آن الآوان لأن تقيم الجامعات كليات خاصة لدراسة أرئيل شارون، يجري التعمق فيها في التكهن بنواياه السياسية. هكذا يسبغون الصفة الأكاديمية على الهاجس الأساسي الذي يؤرق السياسييين، والدبلوماسيين والصحفيين منذ توليه السلطة. المقابلات الصحفية الأخيرة معه لمناسبة العيد (الفصح العبري)، والتي تحدث فيها عن استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وذهب بعيدًا حتى الى امكانية اخلاء مستوطنات في المستقبل، وفّرت عملاً وفيرًا للمعلقين والمحللين.وبرز "لغز شارون" مرة أخرى: ما الذي يريده حقا؟ الى اين يتجه؟ وازداد الفضول ازاء انتهاء الحرب على العراق، والصراع في القيادة الفلسطينية والتوقع بأن تفرض امريكا النظام.
محللو رئيس الحكومة يتوزعون على اربع مدارس. ثمة منهم من يؤمن بأنه "يريد لكنه لا يستطيع" التوصل الى تسوية مع الفلسطينيين، وعلى رأسهم شمعون بيرس وعمرام متسناع وزملائهما التواّقين الى السلطة. آخرون يعتقدون بأنه "يستطيع ولا يريد"، وخاصة بين اوساط اليسار الذي يتمنى الضغط الأمريكي. وهنالك دعاة التوجه القائل بأنه "لا يريد ولا يستطيع"، وخاصة في اوروبا والعالم العربي. وهنالك الذين يدّعون بأنه "يريد ويستطيع"، كما يقول شارون نفسه، وهو ما يثير تخوف عدد من زملائه في اليمين.
التصريحات السياسية تدل، اساساً، على قصر ذاكرة المستمعين اليها. كولين باول يعد، منذ سنتين، بأنه سوية مع الرئيس يعملان على تهدئة النزاع. مرة كل بضعة اشهر ترسل الادارة الامريكية اشارات بأن الوقت قد حان للتحرك والعمل، وانه لم يعد من الممكن الجلوس جانباً. الدماء تنزف، والمصالح الاقليمية تتعرض للخطر، والحلفاء يضغطون. ثم لا شيء. الأمر ذاته يحدث مع شارون: انه يعرض، ومنذ اليوم الأول، اتفاقات محلية لوقف اطلاق النار، ويروي عن علاقاته الجيدة مع ابي مازن وابي العلاء، خلافا لعرفات "الارهابي وغير الصادق". من يتذكر اقتراحه بشأن اقامة سكة حديدية من غزة الى طولكرم، لكي لا يضطر الفلسطينيون مكابدة الاختناقات في الشوارع؟ وعوده المتكررة للتخفيف عن السكان "الذين لا يمارسون الارهاب"؟ وكذلك "خطة مارشال" لاعادة بناء المناطق؟
من اجل فهم شارون، يجب الكشف عن اعماق بنيته الابداعية، مثل حُبه الكبير للأرقام ("سبعة ايام من الهدوء"، "المطالب الستة من سوريا"، "المركّبات الخمسة في المجهود ضد الارهاب")، وميله المعروف الى القول "نعم، ولكن"، بدلا من الرفض. الحفر الى ما هو اكثر عمقا من شأنه ان يكشف عن فكرتين اساسيتين : الأولى ـ هي "إفشال على سبع مراحل" لكل المبادرات السياسية، والثانية ـ "رادار الضغوط" الذي يؤشر لشارون متى يكون الامريكان جديين.
هكذا تعمل "مراحل الإفشال السبع": في البداية ينتظرون لسماع التفاصيل، ثم يتم قبول المبادرة "كأساس للنقاش". شارون يقترح "ملاحظات وتعديلات". اذا نجحت المبادرة في تجاوز هذه المرحلة، يجب عندئذ "معالجة التطبيق". الآن يتم وضع مطالب هائلة امام الفلسطينيين، واذا لم يكن بُدّ، يطلقون كلمة ايجابية. ولكن، لا يجري ، ابداً، ابدًا، وضع هذه المبادرة في اختبار سياسي في الحكومة المتعددة الوزراء اليمينيين. هكذا تم التعامل مع المبادرة المصرية ـ الاردنية (من يذكرها؟)، وخطة ميتشل، والمبادرة السعودية وخارطة الطريق.
الجهاز الثاني يراقب واشنطن، على الدوام. قبل زيارات شارون الى هناك، وفي فترات الانفراج المماثلة، يتم الاعلان عن "تسهيلات" للفلسطينيين ويقوم شارون بالتقاء مجموعة من "المعتدلين" منهم. يتم نسيان كل شيء فور عودته، تمامًا مثلما يقدم مبارك بعض المكرمات لاسرائيل وهو في طريقه الى الولايات المتحدة، بينما يشن هجومًا عليها في طريق عودته. إن كانت اسرائيل بحاجة الى مساعدة، يوافق شارون على تحرير أموال السلطة. واذا ما ضغطت امريكا بشكل جدي، كما حصل خلال الحصار على المقاطعة، فان شارون يتراجع. ليس صدفة ان المبادرة الوحيدة التي قبل بها هي خطاب بوش، وحتى هذا "بشكل مبدئي" فقط. قبل عيد الفصح طلبت الادارة الامريكية لفتة حسن نية في موضوع المستوطنات، فألمح شارون الى امكانية الاخلاء في المستقبل.
اذن، ما الذي يريده حقاً؟ من الصعب معرفة ذلك، ومن المشكوك فيه ما اذا كان هو نفسه يعلم هل يقصد افشال وتجميد اية عملية سياسية، ام انشاء هوامش امنية ضرورية في مواجهة "خصم قاتل وغير ذي صدقية" كالفلسطينيين. من الواضح فقط ان شارون معني بالمحافظة على حرية التصرف، ولا يسارع في اتخاذ القرارات طالما بقي لديه خيار.
(هآرتس ـ 24/4)