فتحت عملية تل ابيب (5 يناير) مرة واحدة عددا من الملفات المتعلقة بالصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، كانت قد غابت بهذا الشكل او ذاك في ثنايا المعركة الانتخابية الدائرة في اسرائيل، والاستعدادات الامريكية المحمومة لشن عدوان شامل على العراق، يرجح البعض انه قد يبدأ منتصف الشهر الجاري.
وعدا ملف العمليات الانتحارية التي باتت نقطة الضعف الاولى في المجتمع الاسرائيلي، الذي طوّر مع الوقت ومع ارتفاع الوتيرة نوعا من "التعايش" او "المناعة" تجاهها، فتحت ايضا ملفات العمال الاجانب في اسرائيل، الذين راح منهم ستة عمال في عملية الاحد الماضي، علاوة على عشرات الجرحى (تضم تل ابيب وحدها تضم قرابة الثمانين الف عامل اجنبي، قسم كبير منهم تلاحقهم شرطة الهجرة الاسرائيلية، لتواجدهم هنا بطرق غير قانونية). وقتل في العملية ايضا 14 اسرائيليا، وتقول الشرطة ان هناك جثتين لم يتم التعرف على هوية صاحبيهما بعد.
وفتحت العملية ايضاً موضوع إبعاد قيادات فلسطينية عليا وبرأسها الرئيس ياسر عرفات خارج الوطن، مع ان المعلقين السياسيين هنا اكدوا على استحالة مثل هذا الاجراء في الظروف الحالية التي تتحضر لها واشنطن لشن حرب على العراق، على رغم الصراخ المرتفع في اعقاب كل عملية مماثلة، للمطالبة بإبعاد الرئيس عرفات وتصعيد الحرب ضد القيادات والكوادر الفلسطينية المقاومة للاحتلال، وبضمنها كوادر وقيادات "حماس" و "الجهاد الاسلامي" و "التنظيم".
وخلافا لموقف عدد من الوزراء في حكومة شارون المطالبين بتنفيذ الإبعاد، وبرأسهم الوزراء سلفان شالوم وبنيامين نتنياهو وشاؤول موفاز، يجد رئيس الوزراء الاسرائيلي ارئيل شارون نفسه مضطرا للعب دور "العاقل" في هذه الاوضاع، وإبقاء وزرائه أنصار الطرد مع "نصف شهواتهم بأيديهم" كما يقول المثل العبري. وفي ذلك يكتب ناحوم برنياع: " شارون يعرف وهم يعرفون ان إبعاد عرفات الآن، عشية الهجوم على العراق، في غياب الدليل على أي نوع من العلاقة بين السلطة الفلسطينية والعملية، أشبه بإعلان الحرب على ادارة بوش، وهي حرب لا تستطيع اسرائيل السماح لنفسها بها".وبعد ان يشير برنياع الى "ورطة" حكومة شارون ازاء هذا الوضع المعقد، يكتب ان شارون يدرك الورطة التي وصلتها حكومته: فهي لا يمكنها ان تحسم الصراع بالقوة، وهي ليست مستعدة لأن تحاول حسمه بالمفاوضات، وهي لا تريد حسمه بالانفصال الحقيقي، المتصل باخلاء مستوطنات: "انها اسيرة الوضع الراهن، من دون بصيص ضوء في آخر النفق" (يديعوت 6 يناير).
وهناك ملف الحوار الفلسطيني – الفلسطيني الذي فتحته العملية على مصراعيه في الشارع السياسي الاسرائيلي، خاصة وان مباحثات القاهرة بين فصائل المقاومة الفلسطينية، حول ما تردد انه اعلان هدنة من عدة شهور بوقف العمليات الانتحارية داخل اسرائيل مقابل وقف سياسة التصفيات التي تنتهجها حكومة شارون، كانت في اوجها، وبرأي البعض، فقد كانت قريبة من انجاز الاتفاق.
* "كوابيس متسناع"
وبهذه العملية ايضا تحقق ما كان يخافه عمرام متسناع، الذي يعتبر عمليات كهذه كابوسا انتخابيا وقوميا لا يحتاجه احد الان بالذات. فقد اعرب مرشح "العمل" لرئاسة الحكومة عن خشيته ان يكون حزبه قد خسر عددا من المقاعد في البرلمان المقبل. إذ أن عملية كهذه، قد تؤدي الى نتيجتين غير مقبولتين: غضب جماهيري يؤدي الى تحرك "الأصوات العائمة" الى اليمين، وتغيير في العناوين الرئيسية للصحف وانتقالها من قضايا التحقيق في فساد حزب "الليكود"وقياداته الكبيرة الى قصص القتلى والجرحى والعمليات والصراع مع الفلسطينيين.
وكان رئيس حزب "العمل"، عمرام متسناع، قد قال بعد العملية (الأحد): "من المحتمل أننا خسرنا عدة مقاعد الآن، إلا أنني آمل بأن المواطنين سيحكمون عقولهم في عملية الانتخاب". وقد جاءت أقوال متسناع خلال كلمة ألقاها في جامعة تل أبيب، في الساعة التي سمع فيها دوي الانفجارات من الشوارع الجنوبية لمدينة تل أبيب.
وقالت مصادر في حزب "العمل" إنها ستحافظ في الأيام القريبة على هدوء إعلامي وأنها ستخفض من حدة الدعاية الانتخابية السياسية. وأكدت مصادر في مقر الدعاية الانتخابية للحزب إنه لا تنتابهم حالة من الذعر على ضوء التوقعات بنتائج استطلاعات سيئة بتأثير عملية تل أبيب. واضافت: "إن أحد الخطوط العريضة للحملة الانتخابية الخاصة بمتسناع تقول إنه لا يمكن الاستمرار بهذا الشكل، وفي جميع المفاهيم. المواطنون أذكياء بما فيه الكفاية ليفهموا أنه في وضع كهذا يجب التوجه إلى حلول بديلة. وللأمد البعيد، سيفهم المواطنون أنه يجب تغيير الوضع الراهن. صحيح أن تجربة الماضي تدل على أن حزب "الليكود" حصل على مقاعد أكثر بعد وقوع عمليات تفجيرية، إلا أنه لم يكن في السلطة آنذاك. أما اليوم، وبوجود حكومة شكلها حزب "الليكود"، فقد أثبت أنه لا يمكن قطع دابر الإرهاب بالقوة".
وقالت مصادر من حزب "العمل" إنه وبعد عدم اتخاذ الحكومة لقرارات بالخروج بحملة عسكرية بعد عمليتي بيت شآن والقدس، فسيتابع حزب "العمل" قرارات رئيس الحكومة بهذا الشأن، وأضافت المصادر: "هذه الردود لا تفيد ولذلك تنازلوا عنها. ومن الصعب أن نتصور أن يشذ شارون عن عادته ويأمر برد عسكري".
* "السور الواقي" لن تتكرر
وعلى صعيد الوسط الامني قال ضابط رفيع المستوى من قيادة المنطقة الوسطى للجيش الإسرائيلي إن "كل من يتحدث عن تكرير حملة "السور الواقي" فهو، على ما يبدو، لم يعش هنا في العامين الماضيين. فلا تتوفر الآن الأموال اللازمة لإنفاقها على جنود احتياط ولا تتوفر قوات لإرسالها الى المناطق الفلسطينية، والوضع السياسي الراهن لا يتيح لنا الإقدام على عملية عسكرية واسعة النطاق".
لقد كان السيناريو الذي أعقب العملية الانتحارية، (الأحد)، واضحًا ومتوقعًا قبل انعقاد جلسة الطاقم الوزاري في تل أبيب، مباشرة بعد العملية. "لن يُطرد رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات – قال ذلك الضابط - ولن يخرج الجيش الإسرائيلي لتنفيذ حملة عسكرية واسعة ومكثفة، وحالما يُعرف المكان الذي انطلق منه منفذ العملية، سيحكم الجيش قبضته على المنطقة، وسيزيد جهاز الأمن العام (الشاباك) جهوده الرامية لإحباط العمليات".
وأشارت مصادر عسكرية إلى أنه "يحظر علينا أن ننسى أن عبارة مكافحة العمليات تتضمن كلمة حرب، وهناك معارك يمكن أن تنتهي بالهزيمة ووقوع مصابين". وحسب أقوالهم، فإن "المعارك التي انتصرت فيها إسرائيل في الشهور الأخيرة أكثر بكثير من تلك التي انتهت على شاكلة ما حدث في المحطة المركزية في تل أبيب".
يشار إلى أنه اعتقل منذ بداية كانون الأول من العام 2002 في أنحاء الضفة الغربية ما يزيد على 1200 فلسطيني، إضافة الى إحباط عشرات العمليات. وتقول الأجهزة الأمنية الاسرائيلية انها تقاوم ما معدله 50 إلى 60 إنذارًا، أسبوعيًا، وتخرج إلى حيز التنفيذ أسبوعيًا ما معدله عملية واحدة تنفذ بشكل أو بآخر".
* شارون ووزراؤه يتهمون عرفات بعملية تل أبيب
وقرر الطاقم الوزاري المصغر الذي ناقش سبل رد إسرائيل على عملية تل أبيب، على امتداد ثلاث ساعات، تنفيذ عدد من العمليات العسكرية في المناطق الفلسطينية نُـفذ بعضها في ليلة وضوع العملية. كما اتخذ الطاقم الوزاري قرارًا يمنع عقد اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية المزمع عقده يوم الخميس القادم، في مدينة رام الله، بهدف المصادقة على الدستور الفلسطيني.
وانبثق عن الاجتماع الوزاري، أيضًا قرار يمنع مغادرة وفد فلسطيني رفيع المستوى إلى لندن للمشاركة في مؤتمر شرق أوسطي سيناقش الإصلاحات في السلطة الفلسطينية. وقد خطط الفلسطينيون، من خلال هذا المؤتمر، عرض الدستور الفلسطيني الجديد وعرض نيتهم في تعيين رئيس حكومة يكون مقبولاً على رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات.
وقالت مصادر أمنية وسياسية إسرائيلية، قبل انعقاد الاجتماع الوزاري، إنه من غير المتوقع أن يطرأ تغيير على سياسة إسرائيل العسكرية في المناطق الفلسطينية، لكنه من المحتمل أن يتخذ قرار بـ "تكثيف الضغط" على الفلسطينيين وتنفيذ المزيد من الحملات العسكرية في المناطق الفلسطينية. وأضافت المصادر نفسها أن "إسرائيل تقاوم العمليات باستمرار، لكن عملية بهذا الحجم ستلزم دراسة المزيد من الإجراءات".
وقال مقربون من وزير الخارجية الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قبل انعقاد الجلسة، إنه لم يغير من موقفه فيما يتعلق بالطريقة التي يجب وفقها مكافحة العمليات، وهي طرد الرئيس عرفات. وأضاف مقربو نتنياهو إنه ينوي طرح هذا الاقتراح خلال الاجتماع. مع ذلك، ذكرت مصادر سياسية أنه على خلفية الحرب المحتملة ضد العراق، لا يمكن لإسرائيل أن تسمح لنفسها باتخاذ قرارات ذات أبعاد بعيدة المدى، قد تثير العالم الإسلامي وتشوش الحرب الأمريكية ضد العراق. وعليه، لن تتخذ إجراءات خاصة تتعلق بمكافحة العمليات".