ما زالت العناصر التي تتألف منها السردية الإسرائيلية حول الانسحاب الأميركي من أفغانستان آخذة في التبلور، ومع ذلك بالوسع أن نشير إلى سيرورتين يبدو من الآن أنهما سترافقان مسار تبلورها: الأولى، عرض وتحليل المصالح الإسرائيلية في ضوء هذا الحدث الكبير، وارتباطاً بآخر الأوضاع الإقليمية والعالمية، والثانية، تجيير الحدث كمسوّغ لمواجهةٍ مواربةٍ مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، كما يفعل محللون وساسة سابقون محسوبون على نهج الحكومات السابقة بزعامة بنيامين نتنياهو، وذلك لغايات عديدة في مقدمها تحقيق حلم استعادة الحكم.
ولعل أبرز عناصر هذه السردية المرتبطة بالسيرورة الأولى، وحسبما تراكم إلى الآن، عنصر التشديد على أنه في كل ما يتعلق بأمن إسرائيل في الوقت الحالي، وإلى الأبد، لا يمكنها سوى أن تعتمد على نفسها وعلى قوة ذراعها العسكرية. وبموجب كتابات كثيرة بشأن هذا العنصر، توقفنا عند أبرزها الأسبوع الفائت، فإن هذه الخلاصة كانت بمثابة فنارٍ اهتدى به جميع زعماء إسرائيل، بدءاً من ديفيد بن غوريون وصولاً إلى نتنياهو.
فضلاً عن ذلك، تتواتر في الأيام الأخيرة تحذيرات من مغبة تصميم الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق أيضاً، وما قد يستتبعه انسحاب كهذا من "تعميق لوجود إيران العسكري والسياسي والإرهابي فيه"، كما كتب رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي السابق يوسي كوهين. ووفقاً لمحللين إسرائيليين آخرين ركزوا على هذا العنصر، فإن العراق يُعتبر بمنزلة البوابة الإيرانية إلى مياه البحر الأبيض المتوسط ما يستدعي التنويه بأنه يقع على مسافة مرمى صاروخ أو طائرة مسيّرة من دون طيّار من الأراضي الإسرائيلية.
ثمة عنصر ثالث في السردية الإسرائيلية يتمثّل في الاستنتاج الذاهب إلى أن الأحداث التي رافقت الانسحاب الأميركي من أفغانستان أدّت إلى تبلور وعي في الحلبة الدولية مؤداه أن ما حدث هو دليل على ضعف أميركي من جهة، وعلى هشاشة الأنظمة التي جرت محاولة هندستها بما يتلاءم مع النمط الغربي من جهة أخرى، وفي مقابل ذلك تتبلور سردية بشأن ما يُوصف بأنه "قوة التحمّل الاستراتيجي للأطراف الجهادية وقدرتها الكبيرة على الصمود وإصرارها". وبموجب ما أشار عدد من الباحثين والمحللين فإن هذا الاستنتاج هو مصدر إلهام لمُعادل هذه الأطراف الجهادية في الساحة الفلسطينية، وخصوصاً حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وأرفق بعضهم تلك الإشارة بالتحذير من احتمال حدوث سيناريو في الساحة الفلسطينية مثل السيناريو الذي حدث في أفغانستان، في حال قيام إسرائيل بإخلاء مناطق في الضفة الغربية في إطار اتفاق مع السلطة الفلسطينية.
وفي سياق متصل تؤكد ورقة تقدير موقف جديدة لـ"معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب أنه من ناحية موضوعية يتعيّن على إسرائيل أن تخطط خطواتها انطلاقاً من الإدراك بأنه حتى لو كانت الإدارة الأميركية مخلصة في تأييدها ودعمها لإسرائيل، فإنه من الناحيتين النظرية والعملية ثمة فرصة ضئيلة في أن تكون هذه الإدارة مستعدة لتوظيف موارد عسكرية في المستقبل في مواجهة تحديات إقليمية بينها التحدّي الإيراني. بموازاة ذلك فإن مقاربة الانفصال عن منطقة الشرق الأوسط يمكن أن تُعزّز، في نظر الإدارة الأميركية، قيمة إسرائيل كدولة قادرة على مساعدة الولايات المتحدة للمحافظة على مصالحها والدفع بها قدماً في المنطقة.
بشكل عام كان بالإمكان ملاحظة أن الكثير من التحليلات الإسرائيلية للانسحاب الأميركي من أفغانستان أعاد إنتاج ما يجوز اعتباره بأنه "حُكم قيمة" من المنظور الإسرائيلي، فحواه أن شعوب العالم الثالث غير مؤهلة بالمطلق لا للديمقراطية ولا للحريّة ولا للعدالة الاجتماعية. وسبق لنا التقدير بأن هذا السلوك تغيّا بدايةً زيادة القناعة في أوساط الرأي العام الدولي بأنه لا قبل للولايات المتحدة وكذلك لأوروبا بفهم هذه الشعوب وإدراك كنه عقليتها واستيعاب مبلغ وقوعها تحت وطأة إرثها، وتغيّا ثانياً تأجيج الإسلاموفوبيا.
ووفقاً لما كتب أحد الأساتذة الجامعيين الإسرائيليين، وهو خبير بارز أيضاً في شؤون الأمن القومي، فإن معظم زعماء الولايات المتحدة في العقود القليلة الماضية تنكروا لحقيقة أن المجتمعات القبلية وما قبل الحداثية في المنطقة لا ترى أن الحياة الجيدة يمكن أن تترتب على تبني قيم الديمقراطية والتسوية والسلام والتعددية ومساواة النساء ورفاهية الفرد وحريته، بل هي تحصيل حاصل هذيان استعادة الماضي التليد، والتعويض عن مشاعر النقص التي تراكمت خلال المواجهة الفاشلة مع العالم العصريّ. ويجدر بنا أن نشير إلى أنه قبل كلام هذا الأستاذ الجامعي بأعوام كثيرة كتب أكاديمي إسرائيلي آخر أنه لا يمكن الوثوق بالديمقراطية لمعالجة مشكلات "مجتمعات مُحرّضة وجاهلة"، في إشارة مباشرة إلى المجتمعات العربية. ولا شك في أن الكثيرين ما زالوا يذكرون كيف أن رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو جزم، لدى انطلاق ثورات "الربيع العربي" العام 2011، وفي سياق خطاب له أمام الكنيست، بأنه لا يسع من وصفهم بأنهم "سُذّج متسلسلون" فهم تلافيف السياسة في منطقة الشرق الأوسط، ونعت العرب أجمعين بأنهم "لا يتقدّمون إلى الأمام في اتجاه التقدّم والرُّقي وإنّما يسيرونَ إلى الخلف"! وكي نبدّد الانطباع الذي قد ينشأ من أقوال نتنياهو هذه بأن مثل هذا التفكير العنصري الاستعلائي محصور في اليمين الإسرائيلي نعيد التذكير بأن إيهود باراك، الرئيس السابق لحزب العمل وللحكومة الإسرائيلية، قال قبل نتنياهو بنحو عقد من الأعوام وفي سياق مقابلة أجراها معه المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في العام 2002، إن المجتمعات العربية الإسلامية هي نتاج ثقافة لا يولّد فيها الكذب أي إساءة أو إخلال بالآداب والقواعد، مؤكداً أن أفراد تلك المجتمعات لا يعانون من المشكلة التي يتسبب بها الكذب في الثقافة اليهودية وفي الثقافة المسيحية. كما أنه بالتزامن مع أقوال نتنياهو السالفة كتب المحرر الأدبي لصحيفة "هآرتس" في ثنايا مقالة له عن مصر، أن المصريين هم شعب رائع فعلاً، غير أن "سرّ سحر هذا الشعب بالذات كامن في كونه لا يعرف ما الذي يريده، وهو ينتظر أن يقرّر له أحد ما من فوق ما الذي يجب عليه أن يفعله"!
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, هآرتس, باراك, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو