مع بداية هذا العام بدأ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار عقده الثالث وقد أصبح في جعبته إرث من الصعب استحصال ملامحه في عجالة، وذلك في طيف واسع من المجالات التي يمكن الإشارة إلى تميزه فيها على نحو ليس مبالغة القول إنه شديد الخصوصية.
ولعلّ ما يستلزم التذكير بهذا الأمر هو ضرورة الاستفادة من التجربة والإنتاج اللذين راكمهما المركز خلال هذه الفترة، ولا سيما من طرف الباحثين وجميع الذين يكتبون في الشأن الإسرائيلي، في سبيل مزيدٍ من هذه المراكمة التي تعتبر أهم تعضيد لعملية البحث ذاتها الآن وفي المستقبل.
ومن الحق أن يُشار في هذا الصدد إلى أن مركز مدار تميّز من ضمن أمور أخرى بقدر كبير من استشراف سيرورات نحا نحوها المشهد الإسرائيلي، وبرز هذا الأمر بشكل ملفت في تقاريره الاستراتيجية السنوية. وإحدى أهم تلك السيرورات تمثلت في محاولة اليمين الإسرائيلي الجديد إحكام قبضته على مفاصل الحكم، والتي نشهد في هذه الأيام نتائجها على أكثر من صعيد، وذلك في ضوء أنه هو من بات يقرّر جدول الأعمال الداخلي في إسرائيل وخطابها السياسي.
ولدى العودة إلى تلك التقارير الاستراتيجية يمكن ملاحظة أنها منذ العام 2010 تحرص سنوياً على إيراد الوقائع المرتبطة بصعود هذا اليمين الجديد، ناهيك عن أنها استشرفت في حينه ما يحدث الآن، منوهة بأن استعمال مصطلح "اليمين الإسرائيلي الجديد"، بما في ذلك من جانب جهات إسرائيلية عديدة، جاء بُغية جملة أهداف منها إقامة حدّ فاصل بينه وبين ما يسمى بـ"اليمين الإسرائيلي التقليدي"، ولا سيما الذي يمثل عليه قادة حاليون وسابقون في حزب الليكود الحاكم. وهذا اليمين الجديد يتألف من تحالف كل من الأحزاب الحريدية (المتشددة دينياً)، والأحزاب المتدينة القومية، والمستوطنين، وأعضاء الكنيست المتطرفين في حزب الليكود، وجماعات قومية متطرفة، وحركات أبرزها "إم ترتسو".
كما أشير في التقارير كذلك إلى أن هناك إجماعاً لدى المتابعين والمحللين السياسيين على أن اليمين الجديد كان يتطلع على المدى البعيد إلى ترسيخ "واقع غير ديمقراطي" في إسرائيل، وإلى أنه نجح من أجل ذلك في أن يصرف نظر الرأي العام عن مسائل مصيرية مثل "عملية السلام"، وفي أن يجعل اهتمام هذا الرأي العام مُنصباً على مسائل أخرى على غرار محاربة نشاط المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان، وتأجيج الهجوم على المحكمة العليا والجهاز القضائي... إلخ.
ومن الباحثين الإسرائيليين الذين برزوا في هذا الصدد البروفسور زئيف شطرنهيل من الجامعة العبرية في القدس (1935-2020) الذي أكد (منذ نهاية العام 2011) أن هذا اليمين الجديد يعمل بذراعين: الذراع العنيفة (الصلبة)، وهي الذراع الاستيطانية، التي وصفها بأنها تحظى بحكم ذاتي إقليمي، وهي مزودة بالسلاح وتفرض سطوتها على الجيش والشرطة، والذراع الأنيقة (الناعمة) التي تقوم بالعمل أساساً في الكنيست. وفي قراءته فإن العنف الفظّ المعربد في الأراضي الفلسطينية المحتلة كل يوم، والذي ينزلق أيضاً إلى الشارع الإسرائيلي، أقل خطراً من نواحٍ كثيرة من العمل البرلماني الهادئ والدؤوب الذي قال إنه "يفرغ بالتدريج الديمقراطية الإسرائيلية من مضمونها"، مضيفاً أن تحويل غير اليهود إلى مواطنين ذوي مكانة أدنى هو الهدف الذي يتوق إليه أغلب اليمين الإسرائيلي، وشدّد على أنه إذا منحت الدولة أفضلية قيمية لليهود، وهي أفضلية ستتدحرج بالضرورة إلى أفضلية سياسية، إن لم تكن اجتماعية واقتصادية، فإنها تكفّ عن أن تكون دولة ديمقراطية. وكان هذا قبل أن تسنّ إسرائيل "قانون القومية" في العام 2018، والذي كتب بعد سنّه أن التجربة تعلمنا أن اليمين لا يعترف بقواعد لعبة بل بالقوة فقط، و"قانون القومية" هو استخدام فظّ للقوة من أجل حرمان مَنْ ليس يهودياً حقوقه، ولذا فهو غير شرعي ويجب محاربته.
وترد في التقارير آراء لباحثين إسرائيليين آخرين عدا شطرنهيل تؤكد في شبه إجماع أن اليمين الإسرائيلي الجديد، العلماني والديني على حد سواء، يتحدّى من وجهة نظرهم المفهوم الجوهري للديمقراطية الليبرالية، ويشمئز من مبادئها ويحتقر قواعد اللعبة فيها، وأن جوهر الثورة الدستورية لهذا اليمين هو ضمان التفوّق المطلق للهوية الإثنية والدينية للقبيلة، ولذا فإن الدولة لا تعتبر وسيلة لضمان مصلحة كل مواطنيها، وإنما إطار يسمح بممارسة تفوّق اليهود على غير اليهود. ويشدّد بعضهم على أنه لا يجوز الخطأ في نيات اليمين، ذلك بأن خطورة التشريعات المعادية للديمقراطية كانت منذ البدء نابعة من واقع أنها مُدرجة في نطاق مفهوم كليّ، وتخدم هدفاً واضحاً، كما أنها جسّدت مرحلة أولى في المعركة الكبرى لتغيير طابع المجتمع والدولة في إسرائيل.