فاجأ وزير الدفاع الأميركي الجديد، روبرت غيتس، كبار المسؤولين الإسرائيليين عندما صرَّحَ أمام الكونغرس (في الخامس من كانون الأول الجاري) إن إسرائيل تمتلك سلاحاً نووياً. بعد بضعة أيام جاءت زلة لسان رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، أثناء مقابلة مع شبكة تلفزة ألمانية (في 11 كانون الأول) أشار فيها إلى إسرائيل كواحدة من الدول النووية.
بصرف النظر عما إذا كانت هاتان الإشارتان للقدرات النووية الإسرائيلية غير مقصودتين، يخيل أن تحولاً قد طرأ مؤخراً على سياسة إسرائيل حيال التهديد الإيراني. فقد أخذت المحافل الرسمية في القدس بالتخلي عن الجلوس في الظل والتوجه نحو احتلال موقع مركزي أكثر في الحملة ضد إيران. صانعو السياسة في إسرائيل أدركوا أخيراً ما كان معروفاً منذ وقت بعيد في طهران، وهو أن العالم لن يقوم بالعمل الأسود المتمثل بإبطال مفعول القنبلة (الذرية) الإيرانية. ولكن ذلك أيضاً ربما لن يكون كافياً لإحداث تحول حقيقي في ميزان القوى في الشرق الأوسط.
درس مؤلم
التغير في السياسة الإسرائيلية برز للمرة الأولى حينما رفع رئيس الحكومة إيهود أولمرت سقف حرب التصريحات مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. فأثناء زيارته الأخيرة لموسكو (في 18 تشرين الأول الماضي) صرَّح أولمرت أن إسرائيل لن تُسلِّم بوجود إيران نووية. وأكد أن الخوف فقط يمكن أن يرغم إيران على وقف أنشطتها النووية.
والسؤال هو: كيف يمكن لإسرائيل أن تقض مضاجع حكام طهران؟
الدرس الذي يمكن استخلاصه من المعالجة الفاشلة لقضية كوريا الشمالية، هو أن المجتمع الدولي لا يمتلك الآن لا الإرادة ولا القدرة على مواجهة إيران. فروسيا تسعى للمحافظة على إيران كسوق واعد لصناعاتها العسكرية والذرية، وكحصن إستراتيجي في مواجهة التفوق الأميركي في الشرق الأوسط. والصين من جهتها تحتاج إلى "الذهب الأسود" الإيراني. أما الأوروبيون المرتعبون والعاجزون فقد تحولوا منذ وقت بعيد إلى مهزلة، بولعهم الشديد بنظريتهم القائلة "اصنعوا مفاوضات لا حربًا". وبهذا المعنى فإنه لا يمكن أيضاً الاعتماد كلياً على الإدارة الأميركية. فبعد هزيمة الجمهوريين في صناديق الاقتراع، ورياح "بيكر- هاملتون" التي تهب الآن من واشنطن، هناك احتمالية عالية، في ضوء النزيف (الأميركي) المستمر في العراق، أن يفضل الرئيس المقبل في "البيت الأبيض" التركيز على القضايا الداخلية عوضاً عن محاولة دس الديمقراطية في حلق العالم.
في ضوء المعالجة الفاشلة لمسألة كوريا الشمالية قررت إسرائيل أخذ زمام المبادرة. وكشف المسؤولون الإسرائيليون مدى خطورة الوضع في نظرهم عندما عقدت الحكومة، عقب التجربة النووية الكورية الشمالية، (في 12 تشرين الأول الماضي) جلسة طارئة مغلقة، لكن رافقها ضجيج إعلامي، كُرِّست لمناقشة تطلعات إيران النووية. ويمكن الافتراض أنه توجد الآن خطط لبناء قدرات تنفيذية لتوجيه ضربة مؤلمة لإيران وفي الوقت ذاته لحماية سكان إسرائيل من هجوم مضاد، يمكن أن يأتي أيضاً بواسطة "حزب الله"، الذراع "الإرهابية" الإيرانية في لبنان.
قدرة نووية بضوء واضح
بهذا المعنى يمكن القول إن تعيين رجل اليمين المتشدد، أفيغدور ليبرمان، في منصب الوزير المسؤول عن رسم السياسة الإسرائيلية البعيدة المدى لمواجهة التهديدات الإستراتيجية، ينطوي على رسالة واضحة. وفي هذا الإطار سيحدد ليبرمان الخطوات الواجب إتباعها من أجل منع وجود قنبلة نووية إيرانية، وذلك عن طريق الربط والتنسيق بين أجهزة وهيئات المؤسسة الأمنية المختلفة المنشغلة في هذا الموضوع، أي الجيش وجهاز الاستخبارات الخارجية "الموساد" والوكالة الإسرائيلية للطاقة النووية ومجلس الأمن القومي.
وحيث أن عقارب الساعة تدور الآن، فإنه يتعين على الوزير ليبرمان أن يتفحص بنظرة رحبة أكثر ميزان القوى على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية. فبغية مواجهة التهديدات الإستراتيجية في المنطقة لا بد من التخلي عن قوالب سابقة. ويتوجب على ليبرمان بشكل خاص التخلي عن سياسة "الغموض النووي" التقليدية التي تتبعها إسرائيل، وأن يضيء بضوء واضح، على الأقل بعضاً من أنشطة وقدرات إسرائيل النووية.
خلال الحرب الباردة، وحين كانت كلمة "الردع" كلمة حاسمة، خَدَمَتْ سياسة ألـ "لا تعقيب" إسرائيل جيداً فيما يتعلق بالقدرة النووية. لكن طريقة التفكير هذه عفا عليها الزمن. وقد أثبتت أهوال وفظائع هجمات الحادي عشر من أيلول أن هذه المصطلحات والمفاهيم لا تنطبق على أولئك الذين لا يمكن ردعهم، من إرهابيين ودول إرهابية مثل إيران. وتبدو سياسة "الغموض" سياسة أكثر سُخفاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة أن الجاسوس الخائن مردخاي فعنونو وزع بحرية رسومات لرؤوس نووية تمتلكها إسرائيل، وأنه يمكن العثور بسهولة على صور للمنشآت النووية الإسرائيلية في شبكة الإنترنت.
ولكن يبدو أن الوقت قد حان للعودة إلى مصطلح آخر في الصراع بين السوفيات والأميركيين وهو "الاحتواء". ينبغي جعل إيران تشعر بأنها محاصرة سياسياً. وبغية تحقيق ذلك يتعين على إسرائيل القيام الآن بجهد دعائي يستهدف تجنيد روسيا والصين ودول عربية معتدلة لتشديد عزلة إيران.
حل اللغز الذري
هناك خطوة حيوية على طريق بلورة حلف مناوئ لإيران تكمن في حل لغز الذرة الإسرائيلية. فمثل هذا التطور من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام القائلين إن إسرائيل هي التهديد الحقيقي للعالم وليس إيران. والنافذة التي يمكن من خلالها استخراج وتحقيق الفائدة السياسية القصوى من كشف الأسرار النووية هي نافذة الانفتاح أمام مراقبة التسلح. من هنا فإن الخطوة المطلوبة المقبلة من جانب الوزير ليبرمان، والتي ستكون ذات فائدة أكبر، هي الانضمام لأسرة الشعوب عبر التوقيع على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي (NPT).
إن انضمام إسرائيل للدول الملتزمة بالمعاهدة، سيضعها، على المستوى الجيوسياسي، بشكل نهائي كعامل إيجابي في الشرق الأوسط، وستبقى الدول المارقة مثل إيران (وسورية) معزولة في بؤرة الاهتمام العالمي. إضافة إلى ذلك سيشكل الأمر رافعة ناجعة للمطلب بإجبار إيران على الخضوع لإشراف مماثل.
الثمن الذي ستضطر إسرائيل لدفعه يعتبر ضئيلاً نسبياً، ويتمثل بالأساس بفتح المفاعل النووي في ديمونا للرقابة الكاملة من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
آن الأوان الذي يتعين فيه على حكام طهران أن يقلقوا ويعانوا من الأرق. وستكون إزالة الغموض النووي من طرف إسرائيل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه.
____________________________
* ران بورات- معلق في الشؤون الأمنية. ترجمة- "مدار" (المصدر- شبكة الانترنت).