في واشنطن تعلموا أن إستثماراتهم في وزير الخارجية (دافيد ليفي) وفي وزير "الأمن" (يتسحاق مردخاي)، في حكومة نتنياهو، عادت بفائدة حقيقية قيمتها صفر. كما أن الاستثمار في وزير الخارجية (شمعون بيرس) وفي وزير "الأمن" (بنيامين بن إليعيزر) في حكومة شارون لم يساعد الأمريكيين على تحويل وثائق ميتشل وتينت وزيني إلى مستندات ذات قيمة. وعلى الرغم من التجربة التي علّمت أن رئيس الحكومة في القدس هو وحده من يقرر، فقد تفرغ نائب الرئيس ديك تشيني ومستشارة الأمن القومي في البيت الأبيض كوندوليسا رايس، من الحرب على العراق، لكي يلتقوا بسيلفان شالوم.
كما أن وزير الخارجية كولين باول، لم يكتفِ، كما هو متبع، بلقاء عمل، ودعا الضيف لتناول الطعام معه. منذ أن انتقل شالوم من وزارة المالية إلى وزارة الخارجية، قبل أقل من شهر، اتصل به باول أربع مرات. محادثة في الأسبوع في المعدل.لماذا يجتهد الأمريكيون بهذا القدر في دحرجة بساط أحمر تحت رجلي وزير الخارجية الجديد؟ لا يمكن الافتراض أنهم يؤمنون بجدية، بأنه سيدحرج على عتبتهم بالمقابل "خارطة الطريق". ومع ذلك، فإن شالوم هو أحد الوزراء القلائل في "الليكود" الذي لا يدفعه التعبير "دولة فلسطينية" إلى قذف الحمم والنيران. وفي حالة قرر شارون تبني "خارطة الرباعية"، فإن شالوم سيكون الوزير الوحيد الذي سيكون بمقدروه تجنيد الدعم للخارطة عند مئات من أعضاء مركز "الليكود". ومن المعقول أن هذه النقطة تفسر لهفة باول لاستضافة وزير الخارجية الجديد، واختلاق عدد لا نهائي من الحجج لعدم دعوة سابقه، بنيامن نتنياهو. وفي كل ما يتعلق بالعملية السلمية، فإن نتنياهو يُعتبر في وزارة الخارجية الأمريكية حالةً ميئوسًا منها.
ومن وراء زيارة شالوم إلى واشنطن، كما في كل مسألة إسرائيلية في العاصمة الأمريكية، تختبئ أيضًا قصة يهودية مثيرة جدًا. ففكرة دعوة وزير الخارجية نشأت عند رؤساء اللوبي البرو- إسرائيلي، "أيباك". وهذا حدث بعد أن أعلن رئيس الحكومة، شارون، عن أنه، ولأسفه، لن يستطيع إلقاء كلمته هذه السنة في المؤتمر السنوي للّوبي. شالوم، الذي دُعي لملء مكان شارون على منصة الخطباء، إلى جانب باول، أعلن أن سيُسر في المجيء. ولكنه إشترط شرطًا واحدًا- أن يرتّب له المنظمون لقاءات مع رؤساء النظام. وإذا لم يكن بوسع الرئيس أن يمنح الوزير من إسرائيل بعضًا من وقته الثمين، فإنه سيكتفي بنائب الرئيس وبوزير الخارجية. ومن الممكن أن تشكل أجندة شالوم الواشنطنية المزدحمة، في عزّ حرب عسكرية ودبلوماسية إشكالية، دليلا في الكتب الدراسية عن تأثير القيادة اليهودية عامةً، و"أيباك" خاصةً.
تعديلات على صفقة الرزمة
راهن مدير مكتب شارون، دوف فايسغلاس، بكل ثقله المهني كمحامٍ رفيع، على "خارطة الطريق". وقد عاد وأكد أمام أعضاء "الكابينيت" الاسرائيلي على أن موضوع التعديلات موجود تحت السيطرة. واقترح فايسغلاس ألا ينفعلوا من التصريحات الأوروبية وحتى من البلاغات التي خرجت من وزارة الخارجية في واشنطن، وألا يظنوا أن ساعة الحسم قد حانت، ويجب البدء بتطبيق الخطة.
ولكن تغييرًا طرأ على نغمة حديث مدير مكتب رئيس الحكومة، في الأيام الأخيرة. وفايسغلاس غير مستعد للمراهنة بعد على أن الولايات المتحدة ستفرض على سائر زميلاتها في "الرباعية" تجديد التفاوض على التعديلات. وحتى أن أحدهم سمعه يقول إنه "من الممكن العيش" مع الصيغة الصادرة بتاريخ 20 كانون الأول السنة الماضية. وهذه هي نفس الصيغة التي يكرر الرئيس بوش ومساعدوه، ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير ومساعدوه، التطرق إليها، كل مرة من جديد.
ومن المفهوم ضمنًا أن "خارطة الطريق" سترافق سفرة شالوم إلى واشنطن منذ بدايتها –لقاء السكرتير العام للأمم المتحدة، كوفي عنان- وحتى نهايتها، الغداء مع كولين باول. وعلى الرغم من أن وزير الخارجية ومكتبه لم يكونوا ضالعين تقريبًا في الاتصالات لتعديل الخارطة، إلا أنه لن يتنازل عن الفرصة المتاحة ليثبت أن ما يستطيع المحامي فايسغلاس فعله، فإن الوزير شالوم يستطيع أن يفعله بشكل أفضل. وتساعده في ذلك الأنباء الكثيرة التي نُشرت في العالم، عن أن إسرائيل تطلب إدخال عشرات التعديلات على "خارطة الطريق".
وكما في القصة الشهيرة عن إخراج العنزة من الغرفة المزدحمة، فإنهم في وزارة الخارجية يقولون إنهم يملكون علامات تدل على أن المضيفين سيسرون لإتمام الصفقة، في حالة عرض شالوم لنصف دزينة من التعديلات.
السؤال، طبعًا، لا يكمن في عدد التعديلات وإنما في جودتها. ومن أجل قتل الخارطة في مصغرها، يكفي تعديل واحد، مثل حذف كلمة "المستقلة" التي تتبع كلمتي "الدولة الفلسطينية"، أو تأجيل الموعد المضروب لتجميد المستوطنات.
دحلان يفرض شروطًا
منذ إنتخاب "أبو مازن" رئيسًا أول للحكومة الفلسطينية، تحول إلى واحد من المرغوب بهم جدًا في واشنطن. إلى درجة أن الأمريكيين سُروا لسماعه يقول إنه من المفضل تأجيل الدعوة التي تلقاها من النظام لزيارته الأولى إلى واشنطن، بصفته الجديدة. وقد وافق الطرفان فورًا على أن صدى التفجيرات في عاصمة عربية ليس مُرافَقة موسيقية لائقة، للضرب في البوق على شرف قائد عربي فتي. ويفهم الطرفان أنه في الوقت الذي يحارب فيه الأمريكان العربَ في الصحراء، فإنه من غير المريح بمكان الجلوس في فندق فخم والتحدث عن "خارطة الطرق".
"أبو مازن" فرحٌ إذًا لتبني "خارطة الطريق" التي عرضها عليه الأمريكان، إلى حين قيام صدام حسين بإخلاء الحلبة: أولا تركيب حكومة جديدة، وبعد ذلك حملة تجنيد دعم وأموال في الدول العربية. المرحلة القادمة هي زيارة العواصم الأوروبية، التي بدأت بالتنافس أيها ستستضيف القائد الجديد أولاً. واشنطن ستنتظر بصبر في نهاية الطابور.
المرحلة الأولى، وهي تركيب الحكومة، ليست بالأمر الهيّن أبدًا. فمن المفترض أن تمثل الحكومة الفلسطينية أفضل تمثيل، شمالي وجنوبي الضفة، قطاع غزة (الذي يشتكي منذ مدة من تمثيل منخفض في المؤسسات العليا) والقدس الشرقية. كما يجب أيجاد التوازن الصحيح بين المدن، القرى ومخيمات اللاجئين، بين القدامى وبين رؤساء العودة الكبيرة من تونس. هذه "الخلطة" هي لعبة أطفال مقابل التحدي الأكبر- تقسيم الغنائم بين الرئيس وبين رئيس الحكومة. وما سيقرر في النهاية من سيكون الزعيم الحقيقي، أكثر من الاصلاحات والبنود الدستورية، هو ميزان القوى بين معسكر عرفات وبين معسكر "أبو مازن".
وتعي الولايات المتحدة، سوية مع زميلاتها الثلاث في "الرباعية"، الخطر الكامن في أن يحيط عرفات رئيس الحكومة بمقربيه ويحّوله بذلك إلى لعبة. ولذلك، فإن "الرباعية" لا ترتاح على سرير من الورود. فبعد أن أغلقوا باب مكتب رئيس الحكومة أمام عدد من مقربين رغب عرفات في تكريمهم (منهم هاني الحسن ونبيل شعث ومنيب المصري)، تفرغوا للاعتناء بقائمة الوزراء.
ومثلما يحدث في حكومات كثيرة في العالم، ومنها الحكومة المجاورة في القدس، فإن وزارات المالية والأمن والخارجية في رام الله تُعتبر المراكز الهامة. وبحسب التفاهم الذي بُلور في واشنطن، فإن عرفات سيضطر إلى التنازل عن إثنتين من هذه الوزارات الثلاث. وسالم فياض، الذي يُعتبر رجل إقتصاد وأموال، يفتقر للقاعدة السياسية وبالتالي فهو غير متعلق بعرفات، سيستمر في شغل منصب وزارة المالية؛ وزير الداخلية، هاني الحسن، المسؤول عن التنظيمات العسكرية، لم ينجح في تثبيت مكانة مشابهة لنفسه ولذلك سيضطر للذهاب. عرفات يرغب في تغييره بمخلص آخر، يوسف ناصر، لكنه تراجع تحت ضغط من "الرباعية". المرشح المتفق عليه الآن هو محمد دحلان، الذي يبدي مستوى معينًا من الاستقلال السياسي، كما يفعل فياض.
وهناك معوّقان إثنان يعيقان تعيين دحلان في المنصب. الأول، هو حساب مفتوح مع "أبو مازن"، الذي يدعي أن دحلان حرّض عائلات الأسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، ضده. المعوّق الثاني، هو الشك في أن دحلان مقرب أكثر من اللازم للأمريكيين ويحافظ على علاقات مقربة أكثر من اللازم مع الاسرائيليين. دحلان نفسه يفضل منصب مستشار الأمن القومي، قليل الصلاحيات والمسؤوليات. وقد ألمح إلى أنه سيقبل بما تقرره الحركة، وسيدخل إلى وزارة الداخلية فقط في حالة حصوله على ضمانات أكيدة بأن أريئيل شارون لن يبعث به لمحاربة "حماس" بأيدٍ فارغة. وهو يطالب بضمان حرية العمل العسكري في بداية الطريق، وبمردود سياسي في نهايته.
ومقابل تنازل عرفات عن هذه الوزارات الثلاث المهمة، فإن "أبو مازن" وافق على "بلع" تواجد ثلاثة من مخلصي الرئيس حول طاولة حكومته: نبيل شعث، وياسر عبد ربه وصائب عريقات. وتشهد أقوال أدلى بها الأخير لمجلة "بلستاين- أيزرائيل جورنال"، على عمق ولائه للرئيس عرفات. وفي العدد الذي سيُنشر في الأيام القريبة، يدعي عريقات أن عرفات، وفقط عرفات، هو الذي قرر أن الفلسطينيين بحاجة إلى رئيس حكومة. ويدعي عريقات أن عرفات أعلم رئيس الحكومة البريطانية، توني بلير، بذلك، في 22 كانون الثاني. "وعندما علم ممثلو ‘الرباعية‘ بذلك"، يقول عريقات، "بدأوا بالوصول إلى مكتب عرفات، من أجل خلق الانطباع بأن الأمر كان بمبادرتهم ومن عطائهم".
(هآرتس، 27/3، ترجمة: "مـدار")