بقلم: زئيف شيف
لم تجد علامات الاستفهام، التي ظهرت في أعقاب حرب يوم الغفران، جواباً في تقرير "لجنة اغرانات" الذي نُشر قبل ثلاثين سنة. فالتقرير الذي أعدّه خمسة أشخاص بينهم قاضيان في المحكمة العليا ورئيسا اركان سابقان زاد من حدة النقاشات وأضفى عليها بعدا سياسيا حول مقدار مسؤولية المستوى السياسي عما يجري في الميدان الامني. بل إن أحد الوزراء، اسحق رابين، ذهب بعيداً واقترح على الحكومة عدم قبول التقرير أي عدم تبنّي توصياته.
وقد بقيت سارية حتى يومنا هذا الشكوك حول افتقار التقرير للنزاهة القضائية. والدليل على ذلك هو المحاضرة التي ألقاها الجنرال ايلان شيف، عندما كان رئيسا لمحكمة الاستئناف العليا في الجيش الاسرائيلي. وكان عنوان المحاضرة، "نهاية عهد البراءة"، وقد برهن فيها على ان تقرير "لجنة اغرانات" لم يكن متوازناً في استنتاجاته الشخصية. وأشار ليس فقط نحو رئيس الاركان وقت الحرب الجنرال دافيد العازار وانما كذلك الى وزير الدفاع موشيه ديان. وحجة شيف هي ان اللجنة لم تسمح عملياً لقائد الجبهة الجنوبية، شموئيل غونين، بالدفاع عن نفسه في مواجهة الاتهامات ضده. وتوجه غونين عدة مرات للمحكمة العليا، غير ان طلباته رفضت وعملياً كمّوا فمه.
تفويض محدود
وبنظرة الى الوراء، من الواضح ان الخطأ المنهجي الخطير للجنة نبع من تفويضها المحدود. فالحكومة طلبت التحقيق فقط في بداية الحرب، في الاستعدادات والقرارات السابقة لنشوبها. والنتيجة: فحص ما حدث فقط قبل الحرب وخلال ثلاثة ايام من ايام الحرب الثمانية عشر. وكانت الايام الاولى بالغة الاهمية، لكنها لا تعبر عن النتيجة. ومن هذه الناحية، فان اللجنة بالكاد أنجزت نصف مهمة، وهي تصف فقط صورة جزئية للحرب. وقد نشأ تشويه محتوم في عرض الأمور على الجمهور.
فلماذا يعطي تقرير اغرانات انطباعا عن المفاجأة التي اصابت الجيش الاسرائيلي ولا يقدم شيئاً عن النهوض العسكري النادر له وتغييره الوضع في سيناء وهضبة الجولان؟ ولماذا ركّز التقرير على عبور الجيش المصري لقناة السويس، ولم يكتب شيئاً عن تطويق الجيش الاسرائيلي للجيش الثالث المصري في عملية عبور مضادة لامعة؟ ولماذا ركّز على انهيار خط بارليف من دون الاشارة الى الصمود الناجح لخط المواقع في هضبة الجولان؟ ولماذا انشغل فقط بإخفاقات سلاح الجو في هجماته الابتدائية على الصواريخ المصرية والسورية المضادة للطائرات، وليس بقدرة هذا السلاح إسقاط مئات الطائرات المعادية في معارك جوية؟ وهكذا دواليك.
وقد عمّقت هذه الصورة الجزئية الشكوك بأن المذنبين، قادة الجيش، جرى تحديدهم حتى قبل ان تبدأ اللجنة عملها. وكان من الواجب تقديم ملاحظات قاسية على الفشل الذي تبدّى في بداية الحرب، ولكن من دون الاشارة الى مراحل نهاية الحرب حيث كان الاميركيون والروس يهددون اسرائيل بضرورة وقف اطلاق النار يستحيل تحليل أداء المستوى القيادي في الحرب. واذا كان قد طُلب من اللجنة قصر اهتمامها فقط في مرحلة المفاجأة والفشل، وليس في المرحلة التي أفلح فيها الجيش الاسرائيلي في تغيير الوضع في ميدان القتال، بل وبلوغ مرحلة تمّ فيها وضع دمشق في مرمى المدفعية، والتواجد على بعد مئة كيلومتر من القاهرة، تتأكد الشكوك بأنها ركّزت منذ البداية على البحث عن فشل قادة الجيش. والواقع ان هذا كان التفويض المعطى لها، غير ان اللجنة لم تقل كلمة واحدة عن انها تلقّت تفويضا جزئيا، يمكن أن يشوّه الصورة.
لقد صُدم الجمهور بالحرب، وزاد تقرير اغرانات من الشكوك بأن أحدا كان يسعى لحماية المستوى السياسي. وفي وقت لاحق نشرت امور مذهلة عن التماثل السلبي بين المستويين السياسي والعسكري، حيث تقرر إخفاء وجود خطر الحرب. وقد كشف الكاتب والصحافي حانوخ بارطوف هذه المؤامرة في مقالاته وفي السيرة الذاتية لدافيد العازار. وكان ذلك في الاجتماع الوزاري المصغّر الذي حضره عدد من الجنرالات. وقد أدارت رئيسة الحكومة غولدا مئير الاجتماع، وتقرر ان يتم إخفاء أمر وجود خطر معقول بشن الحرب عن الاميركيين وعن وزراء الحكومة الآخرين. وكانت هناك خشية من انه جراء هذا الخطر سيضغط الاميركيون على اسرائيل للقبول بتسوية مليئة بالتنازلات. وحينها خدم قادة الجيش، وبينهم رئيس الاركان وقادة الاستخبارات، كشهود على قرار عدم ابلاغ الوزراء الباقين بكامل المعلومات الهامة، وعملياً الإقدام على خداعهم. وكانت هذه احدى القضايا الغريبة التي سبقت الحرب وتشهد على طبيعة الحكم في تلك الأيام. ولا يشير تقرير اغرانات بكلمة واحدة الى هذا الاجتماع او الى هذه الظاهرة ابداً، التي تثبت ان المستوى السياسي الأعلى وقادة الجيش كانوا متداخلين في كل ما يتصل بحرب يوم الغفران.
التفاصيل الفنية
ركّز تقرير اغرانات أساساً على الاستخبارات. والوثيقة تشير الى تقصير خطير، جرى تسجيله منذ ذلك الوقت كنموذج في التاريخ الدولي للاخطاء الاستخبارية الكبرى. غير ان تقرير اغرانات لم يفلح في تقديم تحليل فكري حقيقي للتقصير الاستخباري عام 1973. اذ ركز فقط على التفاصيل الفنية للفشل، ولم يكرس سوى حيز ضئيل جدا للبحث في تطور التقدير الخاطئ جدا. فالفشل لم يكن فقط من نصيب ثلاثة او اربعة رجال في قمة الاستخبارات، بل كان هناك شركاء آخرون في التقصير لم يمسسهم التقرير بشيء.
وفي تقرير اغرانات عن الاستخبارات ليس هناك ابطال، عدا اثنين حظي كل منهما، عن حق، بالثناء. المقدم آفي يعري، رئيس فرع سوريا والذي حذّر سوية مع المقدم زوسيا كنياجر عن استعداد الجيش السوري لحرب وشيكة. والثاني الذي حظي بالثناء هو الملازم بنيامين سيمان طوف، من استخبارات الجبهة الجنوبية، والذي حذر من ان الجيش المصري يستعد ليس لمناورة عسكرية كبيرة وإنما لهجوم شامل. وكما هو معلوم، رفضت إنذارات الرجلين، بل ان يعري تعرّض للتوبيخ عندما اتخذ خطوات شخصية في قيادة الجبهة الشمالية.
وكذلك فيما يتعلّق بالتقصير الاستخباري فإن لجنة اغرانات أخرجت المستوى السياسي من دائرة الشبهة. ولكن المقاربة اليوم باتت مختلفة: فمنذ اللحظة التي تقدّم فيها الاستخبارات تقديرها للمستوى السياسي يغدو هذا المستوى شريكاً في المسؤولية الا إذا أعلن انه لا يقبل تقدير الاستخبارات. وما كان كامناً في أساس الخطأ الاستخباري في عام 1973 لم يكن التردّد في التقدير او الزعم بوجود ثغرات في المعلومات، وإنما في الثقة بالنفس ليس فقط تجاه قدرة العدو وإنما كذلك تجاه نواياه. فالاستخبارات رأت انتشار الجيشين المصري والسوري، ولكنها قررت انهما لا ينويان شنّ الحرب. وتمثل احد الدروس الذي استخلص بعد الحرب بوجوب عدم اتخاذ قرارات بعد الآن حول نوايا العدو وفق ما يفكرون، وانما وفق ما يرون. فاذا كان الانتشار خطيرا، فيجب الاستعداد لمواجهته، حتى لو ظننا أن نواياهم ليست الحرب. والذي قاد الى هذا الاستنتاج هو رئيس الاركان الذي جرى تعيينه بعد حرب يوم الغفران، الجنرال مردخاي غور.
ومرة أخرى، عشية حرب الخليج الاخيرة اتخذ القرار بتوزيع كمامات الغاز على مواطني اسرائيل لأن أحداً من القادة لم يكن مستعداً لتحمل مسؤولية عدم فعل ذلك. وهذا ما حدث عشية حرب الخليج الاولى عام 1991. وفي عام 2004 قاد هذا القرار الى توجيه انتقادات للجيش، الذي تصرف وفق المقاربة التي تبلورت بعد حرب يوم الغفران. ويزعم الجيل الجديد الى انه عند النظر في نوايا العدو كان ينبغي إبداء جرأة، وعدم توزيع كمامات الغاز على الجمهور وعدم الانتباه للشارات الميدانية، مثل التدريبات العراقية على طائرات من دون طيار.
الخطأ وعواقبه
ولم تفهم "لجنة اغرانات" ان الاستخبارات اقترفت خطأ كبيرا آخر ذا عواقب وخيمة. فقد أكثروا من الحديث عن الخطأ الاول، وهو "المفهوم". فالفرضية الاساس في المفهوم تمثلت في ان مصر، ومعها سوريا، لن تخرج الى الحرب طالما ليس بحوزتها عدة منظومات تسليحية تتيح لها مواجهة اسرائيل. وواحدة من هذه المنظومات هي طائرات حديثة تتيح لمصر اختراق العمق الاسرائيلي، للردع ولإحداث توازن مع قدرتها الجوية. وكانت لدى روسيا مثل هذه الطائرات لكن موسكو رفضت منحها لمصر. ومنظومة أخرى هي صواريخ ارض ارض متوسطة المدى تستطيع مصر ان تهدّد بها المراكز السكانية في اسرائيل وردع اسرائيل عن مهاجمة العمق المصري كما كانت تفعل في حرب الاستنزاف. ورفض الروس كذلك بيع هذه الصواريخ لمصر.
وبعد اتخاذ القرار بشأن المفهوم، بدأ الخطأ الاستخباري الثاني. فالسؤال الهام الذي كان من الواجب طرحه، ولم يُطرح، لا في الاستخبارات ولا في اية ملاحظة من جانب تقرير "لجنة اغرانات" هو: ان كانت الاستخبارات الاسرائيلية محقة في مفهومها، والمصريون غير مقتنعين بأنهم سينتصرون من دون منظومات السلاح الحيوية، فما الذي سيفعله الرئيس انور السادات؟ هل سيقرر تأجيل الحرب الى ان يتحسن وضع قواته وتتلقى بلاده السلاح المطلوب، كما اقترح عليه وزير الدفاع محمد صادق؟ وان لم يكن على استعداد لابتلاع حبة الدواء المرة هذه، فما هي الخيارات العسكرية الأخرى المتوفرة لديه؟ ولو ان الاستخبارات الاسرائيلية تعمقت في ذلك، لكان من الجائز ان تصف الخيارات الاخرى، وتوفر عليها بناء خطة دفاعية مغايرة لتلك التي كانت للجيش الإسرائيلي.
ولو تعمّقت الاستخبارات الإسرائيلية في نهاية عام 1972، أكثر من الميادين غير العسكرية في مصر لاكتشفت أنه في مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام جرى سجال حول الموضوع. وفي نطاق المركز قدّمت دراسة بقلم نائب رئيس الحكومة المصرية آنذاك، مصطفى خليل، حول كيفية استخدام سلاح النفط أداة في الصراع ضد إسرائيل. وقد استخدم العرب أسلوب المقاطعة النفطية فور نشوب الحرب. وقد سمعت من رؤساء مركز الدراسات هذا، انه بالتوازي مع ذلك بحث المركز في دراسات حول حرب محدودة الأهداف.
وكانت هذه هي رؤية السادات: حرب شاملة مع اهداف محدودة، من اجل احداث تحول استراتيجي.
وقد حاول سلفه، جمال عبد الناصر، تحقيق ذلك من خلال نيران المدفعية فقط في حرب الاستنزاف، وبسرعة تبين له ان النيران وحدها لا تكفي. وكان يظن ان الخسائر ستدفع اسرائيل الى الانسحاب من خط القناة، ولكن خسائره كانت اكبر كما ان جيشه لم يتحمل ضغط سلاح الجو الاسرائيلي. واستخلصت مصر من حرب الاستنزاف الدروس الصحيحة. وبموازاة ذلك تزايد التدخل الروسي، الذي تجلى في وجود عسكري في مصر.
وقال السادات لقادة جيشه ان النيران وحدها لا تكفي. وبالنظر الى موازين القوى، فإنه لم يتطلع الى اهداف كبرى. فقد أراد ان يعبر جيشه القناة وان يحتل فقط مئة متر مربع في سيناء (وهناك من يقتبسون عنه قوله إنه يكتفي بعشرة أمتار مربعة). والشرط هو ان يحتفظ الجيش المصري بهذه البقعة الصغيرة الى ان تفرض القوى العظمى على اسرائيل وقف اطلاق النار. وهو لم يتطلّع الى هزيمة الجيش الاسرائيلي، ولا الى الوصول الى حدود سيناء مع اسرائيل، ولا ضرب العمق الاسرائيلي، ولا تحفيز اسرائيل على التفكير باستخدام السلاح النووي للدفاع عن نفسها. بل يكتفي بمئة متر في سيناء قرب القناة وبهذا الشكل يفلح في تحريك العجلة السياسية، وجرّ اسرائيل الى مفاوضات يكون عليها فيها التنازل عن كل سيناء، وفي ذلك وجد بين قادة جيشه من يدعمه، ويفكر في انه مقابل خسائر كبيرة سوف يفلحون بفعل ذلك ومباغتة الجيش الاسرائيلي.
وهذا كان المفهوم البديل للسادات، الذي لم يلاحظوه في اسرائيل لأنهم جميعهم كانوا مع حرب شاملة ذات اهداف عسكرية واسعة وشديدة فيما فكر السادات بمفاهيم حرب شاملة، ولكن مع هدف اقليمي محدود. وقد حقق هدفه الاستراتيجي، بخسائر إقل مما كان على استعداد لتقديمها. وفي سيناء نجح مفهوم السادات، فيما مُني السوريون في هضبة الجولان بفشل عسكري.
بديل السادات
والمثير للاهتمام هو ان السادات، أخفى مفهومه الثاني ليس فقط عن الاستخبارات الاسرائيلية وإنما كذلك عن السوريين. فقد كان يعلم أنه اذا كشف قبل الحرب لحافظ الاسد ان اهدافه الاقليمية محدودة، فإن الأخير سيرفض الانضمام للحرب. فالسوريون يخشون من انه ضمن استراتيجية كهذه، اذا جرى اقتحام الجبهة السورية، فان السادات سوف يتخلى عنهم. كذلك فإن من الواضح ان من ينتهج سبيلا كهذا يسعى من البداية لتحقيق تسوية مع اسرائيل.
ان الاستخبارات لم تكتشف هذا، و"لجنة اغرانات" لم تشغل نفسها بهذه القضية بعد الحرب. وبغية مواجهة الهدف الاقليمي المحدود للسادات، كان ينبغي إعداد خطة دفاعية مغايرة. وعدم الاعتماد على انه بعد عدة ايام سوف تصل القوات الاحتياطية وتقوم بتغيير الوضع. اذ كان ينبغي بذل جهد اكبر منذ البداية لإفشال اي عبور للقناة. وهذا كان يتطلب وجود قوة إسرائيلية أكبر في المرحلة الابتدائية، من اجل عدم تمكين الجيش المصري من احتلال رقعة أرض لفترة طويلة. وكان يجب كذلك إعداد القوات في خط بارليف بشكل مختلف. فإما إخلاؤه كلياً قبل نشوب الحرب او تكثيف التواجد فيه بشكل يحول دون سقوطه بسرعة. وكل هذه القضايا لم تبحث، لأنهم لم يفكروا في مقاربة استراتيجية كالتي تبنّاها السادات.
والمؤسف أضعافاً، ان الاستخبارات لم تكن على استعداد للتفرّغ بعد الحرب لإجراء تحقيق داخلي. فرئيس شعبة الاستخبارات الجديد، الجنرال شلومو غازيت، أراد ان تتعافى الشعبة بسرعة وان تنشغل بالحاضر والمستقبل. وخشي من أن اللعب بالجراح سوف يمزّق الاستخبارات. والمؤسف أنه لم يقم بتعيين طاقم لجمع المواد وبعد فترة يبدأ الفحص الداخلي.
لقد نهضت الاستخبارات الاسرائيلية من عثرتها في حرب يوم الغفران، ولكن العنوان بقي على الجدار. ليس بسبب تقرير اغرانات وإنما جراء الصدمة التي اصابت الجيش والجمهور. واستعادت الاستخبارات ثقتها بالنفس مع مرور الوقت، وأحيانا بشكل مبالَغ فيه. ولم يمر وقت طويل حتى حاربت جميع أذرع الاستخبارات ضد فكرة تعيين مستشار خاص لرئيس الحكومة لشؤون الاستخبارات وضد تشكيل لجنة وزارية لشؤون الاستخبارات. واليوم، بعد ان توسّعت الجبهة الاستخبارية لتصل إلى دول بعيدة مثل ايران، ليبيا وباكستان، وشملت ايضا وحش الارهاب الاسلامي، تبرز مخاطر المباغتة الشاملة الجديدة، كتلك التي وقعت عام 1973، وربما أخطر منها.
* المعلق العسكري في جريدة "هآرتس"