كثيرة هي الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد بأن أول اجتماع بين الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، والرئيس الجديد للحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت، الذي عقد في البيت الأبيض يوم الجمعة الفائت بعد أن تم تأجيله بسبب هجوم كابول، جاء لخدمة كليهما على حدّ سواء، ما يفترض أنه تركز في تحقيق هذا الغرض، لا في ما قد يحول دونه أو يضع عقبات أمامه.
ووفقاً لمعظم التقارير ركّز الزعيمان على ما يوحد أكثر مما على ما هو مختلف عليه، وكان همهما أكثر شيء أن يثبتا للعالم أن الخلافات في الرأي لا تفسد للودّ قضية. وقال بايدن إنه ناقش مع بينيت "عملية السلام" بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبحث سبل تحقيق سلام فلسطيني- إسرائيلي بدون أن يذكر حل الدولتين كعادته، مشيراً إلى أن علاقة بلاده مع إسرائيل في أفضل أحوالها. من جهته لم يذكر بينيت أي شيء في الشأن الفلسطيني، ولكنه طلب في الاجتماع عدم إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس المحتلة خوفاً من تفكك ائتلافه وسقوط حكومته. وفي سياق آخر قال بايدن إنه ناقش خططاً للتأكد من عدم تطوير إيران أسلحة نووية، مضيفاً أنه إن لم تنجح الدبلوماسية مع طهران سيتعين اتخاذ إجراءات أخرى، مؤكداً التزام واشنطن الثابت بأمن إسرائيل، بما في ذلك تجديد مخزون منظومة "القبة الحديدية" للدفاع الجوي.
من ناحية بايدن فإن أكثر ما كان يكرثه ربما هو إعادة إسرائيل إلى "بيت الطاعة"، إذا جاز التعبير، بعد أن ظهرت في سياق العلاقات بين الدولتين مظاهر عقوق إبان ولايات حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة، ولا سيما فيما يتعلق بسياسة واشنطن الإقليمية في الشرق الأوسط.
أما من ناحية بينيت فالأمر أبعد قليلاً، حيث أن الخلافات بين الزعيمين لا تقتصر على الملف الإيراني بل تتعداه أيضاً إلى ملف سياسة الولايات الخارجية، وملف القضية الفلسطينية، كما هو معروف وبادٍ على السطح. وما يجب أن يُقال هو أن تفجيرات كابول التي خيمت على اللقاء خدمت أجندة إسرائيل ورئيس حكومتها فيما يرتبط على وجه التحديد بنقطتي خلاف بين الدولتين: الأولى، محاربة ما تصفه إسرائيل منذ ولاية نتنياهو بأنه "إرهاب إسلامي"، والثانية، نية الولايات المتحدة بل يمكن القول تصميمها على الانسحاب من الشرق الأوسط لمواجهة تحديات داخلية وأخرى خارجية من مناطق أخرى وتحديداً من الصين.
بيد أنه إذا بقيت نقطة الخلاف الأولى على حالها، فإنه فيما يتعلق بالثانية لا يسعنا سوى الافتراض بأن إسرائيل أكدت عبر بينيت أنها أفضل من يحافظ على المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط حتى مع وجود الولايات المتحدة فيها، فما بالك عندما تغادرها. كما أنه من المتوقع أنها حاولت وستظل تحاول الدفع قدماً بجهود تعميق سيرورة التطبيع مع مزيد من الدول العربية وفقاً للقاعدة التي عمل على إرسائها نتنياهو: "السلام في مقابل السلام"، ما يصب بشكل مباشر في خدمة سياستها الراهنة حيال القضية الفلسطينية والتي يقف في صلبها نهج إدارة الصراع وإرجاء تسويته حتى إشعار آخر.
يُضاف إلى ذلك كله أن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط يخدم المقاربة الذاهبة إلى أن إسرائيل في كل ما هو متعلق بأمنها لا يمكنها سوى أن تعتمد على نفسها، ومثلما ينطبق هذا على مواجهة إيران (أعلن رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي مؤخراً أن تقدُّم البرنامج النووي الإيراني جعل الجيش الإسرائيلي يسرّع خططه العملانية لكبحه، وأن الميزانية الأمنية التي صودق عليها مؤخراً معدّة لهذا الغرض، كما أن الجيش الإسرائيلي يعمل بصورة ممنهجة وبطرق متنوعة لتقليص نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط)، فهو ينطبق أكثر فأكثر على موضوع تسوية الصراع مع الفلسطينيين. وبالوسع القول إنه في هذا الصدد ثمة تشديد على خلاصة قديمة- جديدة فحواها أنه في كل ما يتعلق بأمن دولة الاحتلال الآن وإلى الأبد، لا يمكن لهذه الأخيرة سوى الاعتماد على نفسها وقوة ذراعها العسكرية. وبموجب ما كتب أكثر من مسؤول إسرائيلي سابق ومحلّل سياسيّ فإن هذه الخلاصة اهتدى بها جميع زعماء إسرائيل بدءاً من ديفيد بن غوريون وصولاً إلى نتنياهو، ولا سيما حيال مسألتين ذواتي صلة: الأولى، إقرار "الحدود النهائية" بحيث تكون "قابلة للدفاع عنها" ما يستلزم الاحتفاظ بمواقع استراتيجية مثل غور الأردن أو هضبة الجولان. والثانية، الحفاظ على مكانة إسرائيل الأمنية في كل المنطقة الجغرافية الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وفي هذا الشأن كتب أحد الساسة الإسرائيليين السابقين أنه من النقطة الزمنية الحالية تبدو تافهة وسطحية خطة جون كيري، الذي شغل منصب وزير الخارجية الأميركي إبان ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، والتي دعت إلى إرساء أمن إسرائيل بواسطة اتفاقيات مع السلطة الفلسطينية، وعبر مرابطة قوات طوارئ دولية من الأمم المتحدة في منطقة الحدود بين الجانبين، ومن خلال تقديم ضمانات أميركية.
لا بُد من أن نشير كذلك إلى أنه منذ بدء ولاية بايدن ثمة انشغال في إسرائيل بالوجهة العامة التي تعتزم الولايات المتحدة السير نحوها في ضوء مؤشرات تدل على أنها على أعتاب تغييرٍ ما في المقاربة المتعلقة بسياستها الخارجية، وما قد يترتب على ذلك من تأثير في سياسة اليمين الإسرائيلي الحاكم. وداخل هذا الانشغال علت أصوات كثيرة أعربت عن ثقتها بأن بايدن ومستشاريه سيعرفون كيف يفصلون بين الثانوي والأساس، وأنهم حينما سينظرون إلى خريطة الشرق الأوسط "سيشاهدون أن هناك دولة واحدة مستقرة وحليفة حقيقية لهم في المنطقة هي إسرائيل"، بحسب ما أكد أحد الدبلوماسيين السابقين. بموازاة ذلك ارتأى عدد من المسؤولين والمحللين إطلاق موسم التلويح بـ"الخدمات الأمنية" التي تقدمها إسرائيل إلى الولايات المتحدة، وتعتبر برأيهم أفضل ضمان لصيانة "العلاقات الخاصة" بين الدولتين في المدى البعيد. وما أمكن استقطاره مما كتبه هؤلاء أن العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل تتسم بطابع خاص لا يقدر عليه حتى أي تبدّل للإدارات الأميركية. ويُشار بهذا الشأن تحديداً إلى أنه منذ هجمات 11 أيلول 2001 تبدو العلاقات الأمنية بين البلدين أوثق من أي وقت مضى، في ظل الخطر الجديد المتمثل بـ"الإرهاب العالمي"، ولكنها كانت وثيقة في ما سبق.
وسبق أن أشرنا إلى أن من بين الأمور التي جرى أعادة التذكير بها في هذا الصدد ما يلي:
أولاً، منذ يوم 27 كانون الأول 1962 قال الرئيس الأميركي جون كينيدي لوزيرة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الوقت غولدا مئير إن "للولايات المتحدة علاقات خاصة مع إسرائيل في الشرق الأوسط يمكن مقارنتها فقط بالعلاقات التي تربطها مع بريطانيا فيما يختص بسلسلة طويلة من المسائل الدولية". وفي أثناء الحرب الباردة (بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق) كانت هناك مصالح استراتيجية مشتركة للبلدين في كبح ما وُصف بالعدوانية التي كانت سمة ملازمة لدول تحت رعاية الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط، ولاحت تلك المصالح في أفق العلاقات الثنائية مع تدخل مصر عبد الناصر في الحرب اليمنية.
ثانياً، في العام 1981 أقدمت إسرائيل على تدمير مفاعل تموز النووي في العراق إبان حكم الرئيس صدام حسين، ما تسبب بمسّ قدراته العسكرية على نحو كبير. وبعد عشرة أعوام، في تشرين الأول 1991، وفي إثر تدخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، شكر وزير الدفاع الأميركي ريتشارد تشيني إسرائيل "على العمل الشجاع والدراماتيكي" الذي قامت به قبل عقد.
ثالثاً، في سياق الشهادة التي أدلى بها أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي يوم 15 آذار 2007 قال الجنرال بنتس ج. كرادوك، قائد منطقة أوروبا في الجيش الأميركي USEUCOM، إن إسرائيل كانت بمثابة "الحليف الأقرب" للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ودعمت المصالح الأميركية "بشكل مثابر ومباشر". وهذا تقدير مهني من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام القائلين إن إسرائيل تشكل عبئاً استراتيجياً ولا تعود بأي منافع على المصالح القومية الأميركية.
رابعاً، بسبب أن كثيراً من الموضوعات المرتبطة بالعلاقات الاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية تلفّها السريّة المُطلقة أو الغموض الكبير، ولا سيما على مستوى التعاون في المجال الاستخباراتي، فمن شبه المستحيل أن يُتاح أمام الدارسين والمحللين إمكان تقويم القيمة الحقيقية لهذه العلاقات. ومع ذلك ففي العام 1986 قال الجنرال جورج ف. كيغن، الذي خدم في استخبارات سلاح الجو الأميركي، إنه ما كان سينجح في جمع المواد الاستخباراتية التي حصل عليها من إسرائيل حتى لو كانت تحت تصرفه "خمس وكالات سي. أي. إيه". ووردت أقواله في سياق مقابلة صحافية في الوقت الذي كانت فيه الحرب الباردة في ذروتها، وأضاف خلالها قائلاً: "إن قدرة سلاح الجو الأميركي خصوصاً والجيش عموماً على الدفاع عن مكانتهما في حلف شمال الأطلسي (الناتو) مدينة للاستخبارات التي تزودهما إسرائيل بها أكثر من أي مصدر استخباراتي آخر"!