا الاستفادة منها إضافة إلى الدعم الشعبي والمؤسساتي الواسع لما أطلقناه قبل سنوات، ألا وهو الحماية الدولية وتدويل قضايانا كجزء من القضية الفلسطينية وليس كمسألة إسرائيلية داخلية.

(*) الكاتب مدير اتحاد الجمعيات العربية (اتجاه) ومركز اللجنة التحضيرية المحلية لمؤتمر ديربان (2001) وفي حينه عضو السكرتارية العربية الإقليمية للمؤتمر.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات