نبدأ بالسؤال: هل يأتي الفرج من.. واشنطن؟. والفرج هذه المرة شخصي بالتمام والكمال، يخصّ مباشرة شخص رئيس الوزراء الاسرائيلي، أريئيل شارون، وتحديدًا على خلفية سيف تقديمه إلى المحاكمة الذي لا يزال مصلتًا، بقوة، فوق رقبته. فمع ظهور هذه الكلمة يكون شارون قد "شدّ رحاله" إلى الولايات المتحدة، التي رأى أحد المعلقين الإسرائيليين أن إدارتها البوشية قد "تشرونت" على خلفية "الحالة العراقية" فحسب، علمًا بأن هذه هي الوجهة الطاغية على سياستها قبل التطورات الأخيرة في العراق بكثير.
المراقب لما بثته وسائل الإعلام الاسرائيلية، عشية هذه الزيارة الأمريكية، بمنهجية بالغة، لا بدّ أن يخرج بانطباع مؤداه أن لقاء شارون مع الرئيس الأمريكي، جورج بوش، هو لا أكثر من "إتمام معاملة إستعراضية" تعود بالنفع على الاثنين فيما هما مقبلان عليه.
وبالتركيز على شارون فمن نافل القول إنه يقوم بهذه الزيارة لكي يحصل على "مباركة" بوش لخطة "فك الارتباط" من طرف واحد، التي تشير معظم الدلائل إلى أنها أصبحت في جيبه، عدّا ونقدًا كذلك. لكن في هذه الأثناء تظل تتردد أصداء إعترافاته الأخيرة بشأن الخطة، في إطار "هجمة المقابلات الصحفية الضارية" التي شنها الأسبوع الماضي، أولاً إلى ناحية أن دافعها يتمثل، قبل أي شيء، في أن لا يتخلف عن ركب "المبادرات" التي تترى في الآونة الأخيرة على خلفية المأزق السياسي القائم، إذ أنه يؤمن بأن نشوء وضعية فراغ سيجعل أمر التداول بمبادرات أخرى مطروحة على الساحة، مهما تكن دوافعها، ممكنًا. وثانيًا إلى ناحية أن "مبادرته" تتغيّا أن "تسدّد ضربة قاصمة إلى الفلسطينيين، لأنها ستحجّم طموحاتهم وستضعها في مأزق كبير، لكون الإنسحاب الأحادي الجانب ضمن خطة فك الارتباط هو ضمانة لها ما بعدها لعدم إقامة دولة فلسطينية داخل حدود حزيران 1967". ونذكّر بأنه عند هذا الحد عاد شارون إلى إطلاق تهديداته القاتلة ضد الرئيس ياسر عرفات أيضًا.
يتوقع شارون، ويظهر أن لديه من ال"معطيات موضوعية" ما يكفي لإسناد توقعه هذا، بأن "تكافىء" الولايات المتحدة، مع رئيس في وضعية "بطة عرجاء" بكل المقاييس، إسرائيل على هذه الخطة ب" قطع حلوى" تقطر عسلا لشارون وسمّا زعافًا للفلسطينيين، لم يعد جوهرها سرًا مدفونًا. "قطع الحلوى" هذه هي رهان شارون على كسب تأييد بنيامين نتنياهو، على طريق تجاوز الاستفتاء على الخطة بين صفوف المنتسبين إلى "الليكود". هذا في المدى المنظور. أما في المدى الأبعد فإن جميع هذه المفاعيل، في حالة أنها لم تخرج عن نصّ السيناريو المسبق البرمجة، هي رهان آخر على تحييد أية لدغة قارصة من القرار المنتظر للمستشار القضائي الحكومي، ميني مزوز، بشأن توصية النائبة الاسرائيلية العامة بتقديم لائحة إتهام بالارتشاء والفساد ضد رئيس الوزراء الاسرائيلي.
بكلمات أخرى، يقايض شارون فضائح فساده، التي زكمت رائحتها الأنوف، بما يحاول الإيهام بكونه حراكًا سياسيًا. بيد أن ذلك لا يحول، حتى الآن، دون الانشغال بتلك الفضائح، زد على ذلك الإنشغال بما تحيل إليه،في موازاة ذلك، من دلالات تشفّ عن كينونة اسرائيل وبناها التقليدية. كما لو أن انكشاف فساد شارون وفضائحه أضحى مناسبة تعيد إلى الأذهان، مثل شريط مشهدي متحرّك، جميع فضائح الفساد التي تورط فيها "ذوو الياقات البيضاء" من النخب السياسية وغيرها. ولا تعنينا الإحصاءات، على أهميتها، التي ترشح من هذا الانشغال بقدر ما تعنينا أشياء أخرى متصلة بذلك، من حيث مبناها ومعناها.
يعتبر "عيد الفصح العبري"، الذي احتفل اليهود به طوال الأسبوع الماضي، عيد الحرية رمزًا للتحرّر من "عبودية مصر الفرعونية". وقد تجلت أفضل حالات الاستعارة الكتابية، برسم هذا العيد، في استحصال مظاهر "حرية اليهود في اسرائيل 2004"، وفقما تراءت للناظرين إليها في قراءات مخصوصة إبان الفترة الأخيرة. ومن ذلك يكفي، لاستكمال الفكرة، أن نشير إلى ما يلي:
(*) التساؤلات العميقة والخطرة التي طرحها المحقق الصحفي في "يديعوت أحرونوت"، مردخاي غيلات، حول الإحتمالات القليلة لبقاء دولة إسرائيل في ظل الفساد والرشاوى وتفشي المحسوبيات والاجرام المنظم وإنهيار الجهاز التربوي والجهاز الطبي والشرطة والنيابة والمحاكم... والتي تقرأون ترجمتها الحرفية في مكان آخر.
(*) ما زال عضو الكنيست أبراهام بورغ ، من حزب "العمل" والرئيس السابق للكنيست، يحذر مما يعتبره "موتًا للمشروع الصهيوني الأصلي" تحت تأثير السياسات المدمرة لليمين الاحتلالي والاستيطاني. وآية ذلك، لا على سبيل الحصر، ما نشره مؤخرًا في "الديلي تلغراف" البريطانية و"يديعوت أحرونوت" وقال خلاله، ضمن أشياء أخرى: " لطالما ارتكزت الثورة الصهيونية على أمرين: مسار عادل وقيادة اخلاقية. لكن أياً منهما لم يعد متوافراً الآن. فالدولة الاسرائيلية تقوم الآن على الفساد والقمع والظلم. وبناء عليه، فإن نهاية المشروع الصهيوني وشيكة جداً. وهناك احتمال كبير بأن يكون جيلنا آخر أجيال الصهاينة. قد تبقى الدولة اليهودية قائمة لكنها ستكون من نوع مختلف، ستكون غريبة وقبيحة"!
(*) أنشأت صحيفة "هآرتس" (الجمعة، 9/4) إفتتاحية ربطت فيها بين ما تفعله سياسة إسرائيل وتأثير ذلك على "الدياسبورا" اليهودية، في إلماح غير خجول إلى الرابطة الوثيقة بين تنامي ظاهرة "اللاسامية" وبين ما تقترفه إسرائيل من جرائم وموبقات ضد الفلسطينيين. وختمت قولها بما يلي:" الرابطة الوثيقة بين تدهور عملية السلام والتصعيد في المناطق (المحتلة) وبين تعدد الحوادث اللاسامية في الشتات تستوجب من أصحاب اتخاذ القرار في اسرائيل أن يأخذوا في الاعتبار إسقاطات سياستهم على مصير يهود الشتات. على هؤلاء أن يتذكروا بأن دولة اسرائيل أقيمت كملجأ لليهود، لا كمصدر إلهام للاسامية جديدة".
وعلى رغم أن هذا الكلام يتضاد، بكيفية ما، مع الرواية الرسمية حول عوامل "اللاسامية الجديدة"، التي تسقط جرائم الاحتلال من حسابها لكي تبقي المسألة في إطار "العداء المتأصل لليهود لمجرد كونهم كذلك"، فإن كاتب هذه الافتتاحية يتغاضى في لاوعيه، إن لم يكن في وعيه التام، عن أن إقامة هذا "الملجأ" ترتب عليه لجوء فلسطيني ما زال مستمرًا.
ولئن كان هذا اللجوء الناجم عن "التطهير العرقي" الذي تعرضت له فلسطين، ولا يزال، بمثابة الخطيئة الأصلية لإسرائيل، فإن سائر خطايا الصهيونية لا تزال تغري بالمزيد من البحث والدراسة. ومن ذلك، مثلاً، البحث الجديد الذي أنجزته دانيئيلا رايخ حول "مبادرة" الوكالة اليهودية، أحد أهم الأذرع التنفيذية للحركة الصهيونية، إلى تجنيد جيش من الفتيات "المضيفات" لإغواء جنود القوات البريطانية وغيرهم من جنود الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، والذي نقدم له قراءة تفصيلية في مكان آخر من هذا "المشهد". في كشوف بحث رايخ ما يكفي من قرائن دامغة على قذارة مسلكية "قيادة الحركة الصهيونية"، حتى في تلك الأيام التي رأى بورغ أنها تميزت ب"مسار عادل وقيادة أخلاقية"! وفي صلب ذلك أن هذه الحركة لم تعدم وسيلة آثمة إلا والتجأت إليها في سبيل دفع مشروعها إلى الأمام. وربما، في هذه المسألة بالذات، لم يختلف الوضع الآن كثيرًا عما كان عليه الوضع آنذاك، وفي مركزه أن "الفرج"، بالمطلق، يحتاج إلى صديق يمكن أن يظل جديرًا بهذا التوصيف "في وقت الضيق".
(ملحق "المشهد الاسرائيلي"، 13/4/2004)
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, يديعوت أحرونوت, هآرتس, الوكالة اليهودية, دولة اسرائيل, اللاسامية, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو